ظل جنوب السودان يحلم بقيام كيانه ودولته الخاصة به ، هذا الحلم فرضته دواعى كثيرة منها الإختلاف الجذرى فى مكونات جنوب السودان الدينية والثقافية و العادات والتقاليد والقيم الإجتماعية عن نظائرها فى شمال السودان. لم أشر الى الإختلاف اللغوى و العرقى إيمانا منى ان الإختلاف العرقى واللغوى لا يرقيان ان يكونا عاملا تمييز إذا كان هنالك إحساس وجدانى موحد يستند على مرجعية قيم وتقاليد إجتماعية واحدة.، حتى فى السودان الشمالى بمعناه السياسى نجد أنه متعدد الإاثنيات واللغات ولكن نجد ان القيم والتقاليد الإاجتماعية فى المجتمعات الشمالية متقاربه إن لم تكن متجانسة. لهذا الإاختلاف، فإن المواطن الجنوبى لم يحس ولم يجد أبدا فى يوم من الايام انه ينتمى ويشكل جزءا فاعلا فى المجتمع السودانى العريض لدرجة انه اصبح يرزح تحت الشعور بالدونية والتهميش واحيانا بالتمييز السلبى علما بانه ومن المؤكد جدا انه ليس هنالك سياسة منهجية متعمدة للتهميش او الدعوة للكراهية تجاه المواطن الجنوبى من قبل المواطن الشمالى او من الحكومات المتعاقبة التى سيطرت عليها النخب الشمالية والتى يقع عليها العتب لتهميش الجنوبيين واقصائهم من المشاركة الفاعلة فى السلطة وفى ادارة شئون البلاد وعدم التزامها بعهود ومواثيق ابرمت لأسباب مختلفة منها السياسى والاقتصادى . لا غرو ان هذه العوامل مجتمعه قادت الى الحروب الاهلية التى نعرفها والتى لا شك انها حرمت الجنوبى من تحقيق ذاته و من ان يتمتع الجنوب بالتنمية الاقتصادية والخدمات الاساسية من صحة وتعليم وغيره. كل الحركات الجنوبية المسلحة فى الجنوب هدفها جميعا النضال من اجل قيام كيان خاص بجنوب السودان و هذا الهدف ظل هدفا مقدسا للحركة السياسية فى جنوب السودان دون استثناء,و ما رؤية جون قرنق للسودان الجديد الا تكتيك سياسى بارع وآلية انتزع بهما اعتراف المعارضة السياسية الشمالية التى اطاحت بها حكومة الانقاذ مما فتح له مسالك سياسية ورفده بدعم ما كان له ان يجده ابدا اذا لم يرفع شعار ايمانه بوحدة السودان على اسس جديدة وهو يعلم قبل غيره انها اسس من الصعب جدا تحقيقها فى اطار سودان موحد اغلبيته يشكل الدين الاسلامى واحكامه المرجعية الاساسية لمفصليات الحياة فيه. لقد كانت فكرة السودان الجديد براقة لدرجة ان بعض النخب السودانية الشمالية آمنت بهذا الطرح، بل اقول انها خدعت به، وقدمت دعما سياسيا غير محدود لحركة قرنق اثناء الحرب وبعدها وذلك بانضوائها لعضوية الحركة الشعبية وتقديم المشورة والاستشارة السياسية وخلق علاقات لها مع رموز سياسية من شمال السودان بل فتحو لها ابواب بعض الدول الصديقة للسودان. وعلى سبيل المثال، استفادت الحركة الشعبية فائدة قصوى من خبرات سودانية لها باع كبير فى السياسة السودانية ولها علاقات دوليه كما لها رصيد لا يستهان به فى مفاوضات سابقه بين حكومة السودان وحركة الانيانيا والتى افضت لاتفاقية اديس ابابا. فى أثناء النزاع بين الحركات المسلحة الجنوبية وحكومة السودان وفى النزاعات بين قبائل التماس الحدودى لقد حدثت حدثت انتهاكات كثيرة بين الطرفين، كما يحدث فى كل الحروب، ولكن تبقى تلك التى كان ضحيتها ابرياء جنوبيين لا تفارق ذاكرة و مخيلة الجنوبى وخاصة الساسيين الجنوبيين الذين تعرضت قبائلهم لهذه الانتهاكات مما ولد فى دواخلهم غبنا وحقدا تجاه كل ما هو شمالى واسلامى .هذه المرارات التاريخية القت بكاهلها على سلوك بعض قادة الحركة الشعبية و تحكمت فى اسلوب تناولهم ومواقفهم فى الكثير من القضايا المفصلية الهامة مما عقد حل هذه القضايا. مثل هؤلاء الاشخاص و اشياعهم من الجنوبيين الآخرين مهما قدمت التنازلات من اجل الوحدة فهى فى نظرهم غير كافية اذ انهم لا يستطيعون الفكاك من الغبن والحقد الذى يسكنهم ويتملك افئدتهم ولا شك فى انهم لايجدون الا فى الانفصال عن الشمال فكاكا عنه بل ان هذا الاحساس سيلقى ايضا بظلاله على العلاقات بين الشمال والدولة الوليدة المرتقبة فى جنوب السودان اذا ظل مثل هؤلاء يمسكون بملفات ذات علاقة بشمال السودان بل حتى الدول العربية والاسلامية. وليس ببعيد تصريحات باقان اموم وهو يخاطب حشودا فى بحر الغزال يصف فيها الشماليين بالعرب المستعمرين والمستعبدين للجنوبيين وهو امر محزن ان تصدر مثل هذه التوصيفات من قائد من الصف الاول فى الحركة الشعبية ينتظر ان يكون من رجال الدولة فى جنوب السودان. انه منطق المفارق عينه قوية كما يقال ولكن السيد باقان يبدو انه يجهل ان الجنوب سيظل معتمدا اعتمادا تاما اكثر بعد الانفصال منه قبله على شمال السودان وان مثل هذه التصريحات ستلقى بظلالها سلبا على مصالح دولته. ومهما كانت الاسباب ليس من الكياسة الاساءة لامة بكاملها بهذه السذاجة من شخصية تتبوأ مكانة رسمية رفيعة مثل باقان اموم. ولا اظن بعد الانفصال سيجد الشماليون حرجا فى الرد على مثل هذأ التطاول و الترهات والتى دائما لايتم الرد عليها حتى لا يؤخذ ذلك كذريعة للتمادى فيها من قبل الساسة الجنوبيين،يتم ذلك مراعاة لحساسيتهم الزائدة تجاه الشماليين الذين هم جلابة حينا وتجار رقيق حينا وعرب ومؤتمر وطنى و غزاة استولو على بلاد السودان احيانا اخرى وغيها من النعوت التى ظللنت نسمعها منذ توقيع اتفاقية بيفاشا.
الاتفاقيات السابقة التى تم التوصل اليها لم تستطع ان تخاطب ما يعتمل فى دواخل المواطن الجنوبى،بل انها قدمت معالجات لقضايا سياسية تتمثل فى تقاسم السلطة والثروة فى المقام الاول ولا تأثير لها فى ازالة الاحساس بالظلم الحقيقى والوهمى والمرارت الحقيقية والمتخيله و تجسير الفجوة والتباين فى القيم الاجتماعية بين مواطن شمال و جنوب السودان. ولهذه الاسباب مجتمعة ، ان اتفاقية السلام الشامل لم يكن ممكنا ابدا توقيعها ان لم يكن تقرير المصير ركنا هاما من اركانها لان ذلك ما حارب من اجله الجنوبيون ،ويعضد ذلك تمسك الحركة الشعبية بالاستفتاء على تقرير المصير كشرط أساسى فى الاتفاقية واعتبار حتى موعده امرا مقدسا لا يحتمل النقاش او التأجيل. لو كنت جنوبيا لصوت للانفصال وبصمت بالعشرة لليد الواحدة فى بطاقة الاستفتاء لان هذا ما ينتظره كل اهل الجنوب عموما والحركة الشعبية لتحرير السودان بوجه خاص والتى منذ توقيع الاتفاقية لم تعر اى قضية تهم السودان اهتماما وانحصر جهدها فى الاعداد للدولة المرتقبة فى الجنوب. ونحن فى مخاض الاستفتاء الآن، ان ما عمل من أجله اهل الجنوب وانتظروه طويلا سيتحقق لا محالة وهو قيام كيان دولة جنوب السودان ولا يختلف اثنان ان الاستفتاء فرصة ذهبية نادرة و سانحة تاريخية نادرة وليس من سبيل لتكرارها لتحقيق حلم انتظرته أجيال من الجنوبيون لاكثر من نصف قرن خاضو فيه حروبا عطلت كل مناحى الحياة فى الجنوب ودفع الملايين من البشر ارواحهم ليتحقق. ان كل من كان يقرأ مآلات الاستفتاء بغير ما هى اتية به الآن فانه لا محالة ساذج ولا يعرف ما هو احساس الجنوبى تجاه الشماليين اجمالا ولا يعرف لاى هدف حارب انسان الجنوب . ان العمل من اجل الوحدة الجاذبة – كما جاء فى الاتفاقية - ما كان الا نصا فضفاضا فى الاتفاقية لا يعدو انه يمثل مسرحية مضحكة استمتع بها الجنوبيون لمدة ست سنوات كان العمل من أجل الوحدة الجاذبة عصاة موسى التى ظلت الحركة تجلد بها ظهر حكومة المؤتمر الوطنى بادعاء انها لم تعمل ما يؤسس لهذه الوحدة الجاذبة . نجد فى الاتفاقية تفاصيل دقيقة لامور شتى ولكن للاسف الشديد ليس من بينها ما يفصل ماهية الوحدة الجاذبة ومواقيت الايفاء بها ويقيم مدى الايفاء بمتطلباتها. أذا كانت تعنى التنمية، فان برتوكول قسمة الموارد بشهادة الموفوضية المعنية بالمراقبة وعلى رأسها شخصية غير سودانية أقرت أنه تم تنفيذه وفقا للاتفاقية. الحكومة ليس بمقدورها تحويل الجنوب فى سنيين قليلة لسويسرا افريقيا فى حين ان الحركة تستثمر اموال الجنوب فى بناء ترسانة عسكرية، فالسلام تستديمه التنمية وليس الدبابات والطائرات.
لو كنت جنوبيا ما اظن انى ساسلك دربا غير ما سارت عليه الحركة الشعبية فى لعبتها السياسية والتى اجادت فيها بطريقة ذكية حققت به اهدافها الانفصالية التى وضعتها نصب عينيها واتمنى ان يتعلم منها سياسيو الشمال ان السياسة تحقيق مصالح وطنية بعينها وليست مصالح فردية اوحزبية ضيقة . حتى الجنوبيون فى المؤتمر الوطنى وغير المنتظمين فى الحركة الشعبية الآخرين يتفقون معها فى امر تقرير المصير و دعم خيار الانفصال ، وما يجهرون به من دعم الوحدة فهو غير ما يبطنون، اذ انهم فى دواخلهم قلبا وقالبا مع أهداف الحركة الشعبية وتوجهاتها وما يقومون به ظاهريا ما هو الا من باب وسبيل التكسب والوصول الى الوظائف الدستورية وغيرها من المنافع، ويكفى ذكر ايلسون منانى وغيره كثر كمثال حى وسنرى أغلب الجنوبيين ينضمون للحركة الشعبية بعد الانفصال بعد ان نفذو الادوار المناطة بهم .كما اننا نرى ان لهجة الكثير من السياسيين الجنوبيين قد تغيرت فى هذه الايام فى تصريحاتهم فى الفضائيات بعد ان استبانو من ان امر الانفصال اصبح محسوما .وللأسف الشديد، بدأ ينضح من بين السنتهم ما يدل على الكراهية والحقد الدفين الغير مؤسس على اسباب موضوعية لكل ما هو شمالى وعربى واسلامى وهذا امر لا يأت به عاقل ويجب ان لا ينساقو فى هذا الاتجاه لان له تداعياته فى المستقبل كما ذكرنا اعلاه. بما انى شماليا فما هو خيارى اذا شاركت فى اللاستفتاء، للاسف الشديد اتفاقية السلام افترضت ان أهل الشمال دعاة وحدة ولذا لم يتاح لهم المشاركة فى الاستفتاء لمعرفة خيارهم وترك تقرير مصيرهم ومصير الوطن ليحدده ابناء الجنوب. اتساءل ما هى نتيجة استفتاء الشماليين اذا تم بشكل مواز لاستفتاء الجنوبيين ،أترك الاجابة للقارىء الشمالى والجنوبى. ولو كنت جنوبيا فان خيارى هو خيار الانفصال لأنه خيار اهل الجنوب وبغيره لا محالة سيبدأ تمرد جنوبى جديد الشمال والجنو يطالب بلانفصال. من حق الجنوبيين ان يفرحون ويذرفون دموع البهجة و الفرح - كما فعل سلفا امام عدسات التلفزة العالمية - لتحقق حلمهم بالانفصال او الاستقلال، كما نسمع ونرى فى تلفزيون جنوب السودان ، ولكن فى غمرة هذه النشوة يجب ان يكون الانفصال بداية عهد جديد يكون فيه الرابط بين الشعبين المصالح المشتركة وليس غير ذلك وان يحترم كل منا خيارات الآخر و ندع جميعا العواطف والاحاسيس السالبة تجاه بعضنا البعض. وعلى الساسة و الاعلاميين ان ينضبطو فى خطابهم الاعلامى ويكون الاستفتاء ونتيجته المحسومة سلفا بداية لصفحة جديدة من العلاقات الدولية المتوازنة التى تعود على بالنفع والأمان والطمأنينة على مواطنى الدولتين دون التدخل فى الشئون الداخلية لكل منهم وتجنب كل ما من شأنه اشعال حرب أخرى تجعلنا نرجع للمربع الاول وكأننا لا رحنا ولا جينا. ELSHAIKH IDREES [[email protected]]