«البيوت.. البيوت» هكذا كنا نهلل فرحين ونحن أطفال في مدارسنا الأولية أو المتوسطة حينما تُلغى الحصص الأخيرة ويتم تسريحنا إلى بيوتنا، وبالتأكيد تتزايد فرحتنا ويصخب تهليلنا إذا كانت الحصة الملغاة هي حصة «تسميع» يستوي فيها السوط الطويل كما الثعبان على المنضدة إلى جوار معلم باطش..!! ليس هذا موضوعنا.. فعالم التقانة المتطور والمتجدد كل يوم جاء يحمل البشريات إلى دول العالم الغربي المتقدم، بأنه في القريب العاجل سيتم صرف العاملين في كل مرافق الدولة والقطاع الخاص إلى بيوتهم ليمارسوا وظائفهم «من منازلهم» مستعينين في ذلك بالتطور الهائل في تقانة الاتصال، بحيث يجلس كل موظف أو مدير إلى «اللابتوب» في منزله لمباشرة عمله. إذن هي صيحتنا الجزلى ذاتها «البيوت.. البيوت» ولكن وفق مفهوم عصر التقانة المتطور. ومما لا شك فيه أن هذه النقلة الاجتماعية التقنية سوف توفر الكثير من الأموال المهدرة في الدول التي ستطبق هذا النظام، فلن توجد بعد ذاك اليوم دواوين حكومية وخاصة تشغل أبراجاً تتطاول إلى السماء، ولن تهدر موارد الطاقة في تبريد وتدفئة تلك الأبراج، كما أن التزاحم على سبل المواصلات من سيارات وباصات ومترو أنفاق سيتلاشى ويتلاشى معه التلوث البيئي تحت ظل هذه الحكومة الإلكترونية. تخيل معي مشهد موظف الجوازات البريطاني الذي يجلس أمام جهاز «اللابتوب» الخاص به في غرفة المعيشة وسط أولاده وأسرته بدلاً من جلوسه في مكتب حكومي بمطار هيثرو.. ثم تأتي أنت المسافر القادم نحو بريطانيا إلى صالة المطار فتدخل جوازك الإلكتروني عبر نافذة إلكترونية لتصل بيانات الجواز إلى ذاك الموظف القابع في منزله، فيرد عليك في ذات اللحظة عبر الحاسوب إما بالرفض أو السماح لك بالدخول وفق القوانين واللوائح المبرمجة في الجهاز..!! هل نأمل أن تصلنا ذات يوم هذه الطفرة العلمية الهائلة وتكون لدينا مثل هذه الحكومة الإلكترونية؟ ليس ذلك على الله بكثير، بحيث يمارس موظفونا أعباءهم من منازلهم، ولكن أكثر ما أخشاه أن يستحلى هؤلاء الموظفون «قعدة البيت» وشراب «الجبنة» في ضل الضحى فيعمدون إلى إغلاق حواسيبهم أو يضعون عليها رسالة «مسج» تقول «خرجت لفاتحة وسوف أعود بكرة.. يرجى معاودة الاتصال»..!! صديق من العاملين رحت أسأله حول «موسم الهجرة إلى البيوت» الذي يتطلع له العالم، فقال لي إن زوجته لن ترضى ببقائه في البيت كل يوم وممارسته لعمله عبر الحكومة الإلكترونية، ولما سألته عن السبب قال لي إنه خلال الأعوام الماضية لاحظ كلما عاد من العمل تناقص ملابسه وأحذيته ومتعلقاته الشخصية، ولاحظ في نفس الوقت اكتناز دولاب «العدة» كل يوم بالجديد من أطباق الشاي والأواني المنزلية. ولم يحتج إلى كثير عناء ليدرك أن المدام تنتهز فرصة خروجه للعمل لتستبدل ملابسه وأحذيته ومتعلقاته الشخصية بتلك الأواني.. إذن هي لن تقبل بتلك الحكومة الإلكترونية التي ستمكنه من ممارسة عمله من البيت، وبالتالي «مصاقرته» لها من الصباح وحتى المساء..!!