يقول العقاد في عبقرياته إن أمير المؤمنين عمر (رضى الله عنه) كان يتفقد الناس في خلافته ليلاً في المدينة فشاهد امرأة ورجلان يشربون الخمر فتسلق عليهم الدار وفاجأهم قائلاً ويحكم تشربون الخمر وتعتدون على حدود الله. ولكن المرأة التي كانت تعرف الاسلام وأحكامه لم تكترث لقول (الفاروق) بل أفرغت الكاس في جوفها دون خوف أو وجل قائلة لأمير المؤمنين انها معصية واحدة ارتكبناها يا أمير المؤمنين ولكنك ارتكبت ثلاثة معاصي نهى عنها القرآن الكريم... فقد تجسست علينا كما إنك لم تطرق الباب وتستأذن حتى يسمح لك بالدخول... ثم إنك تسورت الدار ولم تدخل من الباب... وهنا أدرك (الفاروق) ما كان غائباً عنه فعاد من حيث أتى دون أن يقول شيئاً لكنه أصبح مشغول البال وفي الصباح التقى بالإمام علي (كرم الله وجهه) فقال له يا علي جاءني من يقول إنه راني كذا وكذا فقال له الإمام هل أتاك من رأى ببينة قال لا فقال له الإمام أقم عليه الحد وهنا انتفض أمير المؤمنين قائلاً وان كان أمير المؤمنين فقال له الإمام وإن كان أمير المومنين... وهنا أدرك الإمام ان أمير المؤمنين إنما كان يستفتي فلم يلح... تلك هي عظمة الاسلام الذي لا يفرِّق بين أمير وأجير وتلك حدود الله.... ومن هنا أبدأ ببعض ما جاء في عنوان المقال وأقول... مما لا شك فيه ان (الشيخ حسن الترابي) من المؤسسين للحركة الاسلامية في السودان بداية من جبهة الميثاق الاسلامي ومنذ استقلال السودان كان (الشيخ) هو القائد والزعيم الأوحد لتلك الجماعة وبفضل قيادته اتسعت الجبهة بحيث أصبحت حزباً له مكانته ضمن الاحزاب التي دخلت البرلمان عقب الاستقلال وبفضل مقدرته وعلمه وبرنامج الجبهة الداعي لنهج الاسلام نمت الجبهة نمواً مضطرداً حتى انها في آخر انتخابات ديمقراطية نزيهة اكتسحت جميع دوائر الخريجين وبعض الدوائر الجغرافية... تلك حقائق ولكن (الشيخ) ورجاله وتلاميذه لم يكتفوا بهذا النصر العظيم الذي تحقق لهم في العهد الديمقراطي فكان الطمع في السلطة والمال غاية المقصد... فجاء الانقلاب العسكري الذي استولت فيه كوادر الجبهة في الجيش على السلطة في يونيو 89 وبالتالي أصبح الحكم عسكرياً شمولياً مطلقاً.... وبالطبع ان كل ما تم بتخطيط (الشيخ) وموافقته واشرافه حتى إنه أصدر أمره للعميد عمر البشير بأن يذهب للقصر رئيساً وذهب هو للسجن حبيساً.... اختلف (الشيخ) مع رفاقه وتلاميذه حتى وصلت درجة المفاصلة بينهم... واتسعت دائرة الخلاف والعداء بين جماعة كانت جسماً واحداً يحمل فكراً واحداً لم يتخل عنه أي منهم.... ثم تطور العداء حتى وصل درجة اعتقال (الشيخ) الشيء الذي لم يكن متوقعاً بالنسبة لمكانة (الشيخ) لدى تلاميذه وتاريخه في قيادة تلك الجماعة.... وقد تم اعتقال (الشيخ) ثلاثة مرات كانت الاولى فترة طويلة دون أن توجه له تهمة أو يقدم لمحاكمة بل يطلق سراحه... وهذا بالطبع ظلم لا يقره الاسلام... وبالنظر للتواريخ التي حدثت فيها الاعتقالات كلها نجدها مرتبطة بفترات تكون فيها مناوشات واشتباكات بين حركة العدل والمساواة والحكومة مما جعل على ما يبدو عند الحكومة بأن حركة العدل والمساواة إنما هي الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي.... وقد يكون مرد ذلك ان د. خليل نفسه من تلاميذ (الشيخ) وكلاهما يجهر بالعداء للمؤتمر الوطني.... تلك كانت جماعة واحدة داخل حزب واحد قام بانقلاب ضد الديمقراطية واستولى بذلك على السلطة لكي يحقق ما عجزت عنه الاحزاب التي حكمت البلاد ثلاثة أعوام ونصف في آخر ديمقراطية بينما الحكم القائم تبقت له ثلاثة أعوام ونصف ليكمل ربع قرن في الحكم.... لقد كانت تلك مغامرة غير محسوبة عواقبها قامت بها الجبهة القومية الاسلامية بقيادة (الشيخ حسن الترابي) أصابها الفشل والخلاف وبالتالي أعادت السودان للوراء كثيراً ودمرت مستقبله والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ولم نجد له مخرجاً هل قادة الانقلاب الذي حدث في 89 وأسس الحكم سعداء في دواخلهم ويدركون تماماً ما وصل إليه حال الشعب اليوم من فقر وجوع وأمراض متعددة دون علاج بالاضافة لفساد في الأخلاق من سرقة وتعدي على المال العام حسب تقارير المراجع في القلة القليلة من المصالح التي أتيحت له مراجعتها.... بالاضافة لسوء استعمال السلطة المتمثل في طرد المواطنين من الخدمة بأسباب مبتدعة ليس بينها عدم القدرة على الاداء أو عدم الأمانة أو سوء السلوك بل بسبب سياسة التمكين التي تقطع الارزاق لانعدام الضمير والأخلاق لدى الكثيرين من الذين حُمِّلوا أمانة المسؤولية غير مؤهلين لها بل مؤهلين لنشر الأكاذيب واخفاء الحقائق عن الشعب عن تقدم مفقود وفقر موجود حتى أصبح المجتمع الذي كان قائماً على الفضائل والعفة والطهارة وقد تحول لمجتمع آخر كثرت فيه حوادث الاغتصاب والقتل وحتى الأطفال بجانب الأعداد الهائلة من المواليد سفاحاً بمركز المايقوما.... خلاف الذين تزهق أرواحهم مخافة العار ثم الزواج العرفي الذي لم يكن معروفاً من قبل.... وكل تلك الاحداث جاءت بلاءً للشعب والسبب كله الفقر والعوز والحاجة وضرورات الحياة وتغير الحال.... وعودة لبداية الانقلاب والاستيلاء على السلطة وأريد في ذلك تاريخاً للأجيال الحالية والقادمة.... (ومن المعلوم بداهةً ولتبرير الانقلاب على الديمقراطية وكما حدث في كل البلاد والتي استولى الجيش فيها على الحكم ان تبدأ سلطة الحكم الجديدة بكيل الاتهامات والافتراءات وكل ما في قاموس الشتائم والاساءات للوضع السابق لايجاد المبرر وهكذا ظل برنامج الصباح بالراديو يكيل الاتهامات لحكم الاحزاب العاجز عن متطلبات لجماهير وبالطبع هذا شئ متوقع ولكن من غير المقبول المساس بمنجزات تحققت للشعب لحل مشكلة الجنوب التي اتت بالسلام المطلوب لقضية من أكبر القضايا والتي راح ضحيتها الآلاف من أفراد الشعب شماله وجنوبه وأفقرت الخزينة العامة... وقد كان الحل في اتفاقية وافقت عليها الحكومة وبرلمانها الممثل للشعب بل ونالت رضا الشعب وهي اتفاقية الميرغني/قرنق والتي وصفها (الشيخ) بأنها اتفاقية (الخزي والعار) والواقع ان تلك الاتفاقية لا عيب فيها سوى انها لا تتفق مع ايدلوجية (الشيخ) لحكم كل السودان بدستور واحد... ورغم علم (الشيخ) بأن حكم الشريعة الاسلامية غير مقبول في الجنوب لا سيما ان تعداد المسلمين في الجنوب لا يتجاوز 10% ولهذا السبب فشلت اتفاقية السلام التي كانت بين نميري وجوزيف لاقو.... لذلك ولنفس السبب فشلت مفاوضات السلام بين الموتمر الوطني والحركة الشعبية وعادت الحرب ولكنها ليست كسابقاتها إذ أعلن (الشيخ وتلاميذه) الجهاد رغم عدم استيفاء شروط الجهاد وفي رأيي انها لا تعدو أن تكون حملة عسكرية من جانب الدولة لاخضاع مجموعة من المواطنين تمردت على الحكومة حملت السلاح فيهم المسيحي والمسلم ومن لا دين له... لذلك جاء رد الفعل المتوقع قوياً في السلاح الذي دعم التمرد بحيث كان حصاد الحملات موت ودمار لكافة الاطراف دون نتيجة.... وبالطبع (الشيخ وتلاميذه) يعرفون ما حدث في الحرب الصليبية والتي جمعت كل الطوائف المسيحية المتعددة وتول أمرها ملك الانجليز... سارت الجيوش الكثيفة من الغرب إلى الشرق قاطعة آلاف الكيلومترات وبسفن شراعية لا تضمن السلامة لركابها... وكل ذلك في سبيل القضاء على الاسلام فكيف حال اليوم والصليبية وحدها التي تملك القوة والسلاح.... لقد كان الجهاد وسيلة استنفار للوصول للغاية المطلوبة وفي سبيل الوصول لتلك الغاية كان لابد من ربط بعض الاحداث بما كان في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كانت تحارب معه الملائكة.... ويبدو ان شباب الحركة الاسلامية الملتزم آمن وأصبح في يقين بأن المعارك في الجنوب جهاداً في سبيل الله تتطلب التضحية لذلك كان الاندفاع عظيماً والتضحية أعظم.... ولتأكيد عظمة ذلك الجهاد كانت الأخبار التي ترد من مسارح العمليات تذكر أن الغمام يغطي سماء المعركة وان القرود تفجر الألغام أمام المجاهدين وان الشهيد تفوح من جسده رائحة المسك.... ولكن بكل أسف كان ضحية ذلك هم شباب الحركة الاسلامية نفسها فلم تخلو داراً منهم إلا وفيها شهيد.... ولقد كانت أخبار أولئك الشهداء تأتي لأسرهم بالتهليل والتكبير بل ويقام للشهداء عرس سمى عرس الشهيد تقام له الاحتفالات بتلك المناسبة (السعيدة) بينما سيد الخلق صلى الله عليه وسلم حينما بلغه خبر استشهاد عمه حمزة وشهداء الراية في بدر حزن حزناً شديداً وحمزة سيد شباب أهل الجنة تبكيه البواكي.... ثم ان جهاد حمزة وكل صحابة رصول الله بالسيف والرمح والخيل العتاق.... ولكن جهاد حرب الجنوب والذي لم يكتب له النجاح كان بالدوشكا والكلاش والدبابات وطائرات الميج وكلها صناعة اما غربية نصرانية أو روسية شيوعية كافرة....