٭ ماضي السودان وحاضره ومستقبله.. هذه الجملة الجامعة باتت تشكل مجموعة من الخواطر والهواجس السياسية التي تؤرقني وتؤرق غيري من المواطنين صباح مساء. ليس الغرض من التأمل في محاورها الثلاثة الوقوف على الاطلال أو البكاء على ماضي تليد أو محاولة جلد الذات وتعذيبها وزيادة اوجاعها، فالبكاء وإن كان طبيعة انسانية يعبر عن الحسرة إلا أنه لا يصلح أن يكون منهجاً لاستشراف المستقبل، والانتحاب وجلد الذات لا يمكن ان ينتج فهماً واقعياً لازمات السودان الحالية، لكن حين نقلب اوراق الماضي يجب ان تكون غايتنا هى الخروج بالدروس والعبر اللازمة حتى لا نكرر ونستسنخ عثرات الماضي التي باتت تشكل اوضاعنا الراهنة وبقدر ما يشاع عنا نحن السودانيين من ولع شديد باجترار الماضي والتباكي على أعتابه إلا أننا أيضاً ومع الاسف الشديد اكثر ولعاً باعادة انتاج اخطائنا وخطايانا السياسية رغم كل تلك الدموع وذاك الانتحاب وتكرار الشكوى التي هى لغير الله مذلة! ٭ لقد اورثنا المستعمر وهو يغادر بلادنا دولة مكتملة السيادة وطيدة الاركان تملك المقومات الاساسية للدولة النامية في مجالات التطور والبناء.. خدمة مدنية كانت نموذجاً نادر المثال في القارة الافريقية بأكملها لما تمتاز به من كفاءة عالية وانضباط رفيع ونزاهة مثالية.. مؤسسات سياسية وحزبية تتراوح مواقعها بين اليمين والوسط واليسار وتضم في قياداتها صفوة من المجتمع والكوادر المتعلمة في ذاك الوقت رغم محدودية المؤسسات التعليمية، والتي كان بامكانها ان تنمو وتتطور سياسياً بذات النهج الذي تطورت به المؤسسات السياسية في دولة الهند التي صارت نموذجاً يحتذى في الممارسة الديمقراطية في العالم الثالث رغم التعدد والتنوع الذي تذخر به الهند، والمعروف ان الهند كانت قد نالت استقلالها قبلنا بأقل من عقد من الزمان، إلا ان أحزابنا عجزت وللاسف عن الارتقاء السياسي والتطور المؤسسي والالتزام الديمقراطي.. ورثنا بيئة اقتصادية متماسكة بمعايير ذاك الزمن قوامها مشروع الجزيرة الذي لا يضاهيه مشروع في افريقيا بكل ما مافيه من رقعة زراعية هائلة واذرع من البنى التحتية تشمل المحالج والسكة حديد وميناء للصادر وكانت اقطان السودان في ذاك الزمن تنافس وتتفوق على مثيلاتها من الاقطان المصرية والامريكية الى جانب العديد من المنتوجات الزراعية النقدية الاخرى، وفوق ذلك خزينة رصيدها من المال 06 مليون جنيه استرليني.. ورثنا نظاماً قضائياً تسوده معايير الكفاءة المثالية والنزاهة المطلقة وكان القضاة السودانيون مع مشارف لاستقلال مؤهلين لا لاعتلاء منصة القضاء في السودان فحسب وإنما في محاكم بريطانيا العظمى بجلالة قدرها في ذاك الزمن.. ورثنا قوات نظامية من جيش وشرطة شكلتا مؤسسة عسكرية في غاية الانضباط والمهنية الرفيعة الى ان تدخلت السياسة وأهل السياسة فعصفت بتلك المعايير.. ولا ننسى من هذه التركة الايجابية مجالات الصحة والتعليم، إذ بالرغم من محدودية مؤسسات التعليم والعلاج إلا أن الكفاءة العالية كانت عنوان هذين المرفقين ولا غرو أن جامعة الخرطوم في ذاك الزمن كانت تعد مفخرة الجامعات الافريقية وأطباء السودان كانوا زبدة الأطباء في العالم الثالث.. كان المجتمع السوداني متماسكاً وكان واحة للتعايش بين مختلف الاعراق والاجناس .ظليلة ووارفة يسودها التسامح الذي هو قيمة انسانية رفيعة، بل تعدى هذا ليصبح من شوام واغاريق وقبارصة وحتى اليهود يلتقون في المناسبات والاعياد من كافة اصقاع المعمورة هنا في بلادنا بحسبانها اكثر بلاد العالم امناً واماناً ويجدر بنا هنا ان نذكر ان الارمن وهم اكثر شعوب الارض تشتتاً في العالم كانوا كل هؤلاء القوم اتوا الى السودان بخبراتهم واموالهم وكان من المألوف أن تراهم في ليل الخرطوم يحتفلون باعيادهم الدينية وسط أهل السودان.. هكذا كان السودان ظلاً هانئاً وواحة أمن وأمان.. كانت الجنة مثواها فضاعت من يدينا. كان ذاك وغيره هو الميراث، صحيح أن المستعمر ما وضع تلك اللبنات امتثالاً لعاطفة أو معايير اخلاقية، ولكن كانت المحصلة النهائية أن تلك (الاصول) وذاك الميراث قد آل الى هذا الوطن وشعبه بفعل نضال أبنائه وكفاحهم. فماذا ترانا فعلنا بذاك الميراث والرصيد المقدر الذي وجدناه بين ايدينا صباح الاستقلال المجيد؟ لقد بدأت جرثومة الشقاق الوطني والتدخلات الاقليمية والدولية الفتك بالجسد السياسي السوداني مع مطالع ذاك الاستقلال، فانقسمت الاحزاب الوطنية الى كفتين.. واحدة اتحادية وأخرى استقلالية، ورغم توافق الكتلتين آخر الامر على الاستقلال إلا ان جرثومة ذاك الخلاف ما زلنا نحصد آثارها الى يومنا هذا. واذا امعنا النظر في نشأة الحزبين الكبيرين الاتحادي والامة، فإننا لا نجد تبايناً كبيراً بين الغايات المشتركة والمتمثلة في الخلاص من المستعمر، إلا أن تدخل الاذرع الاقليمية والدولية فاقم من ذاك الخلاف. وعلى صعيد أزمة الجنوب والتي باتت توصف اليوم بأطول حرب أهلية في افريقيا.. هذه الازمة ما كان لها أن تستفحل لو استجابت النخب السياسية لمطالب القيادات الجنوبية في مؤتمر جوبا الشهير (7491م) والتي أعلنت رغبتها في البقاء في الوطن الواحد الموحد فقط مقابل النظر في خصوصية وضع الجنوب. لقد برز الحزب الوطني الاتحادي عقب أول انتخابات (ديسمبر35) وعبر قياداته ك(قوى سياسية حديثة) تمثل النخب المتعلمة وشريحة الطبقة الوسطى.. الشريحة الاكبر والاكثر تأثراً في ذاك الوقت، واستطاعت هذه النخب أن تحدث تأثيراً هائلاً وجاذباً يفي قطاعات الشعب المختلفة والفاعلة، مما أثار حفيظة القوى التقليدية التي تستند الى الطوائف الدينية فكان ان استشعرت تلك القوى الخطر من هذا الامر، وكان نتاج هذا التوجس لقاء السيدين الشهير في 5591م والاستقلال في متناول اليد ولم يبق سوى بضعة أشهر لقضاف ثماره، وادى ذاك اللقاء في النهاية بحياة الحكومة الوطنية الاولى التي سقطت في يوليو 6591، أي بعد ستة أشهر فقط من اعلان الاستقلال لتحل محلها حكومة السيدين، والتي جاءت كنتاج طبيعي للقاء السيدين الشهير.. ذاك اللقاء الذي وصفه السيد محمد أحمد محجوب ب(أكبر كارثة في تاريخ السودان الحديث). جاءت الانتخابات الثانية في 8591م فحاز حزب الامة على صدارة مقاعد البرلمان بما يفوق الستين مقعداً ونال الوطني الاتحادي 64 مقعداً، بينما الحزب المنشق عنه والمسنود بطائفة الختمية (حزب الشعب) حاز على 62 مقعداً يرى المراقبون في ذاك الوقت أن الحزب الاتحادي على رغم خسرانه الحكم بتلك النتيجة إلا انه كسب مبادئه كقوى سياسية جديدة نازلت القوى التقليدية في زمن كانت شوكة الطائفية في أوج قوتها وبأسها. إن هذا المثال.. مثال الحزب الوطني الاتحادي في انتخابات 85م نظل نكرره ونعيده لأنه يعطي درساً مفاده أن التفاف الشعب حول حزب ما لا يكون دائما رهيناً ببقاء ذاك الحزب في مقاعد السلطة، وأن المعارضة متى ما خاطبت العقل السياسي للمواطن فلها أن تكون فاعلة ومؤثرة حتى وهى خارج السلطة ولعل من المفيد ان نذكر ان الحزب الاتحادي قد حاز على اغلبية اصوات الناخبين وعلى 08% من دوائر المدن والحضر، ولكنه لم يحصل على اغلبية مقاعد البرلمان. هذا المفهوم هو مفتاح الحل لازماتنا المتلاحقة التي انفقنا سنوات وحقباً سياسية متصلة ونحن نبحث عنه .إن ربط الكسب السياسي بالوصول للسلطة والفزع والرعب من الإقصاء من ظلها هو الذي جعلنا وجعل وطننا وشعبنا بأكمله وقوداً لتلك الدائرة الجهنمية التي تتبادلنا فيها الانظمة العسكرية والمدنية. إن ولوج الجيش للساحة السياسية لم يأت من داخل الثكنات العسكرية وإنما تسرب هذا الداء الى داخل صفوفه عبر الأبواب والنوافذ الحزبية، ولا حاجة لنا لاستعراض تلك المحطات التاريخية سواء في 71 نوفمبر 85، أو في 52 مايو 96، أو في 03 يونيو 98.. فكلها تقف شاهداً على هذا الاقحام. إن حقبة الديمقراطية الاخيرة والتي عايشناها في عقد الثمانينيات تقف هى الاخرى شاهداً على هشاشة وبؤس المؤسسات الحزبية، والضعف المريع الذي لم يمكنها حتى من الحفاظ على المناخ الديمقراطي، حيث فقدت السلطة في بضع سويعات رغم ان كل المؤشرات كانت تشير الى إنتهاء أجلها ونفاذ صلاحيتها. واذا طوينا كل ملفات الماضي وعدنا الى حاضرنا اليوم بكل مافيه من أزمات بالغة التعقيد.. أزمات دفعت البعض الى الجهر بضرورة ابتداع معادلة جديدة للحكم في السودان تتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة التي يمكن ان تفرزها نتائج الاستفتاء القادم. ما هى طبيعة هذه المعادلة المطلوبة؟ وما هو البديل؟ لا اعتقد ان احداً يملك اجابة على هذا السؤال حتى في اوساط من ينادون بها. فالتأمل في صفوف المعارضة يغني حتى عن مجرد طرح السؤال، ولا نرى في الافق بروز قوى جديدة مثل تلك التي افرزها مؤتمر الخريجين في مخاض ما قبل الاستقلال وفي السنوات القصيرة التي تلته، إلا اذا استثنينا الحركات المسلحة المستندة على اطروحات عرقية وقبلية وجهوية والتي تشكل في نظرنا بديلاً عقيماً لن يفضي إلا لمزيد من الخراب والدمار وتقطيع اوصال الوطن، بحكم ارتهان تلك الحركات لمطلوبات الاستراتيجيات الدولية أكثر من التزامها بلافتات التهميش وعدالة اقتسام السلطة والثروة والتنمية التي ظلت ترفعها وتتوارى خلفها. إن ركون القوى السياسية بأكملها الى التنصل من الاوزار السياسية وتعليقها في رقاب بعضها البعض هو هروب من مواجهة العواصف السياسية القادمة، إذ لا يكفي الحرص على إبراء الذمة السياسية وحيازة صكوك حُسن السير والسلوك السياسي.. لا يكفي لاعفاء الكل من الاسهام في هذا المناخ السياسي البائس، هو مناخ لم تنتجه الانقاذ وحدها بل هو امتداد لتركة متراكمة من الاخفاق السياسي نحمل جميعنا اوزارها. إن الشروع في صياغة جديدة لمعادلة الحكم في السودان يجب أن يبدأ بمراجعة التركيبة السياسية لكافة الاحزاب والقوى السياسية، فالعطاء السياسي لن يتأتى من أحزاب تعاني الجدب والخواء والافتقار الى ابسط مقومات المؤسسة الحزبية، إن من لا يملك بذاراً جيداً لم يحصد سوى الشوك وقديماً قيل (فاقد الشيء لا يعطيه). لقد فقدت كافة أحزابنا السياسية التواصل مع جماهير الشعب، فهى في واد والناس في واد آخر.. يتفرجون على مسرحية لا يعنيهم منها إلا كساد حالهم وفقر معيشتهم الى جانب حزن عاطفي على تناقص رقعة الوطن.. لا شيء سوى هذا بسبب غيبة التواصل ما بين النخب والشعب. إن أى حزب لا يملك تأثيراً على الشارع هو حزب ميت وإن تعددت منابره وتكاثرت دوره وعلت أصوات قادته بالتصريحات في الصحف ووسائط الاعلام. تلك هى المعادلة المطلوبة وهذا هو النهج الذي يفضي الى ابتداع نمط جديد للتركيبة السياسية في البلاد. نهج حزبي يستجيب لضرورات العصر ويستحدث خطاباً سياسياً عصرياً لا يركن الى اجترار الماضي واستنساخ اخطائه وعثراته.. نهج يخاطب القوى الفاعلة في المجتمع مثل قطاعات الشباب والمرأة وشرائح النازحين ويمتص كافة النعرات القبلية والجهوية عبر فتح أبواب المؤسسات الحزبية على مصراعيها أمام هذه القطاعات.. نهج يخاطب مشاكل الناس الحياتية المتمثلة في الفقر وكساد أسواق العمل وانسداد أبواب الرزق والمعيشة الكريمة.. نهج لا يجعل من الحزب إرثاً عائلياً متوارثاً تحتكره بعض البيوتات والشلل المغلقة التي يستحيل اختراقها والتي باتت مثل خلايا الماسونية في انغلاقها وتكتمها. إن كانت المعادلات في علم الكيمياء تقوم على الرموز الكيميائية، فإن المنطق يقول إن أية معادلة جديدة تتطلب رموزاً جديدة.