٭ جاء بالقول الفصل وقطع حينها قول كل خطيب، وكأنه بذلك وضع حداً فاصلاً لسيناريوهات تنفيذ بند الترتيبات الأمنية المنصوص عليه في اتفاقية سلام دارفور بين الحكومة وحركة جيش تحرير السودان، ألا وهو مفوض مفوضية الترتيبات الأمنية بالسلطة الانتقالية الفريق الدابي، نفضت كلماته الغبار عن مماطلة رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي حول الملف الشائك والمعقد الترتيبات الأمنية فبين تمسك مناوي بقواته ورفض دمجها، وبين إصرار الحكومة على الالتزام بإنفاذ كل بنود اتفاقية أبوجا.. وقفت كل الجهود لحين إشعار آخر.. فالرجل الممسك بزمام الملف أخرج هواءً ساخناً يظل يجثم على صدره طيلة أربعة أعوام ونصف العام عن .. وعن .. «الصحافة» جلست إليه وحاورته في كثير من ترتيبات الإنفاذ ومعوقاته.. وجاءت إجاباته على الرغم من حساسية الملف وسخونته والوقت الحرج الذي تصاعد فيه، جاءت غير مختزلة وواضحة. ٭ الترتيبات الأمنية بند أساسي في إتفاقية أبوجا، لكن آلية إنفاذه تسببت في كثير من التصعيد بينكم ورئيس حركة تحرير السودان مني مناوي، ما هو السبب الرئيسي وراء مسلسل التصعيد ذاك؟ رفض مناوي المتواصل لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية وهي المحور الأول من محاور اتفاق سلام دارفور، يليها محور السلطة، ثم الثروة، والمحور الرابع والأخير الحوار الدارفوري الدارفوري، فمن المفترض البدء بالترتيبات الأمنية لكي نضمن سلاماً يرسخ للسلطة والتنمية والاستقرار، ومن ثم يأتي الحوار كآخر مرحلة، لكن للأسف لم يتم ذلك، ليس لتقصير من الدولة، ولكن لأن عقلية مني القادم من تمرد لم تكن مستعدة في ذلك الوقت لتسليم جيشه، ويأتي بعد ذلك مجرداً من السلاح، لأجل ذلك تم البدء ببند السلطة، وتم تعيينه رئيساً للسلطة الانتقالية بدارفور وكبير مساعدي رئيس الجمهورية لتبديد شكوكه، غير أنه ظل يماطل في إنفاذ الترتيبات الأمنية لتحقيق مزيدٍ من المكاسب في الملفات الأخرى. إضافة إلى أن لديه عقيدة في أن الاحتفاظ بقواته يمكنه من تأمين وظيفته، ونحن ارتضينا كل ذلك واستمررنا في التحاور معه بدءاً بمؤتمر «القرين فيلدج» بحضور المرحوم مجذوب الخليفة، واتفقنا وقتذاك على إنفاذ الترتيبات الأمنية، وإزالة كافة العوائق في البنود الأخرى. لكن استمر الحال ولم يتم العمل بما اتفق عليه، ولم يكن ذلك برفض صريح وإنما بمراوغة من مناوي «نحن جاهزون.. أعطونا فرصة نعلم قواتنا في الميدان ونرد عليكم». بعد ذلك مارس مناوي اعتكافاً مع قواته لمدة أربعة أشهر بعد الهجوم الذي شنته حركة العدل والمساواة على أم درمان عام «2008م» مما حدا بنائب رئيس الجمهورية للذهاب إليه في الفاشر وتوقيع ما عرف ب «المصفوفة» لإنفاذ الترتيبات الأمنية، لكن مناوي مارس المراوغة مرة أخرى وطلب مهلة ثلاثة أشهر لتنوير قواته ومن ثم وضع الخطة، واستمر الحال هكذا حتى نهاية عام «2009م»، وتم بعد ذلك اجتماع حاسم مع نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه وكبير مساعدي الرئيس، تم فيه إصدار توجيه مباشر لمفوض الترتيبات الأمنية بوضع خطة للإنفاذ بواسطة لجنة مشتركة من الطرفين، لكن مناوي رفض التوقيع عليها وطلب الكثير من التعديلات غير الجوهرية بلغ عددها «26» تعديلاً، علماً بأن من وقعوا من طرفه وقعوا بعلمه وبعد أخذ رأيه. وبعد ذلك وقعت الخطة بموافقة مني ونائبه في 8/4/2010م، وحُدد يوم 21/5 للإنفاذ، لكن رفضت حركة تحرير السودان بحجة أن حركة العدل دخلت دارفور، ومن غير الممكن تسليم القوات تحسباً لهجمات العدل، ورجعنا الخرطوم وتم تشكيل لجنة مشتركة ترأسها دكتور الريح من الحركة وكمال عبيد من المؤتمر الوطني، وتم تحديد موعد جديد مطلع شهر يونيو، وعندما حان الموعد وذهبنا إلى الميدان تحججوا بحلول فصل الخريف، وطلبوا موعدا جديدا في السادس من أغسطس، وذهبنا عندها حتى منطقة أمبرو وهي مقر رئاسة الحركة، وللمفاجأة بلغنا رئيس الأركان أن لا علم له بالخطة ولا التنفيذ ولم يبلغه أحد، كأنما يلعبون بأنفسهم وليس بنا لعلمنا بكل شيء، وفي تسلسل جديد لتمديد الزمن طلب منا ثلاثة أشهر أخرى، ونتيجة توافق سياسي تم قبول التمديد، لكن مع التنقيص شهر واحد ويكون الإنفاذ 6/10، وقبل ذلك بيوم واحد اتصل بي رئيس الأركان وطلب عشرة ايام أخرى لتجهيز القوات، وعند التاريخ المحدد 15/10 قال رئيس الأركان إن هناك تمرداً داخل حركته ويريد أسبوعاً آخر لحين يوم 22، ووقتذاك حدث انشقاق مجموعة الإصلاح داخل حركة مناوي، وانتظرنا حتى اليوم المقرر، لكن في مساء يوم 22 من أكتوبر تلقيت اتصالاً من رئيس الحركة مني مناوي من جوبا يخبرني فيه أن رئيس هيئة الأركان يشعر بالخجل مني لكثرة طلبات التمديد التي طلبها ووافقته عليها، وهو الآن طلب وساطتي حتى تمنحه خمسة أيام، فوافقت على ذلك، وأصبح الموعد الجديد يوم السابع والعشرين، وبالفعل جاءوا إلينا يوم ثمانية وعشرين، وتم الاجتماع، وفي أول الجلسة طلب «36» يوماً إضافية، وقطعاً أنا رفضت وقلت له أعطيك مدة عشرة أيام فقط. واتصل بي مناوي لثاني مرة من جوبا وطلب أن يتم التوصل لاتفاق، وبتوجيهات منه دخلنا في مساومة لعدد أيام المهلة، وأصبحت «16»، وبعد ذلك وقعنا مذكرة توافق لإنفاذ بند الترتيبات الأمنية يبدأ في السادس عشر من نوفمبر، لكن شيئاً لم يتم، فعند ليلة السادس عشر أجريت اتصالات من دون رد، فشددت الرحال إلى الفاشر ومكثت خمسة أيام أحاول فيها الاتصال برئيس الحركة الذي امتلك له خمسة أرقام هواتف، جميعها مغلقة، وعندما يفتح الخط يرد أشخاص غير الشخص المطلوب، وكذا الحال بالنسبة لرئيس هيئة الأركان، وأيضاً بالنسبة لنائب من الحركة هو خالد أبكر، لكن كل المحاولات فاشلة، وبعد ذلك أعلنت في مؤتمر صحفي في مدينة الفاشر لأهل دارفور أن حركة تحرير السودان غير جادة في إنفاذ بند الترتيبات الأمنية ولا ترغب، وتزامن ذلك مع البيان الصادر عن مناوي من جوبا الذي أعلن فيه رفض الإنفاذ. ٭ وما هي تلك التعديلات التي طلبها مناوي ووافقتم عليها.. هل كانت منح رتب معينة لقواته؟ تعديلات بسيطة في جوهر الخطة وتمت الموافقة عليها، وهي كثيرة ولا استطيع أن أرصدها الآن، مثلاً تعديلات في مسميات وأشياء هامشية وليست أساسية في جوهر الخطة، وتمت الاستجابة لها ووقعت، وربما إن لم يوقعوا عليها يمكن أن نعتبرها نقطة الخلاف، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بالتالي لم تكن المشكلة في الخطة، وإنما في العقلية التي من المفترض أن تنفذ معنا هذه الخطة. ٭ لكن ألا ترى أن مناوي استفاد من وجوده في السلطة، ومماطلته في الإنفاذ مدة أربعة أعوام ربما تكون مكنته من تقوية قواته بصورة أكبر؟ حركة مناوي منذ أربع سنوات وحتى الآن فقدت أكثر من «70%» من قدراتها وإمكانياتها البشرية، فجزء من قوات الحركة تمرد وكوّن حركات جديدة والآن موجودة في الدوحة للتفاوض، وجزء آخر انضم لحركة العدل والمساواة، وآخرون تركوا القتال بصورة نهائية، بالتالي حركة مناوي خلال فترة مشاركته في السلطة لم تتمكن بل فقدت الكثير من قوتها، ولا نتوقع لها أية نجاحات مستقبلاً، لأن القوات الموجودة الآن مع مناوي ولأربعة أعوام ظلت مرابطة في معسكرات دون أية وضعية تذكر، وهم يعولون أسراً ولديهم أبناء، فكون مناوي تركهم يحملون السلاح لحمايته وهو موجود في الخرطوم يمتطي السيارات المرسيدس «الشبح»، اعتقد أن ذلك واحد من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها الحركة في نفسها. كما أن الحركة بدأت تمارس نتيجة الظروف التي تعيش فيها ممارسات غير أخلاقية، مثل عمل أتاوات وقطع الطرق والاستيلاء على سيارات بما فيها سيارات اليوناميد، وممارسات نهب مسلح أكثر من أن تكون ممارسات حركة راشدة، مما خلق نوعاً من الكراهية والحقد لأفراد الحركة في دارفور. ٭ ولماذا صبرت الحكومة على كل تلك الممارسات من قبل الحركة؟ كان ذلك من أجل السلام، وكان من الممكن للحكومة حسم هذا الأمر منذ العام الأول لاتفاقية أبوجا، لكن لرغبتنا في السلام والاستقرار لأهل دارفور صبرنا، كما أن هذه الاتفاقية متكاملة ولا توجد فيها عيوب، بدليل أنها أضحت أرضية لكل المفاوضات التي تمت بعدها حتى مفاوضات الدوحة، وبالتالي فإن الحكومة لا ترغب في إثارة مشكلة تؤدي لعدم الاستقرار في دارفور. ٭ الحكومة دائماً تنظر للحركات الدارفورية المسلحة بأنها طامعة في السلطة وتركز على تلك النقطة أثناء التفاوض.. ألا تعتقد أن الخطأ هو خطأ الحكومة كونها منحت مناوي السلطة دون أن يلتزم بإنفاذ أول بند في الاتفاقية الترتيبات الأمنية وها هي الآن تجني ثمار ما منحت؟ لا تصل لدرجة الخطأ، لأن حُسن النية كان متوفراً في ذلك الوقت، لأن الجميع وصل لسلام والاتفاق سيُنفذ، لكن للأسف الشديد لم يحدث ذلك، وأصبحنا أمام خيارين إما مقاتلة هذه القوات في الميدان وتجريدها من السلاح، وإما الاستمرار في الحوار، والتجريد قد يخلق آثاراً سالبة في دارفور وعدم استقرار، كما أن ذلك يعني عدم التزام من جانب الحكومة باتفاقية أبوجا، وأيضاً رأينا أن الحل الأمثل هو الحوار المتواصل، ونحن على قناعة أننا سنصل في يوم ما لصيغة توافق، لكن هناك قوة معادية للسودان تدفع أبناء السودان لمعاداة أهلهم، وبما ما تملكه من قدرات وأساليب أدت لتغييب الحس الوطني عند حركة تحرير السودان. ٭ مازالت لمني أركو مناوي قوات في الميدان.. هل لديكم إحصائية محددة بعدد قواته بعد التشرذم الذي أشرتم إليه؟ لا توجد لدينا إحصائية بالمعنى المعروف، وما أتحدث عنه الآن هو قبل إنسلاخ مجموعة تيار الإصلاح في الحركة، والحركة فقدت رشدها في الميدان، وأنا أقولها بملء فيَّ أن معظم قادة حركة جيش تحرير السودان يجهلون ما يجري في الساحة وما يتم من اتصالات مع الحكومة، واتضح ذلك عندما ذهبت للفاشر لتوقيع وثيقة التوافق، فالخطة التي وقعت قبل عام عندما عرضتها عليهم تفاجأت بأنهم لم يروها من قبل ولم يسمعوا بها، وهناك تغييب كامل لقوات الحركة ما عدا رئيس الأركان وربما قائدان من الكبار، وحتى قوات الحركة حينما طُلب منها التحرك نحو الجنوب لم تكن تدري إلى أين هم ماضون، لذلك لا أتوقع إن اختار طريق القتال مرة أخرى أن يحرز شيئاً، لأن القوات التي يقاتل بها انتظرت أربعة أعوام دون أمل. ٭ لكنها استجابت وانسحبت معه جنوباً؟ أتوقع أن يتساقط من بقي معه، فمناوي مكث في السلطة قرابة الخمس سنوات ولم يفعل لقواته شيئاً، وكان من الممكن أن يصحبوا جزءا من القوات المسلحة أو الشرطة، والآن يريد أن يدخل بهم حرباً جديدة من أجل ماذا هل من أجل السلطة؟ وسبق أن وصل مناوي إلى السلطة فماذا قدم لهم، هذا سؤال جوهري لا يستطيع الإجابة عليه إلا شخص راشد وبعقلانية، لكن وللأسف رئيس الحركة لم يفكر في تلك الخطوة التي ستكون بمثابة الانتحار له. ٭ لطالما أرسل مناوي رسائل واضحة ترمز للعودة لخانة التمرد، فكلما رفضت الحكومة في الخرطوم الاستجابة لمطالبه يحتمي مباشرةً بقواته في الميدان.. ألم يكن ذلك مرصوداً من الحكومة وهو يستعد للتمركز في ما تسميه الحركة الشعبية الجنوب الجديد للسودان بعد الانفصال؟ سبق وقلت لك إنه من أجل السلام في دارفور تهون أشياء كثيرة، والحكومة ليست بالضعف حتى يتلاعب بها مني أركو مناوي أو غيره، ونحن أقدر على معالجة كل شيء، مثلما أننا ندرك أن ما يقدم عليه فيه شيء من عدم الوعي السياسي. وتغير الرجل بدايةً بعد عودته من الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن يرتمي في أحضان الغرب فالغرب يعرف كيف يلوِّن الأمور لمن يلجأ إليه، وكل ذلك مرصود من قبلنا، بالإضافة لجلوسه مع الحركة الشعبية التي طرحت عليه التمسك باللاءات الثلاث، لا للدمج لا للثقة ولا للاتفاق مع المؤتمر الوطني، وأوصوه بالاحتفاظ بقواته مثلما أن الحركة الشعبية محتفظة بالجيش الشعبي، بل وتم تعنيفه من قبل الحركة الشعبية على موافقته على تسليم قواته للحكومة باعتبار أن الحكومة ستغدر به وسيفقد وظيفته، بالتالي الأفضل له أن يحرس وظيفته بقواته، وهنا ترسخ هذا الفهم في ذهن مناوي على الرغم من أننا جلسنا معه مرات كثيرة، وشرحنا له أن هذا النهج موجود في اتفاقية نيفاشا وهي تختلف عن إتفاقية أبوجا. ٭ الوضع الأمني في دارفور مازال غير مستقر.. ألا ترى أن احتفاظ مناوي بقواته أمر مبرر لحماية مناطق نفوذه؟ مناوي وقواته أحد أسباب اختلال الأمن في دارفور باستيلائهم على حواكير في جنوب دارفور والاتاوات وغيرها من الأفعال، وهذا ما يدفعنا باستمرار لاستيعاب هذه القوات لمنع تلك الأفعال وغلق هذا الباب بصورة نهائية. كما أنني اختلف معك في أمر اختلال الأمن في دارفور، فهو مستقر في كل ولايات دارفور ما عدا الشراذم المتبقية من حركة العدل والمساواة التي تتحرك في إطار ضيق ومحاصرة أيضاً في جنوب شرق دارفور، وهم يريدون الذهاب لجنوب السودان ويأتون ليقاتلوننا بوصفهم مرتزقة من داخل دولة جديدة، لكن ذلك لن ينجح.. وخير مثال لذلك بولاد الذي احتمى بالحركة الشعبية ودخل بجيش إلى دارفور، فما حدث له أن تم القضاء عليه من قبل أهل دارفور أنفسهم. ٭ تحدثت عن استباب للأمن في دارفور ومعسكرات النازحين مازالت تعاني من زعزعة أمنية واضحة، وثمة أسلحة منتشرة بين قاطني تلك المعسكرات؟ «مقاطعاً» أنا لا أتحدث عن المعسكرات، لأن المعسكرات عبارة عن قطعة أرض لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، وهم عبارة عن مجموعات تتبع في أغلبها لعبد الواحد محمد نور، ولأن هذا الأخير لا يمتلك قوة يقاتل بها فهو يعتمد على هؤلاء النازحين الموجودين في المعسكرات لايصال صوته، بينما هو يقيم في فنادق فرنسا. والنازحون قوة بدنية لا يوجد شك في ذلك لكنها قوة غير مسلحة. ٭ لكن هؤلاء يمثلون قوة ضغط بالنسبة للمجتمع الدولي ضد الحكومة؟ نعم اتفق معك في أن المجتمع الدولي حاول أن يستغلهم باعتبارهم أداة ضغط ضد الحكومة في البداية لكنه فشل، وبعد ذلك تأكد وعلم أن تلك المجموعات تعمل ضد السلام في دارفور، ومعظم القاطنين في المعسكرات مدفوعون من قبل عبد الواحد لكنهم مغشوشون.