عندما مخرت سفينة السلام عباب بحر هموم السودان تسمرت العيون نحوها، وخفقت لها القلوب تعزف اجمل واحلى ألحان الامنيات بالتوفيق، واطلقت المشاعر زغرودة الفرح، حين طرق سمعها اعلان اتفاق السلام بدا بعدها كل السودانيين يهنئون انفسهم ويتهيأون لاستقبال ابطال السلام ولقد تم اعداد عدد كبير من جميع الوان الطيف السياسي لذلك الحدث المهم حتى يتناسب الاستقبال بعظم المناسبة. وعندما وطئت اقدام الابطال ارض السودان الطاهرة استقبلها الجميع من كل اتحاد السودان المختلفة وجاءوا من كل حدب وصوب وسعدوا كثيرا وصفقوا حتى كادت ان تدمي ايديهم عند سماعهم لكلمة زعيم الحركة العقيد جون قرنق التي سلبت قلوبهم واثلجت صدورهم وبلسمت جراحاتهم وحلقت بهم بعيدا في سماء الاحلام السعيدة.. وان العقيد جون قرنق رجل لا تكفي الكلمات لوصف شجاعته وذكائه وحنكته السياسية واسلوبه الاخاذ في جذب عقول الناس وجلب قلوبهم الا ان الايام لم تمهله كثيرا وما عاش مقاتلا.. ومناضلا من اجل قضية آمن بها وضحى من اجلا احدى وعشرين عاما رحل بعد عودته بإحدى وعشرين يوما فقط تحت صدمة الجميع وذهولهم. هكذا ارادت وشاءت الاقدار ان تبعد عنا رجل السلام الاول وبطلا رفع شعارات السودان الجديد والوحدة الجاذبة التي كنا ننتظر منه تفسيرا وترجمة فعلية لهذين الشعارين .. ذهب قرنق وهاج الناس وماجوا وغرقوا في بحور من الدماء تحت مرأى ومسمع حكومة السلام وكانت تلك بداية غير موفقة للشريكين حيث استباح الفوضويون والمجرمون الخرطوم وفعلوا فيها ما يشاءون وزهقت ارواح بريئة ونهبت اموال طائلة وساد الهرج والمرج..وبعد ان احست الحكومة بفداحة الخسائر في الارواح والممتلكات تدخلت واوقفت نزيف الدم وهدأت العاصفة ولكن متى..؟! ظن الجميع ان صفحات الاحزان والآلام قد طويت وأن الحكومة الجديدة المكونة من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ستحلق بهم بجناحيها بعيدا في سماء الطمأنينة والوحدة والسعادة والرفاهية . ولكن اصاب معظم السودانيين ان لم يكن جميعهم الاحباط حيث انهم فوجئوا بطائر الفأل مهيض الجناح بل يضطرب الحركة بسبب عدم الانسجام والتجانس والتوافق ولم يروا شيئا مما كانوا يحلمون به.. رغم ان قسمة السلام بين المؤتمر الوطني والحركة كانت قسمة ضيزى اذ اعطت الحركة بجانب الحكم الفيدرالي اي توليهم حكم الجنوب وحدهم دون ان يشاركهم في ذلك احد منحتهم ايضا مشاركة المؤتمر الوطني في حكم الشمال ومزايا اخرى كثيرة كان الهدف منها ابداء حسن النية وطي صفحات الماضي الا ان الشريكين لم يهتم كل منهما بالنصف الآخر من الوطن، ولم يكن هنالك التزام بتنفيذ بنود الاتفاقية كما يدعي كل منهما وهذا كان شغلهما الشاغل وسببا اساسيا لانصرافهما عن ادارة شؤون الوحدة بالصورة المطلوبة اذ لم يكن هنالك تعمير او بناء لما هدمته الحرب او اهتمام ملحوظ بالخدمات الخاصة بالمواطن بالجنوب من مستشفيات ومدارس وغير ذلك من طائر الفأل الكسير الجناح بل انصرفت الحركة لتوظيف معظم نصيبها من البترول لتسليح وفتح مكاتب خاصة بها في الخارج وواضح انها تخطط لإنشاء دولة وتهيئ نفسها لما لا يحمد عقباه.. والادهى والامر ان الشريكين لم يبنيا جسور محبة بين الجنوب والشمال وابتعاث رسل سلام ورسم خطط بصورة دقيقة لطي صفحات الماضي الاليمة، وتجعل من الوحدة كما هو الشعار المرفوع وحدة جاذبة اذ ان التقصير من الجانبين كان واضحا ولا تشعر به ادنى شائبة حيث كان يستوجب على المؤتمر الوطني دمج الجنوبيين المتواجدين بالشمال في دواوين الخدمة المختلفة كل حسب شهاداته ومؤهلاته وكذلك ابناء الجنوب من الدراسة بجانب اخوانهم في الشمال بدلا من عزلهم في معسكرات وعيشهم وحيدين هناك ولقد كان ايضا على الحركة الشعبية ان ترد للتجار الشماليين ممتلكاتهم التي سلبت بواسطة منسوبيهم اثناء فترة الحرب لفتح متاجرهم وايضا توفير فرص عمل لإخوانهم الشماليين بالجنوب حتى يحس الجميع بمعنى السلام ويكون لشعار الوحدة الجاذبة معنى وللاسف الشديد طبقت الحركة قانوناً اشبه بما طبقه المستعمر سابقا الا وهو قانون المناطق المغلقة (المقفولة) اذ عانى الشماليون ما لم يعانوا به زمن الحرب ولقوا اسوأ المعاملات بل تعرض بعضهم لأسوأ انواع الموت الا وهو الحرق.. لقد كان من واجب الحركة ان ترد للتجار الشماليين حقوقهم من منازل ومتاجر ومخازن وغير ذلك حتى تبدي حسن النية والعمل من اجل الوحدة لانها لن ترضى ان جاء الانفصال لا قدر الله او بقي السلام وجاءت الوحدة ان تسلب حقوق اهلهم الجنوبيين من جانب المؤتمر الوطني او الشماليين وما دامت الحركة في سدة الحكم فلماذا ترضى لابناء الوطن الواحد كيف كان لونهم او قبيلتهم او دينهم غير ذلك ؟! واظن ان واجب اي حكومة في العالم توفير الامن والعدالة والسلام ونحو ذلك من توفير الحياة الكريمة وليس سلب المواطنين حقوقهم او تمييز بعضهم عن بعض اما السكوت عن ذلك فإنه ظلم بين لا ترضاه كل الديانات السماوية. بعد مضي زهاء اربعة اعوام على توقيع السلام جاءت الانتخابات حسب الموعد الذي اعدته لها الاتفاقية وبعد ان شمرت لها كل القوى السياسية ساعد الجد ووضعت خططها وبرامجها اللازمة لذلك واعدت مرشحها جاءت المفاجأة باعلان معظم الاحزاب لانسحابها التام وشمل ذلك سحب الحركة لمرشحها لرئاسة البلاد ياسر عرمان وكذلك مرشحيها، من كل الدوائر في شمال السودان، وهذه كانت بداية الكارثة وتعني الكثير لمن يقرأون بين السطور ويتنبأون بالمستقبل.. اذ كان ينبغي للمؤتمر الوطني ان يكثف نشاطه في الجنوب حتى يتمكن من كسب المزيد من الدوائر بدلا من الخروج خالي الوفاض لأن لذلك عواقبه الوخيمة في نتيجة الاستفتاء ... ان التاريخ الذي سطر للحركة والمؤتمر الوطني لجلبهما للسلام باحرف من نور انه ينتظر ايضا نتيجة الاستفتاء التي سيتحملها الطرفان وسوف لن يغفل التاريخ في ان يسطر في سجلاته نتيجة هذا الحدث المهم الذي اما ان يبقى بلدا واحدا او مجزءا الى سودان شمالي وآخر جنوبي ورغم ان الصورة واضحة ولا تحتاج الى اعمال فكر او ذكاء الا اننا سنتفاءل خيرا وما قيل تفاءلوا خيرا تجدوه وكم كنت اتمنى لو لم يكن هذا البند موجودا ضمن الاتفاقية لأنه سم قد دفن في طعام طيب لابد انه سيفسد او يقلل من فائدته الصحية.. اقول وحسب معايشتي لإخواننا في الجنوب ان المواطن الجنوبي لا يرضى بديلا عن الوحدة فلقد عشت هنالك منذ نعومة اظافري، وعملت بهذه الارض الطيبة معلما لقد خبرتهم وعشت في اعماقهم انهم لا يكرهون الشماليين لأنهم قد جلبوا لهم الكثير ولكن اطماع السياسيين وبعض انصاف المتعلمين ومن في انفسهم شيئ وينثرون العبارات الغريبة ويزرعون الحقد في نفوس مواطنيهم نحو اخوتهم في الشمال كوصفهم للبعض مواطنين من الدرجة الاولى وآخرين مواطنين من الدرجة الثانية او اولى: الذين يهددون بهدم السودان مثل هؤلاء ليسوا دعاة وحدة وسلام وانما دعاة هدم وجفاء ان مثل هؤلاء اذا تركت لهم الساحة خالية فإنهم سيرجحون بكفة الانفصال واظننا قد اغفلنا في كل سنوات السلام الماضية وعلينا ان نعمل جاهدين مع دعاة السلام من الاخوة الجنوبيين الذين يعلمون مدى اهمية الوحدة بإخراج الاستفتاء بصورة نزيهة ترضي نتيجتها كل الاطراف وقبل هذا وبعده لابد من وضع اتفاقيات لاسكات صوت البندقية اذا لا قدر الله كانت نتيجة الاستفتاء الانفصال والعمل على تحقيق نظام كونفدرالي حتى يعيش السودانيون على امل العودة الى سودان موحد....