عندما قام مركز عبد الكريم ميرغني ، وَمَضتْ شعلته في قلب ام درمان، وقتئذ كتبت عنه وعن علاقتي الوثيقة بالاسرة التي انشأته. فقد ولد ذلك الصرح عملاقا ليصبح قبلة الادباء والمثقفين والكتاب في السودان وخارجه. لكني في هذه العجالة اردت ان اذكر صلته باديبنا الراحل الصديق الطيب صالح. لقد احتضن هذا المركز مكتبته الشهيرة وافرد لها جناحا مرموقا. رئيس مجلس امناء هذا المركز الاخ محمود صالح عثمان صالح لصلته الوثيقة بالمرحوم اراد ان يكون هذا المركز حاويا لذكراه وملتقى لاصدقائه ومريديه. وكما بذل مجهودا مع الاخ مولانا بشير محمد صالح في علاجه وفي ايصال جثمانه ليدفنه في تراب السودان، ايضا احضر مكتبته وكل ما يتعلق به وبذكراه ليعيد كل ذلك الى مسقط رأسه، وكانت قمة الوفاء. كان المفروض ان اتحدث في يوم تخليده الا ان اللجنة المنظمة رأت تأجيل تلك المناسبة لاعطاء الفرصة لاصدقائه واحبائه العديدين المنتشرين في ارجاء المعمورة ليخلدوه. فتمت اللقاءات في القاهرة وفي اصيلة وفي الدوحة وفي لندن وفي البحرين. وحسنا فعل المنظمون، فكما انتهى في بلده تكون خاتمة التخليد في وطنه. اصدر صديقه محمود صالح كتاب «بعد الرحيل» مسلطا الضوء على خصائله الحميدة: الذكاء الوقاد، العلم الوافر، التواضع الجم، البساطة الآسرة، السماحة المحببة، المروءة الانسانية، الاريحية الكريمة، مع شجاعة في الرأي وسعة في الصدر، وحب صادق للناس والوطن. عندما اطلعت على هذا الجانب من الكتاب تيقنت ان هذه الخصائص جلها من خصائص المتنبئ التي حببته للطيب وجعلته مفتونا باشعاره ومسميا اياه «الاستاذ»، الطيب صالح ليس فقط روائيا او كاتبا وانما صنعته الاصيلة هو «الولع بالرواية والشخصيات الروائية». ولا فرق ان عاش الطيب في السودان ام لا، لان السودان عائش في الطيب. وفي هذه العجالة ابعث بأحر التعازي للاسرتين الصغيرة والكبيرة وانا لن انسى الطيب فهو نموذج مضىء بتواضع العلماء. حياة الطيب صالح السريعة والثرية بالعطاء والريادة اسماها صديقه منصور خالد «ومضات حلم» وليس هنالك اسرع من الومضة وليس هناك اجمل من الحلم. الطيب قامة اثرت الوجدان السوداني والعربي باعمال تصدرت المكتبات في العالم. بعد رحيل الطيب سندخل فيما اسماه صديقه نجيب محفوظ ذات مرة «بسنوات اليأس الادبي». من علامات عظمته انه حتى البعيدين عنه يتحينون معرفته سعيا وراء الشهرة. ومن هنا اوجه التعزية لصديقي عمره صلاح أحمد محمد صالح والكاتب المصري محمود سالم. ان لقاءاتهما معه دائما اضاءت الدنيا حولهم وداً ووفاءً ونكران ذات وذكاءً وفطنة تخاطب العقول. للاخ الطيب فلسفة خاصة بالموت، ويقول: يموت جزء منك حين يموت صديق عزيز، لان المصابيح في دجى روحك ينطفيء منها مصباح. ويقول الصديق الحي يحبب اليك الحياة، وميت يسهل عليك الموت، وفي كلماته تلك مناجاة للموت وللميت. ونسبة لان ميعادي مع الدكتور في القاهرة تأخر مرات فلا بد من الوفاء به وربما تعارض ذهابي مع ميعاد حفل التخليد الجديد وما باليد حيلة. رحم الله الطيب صالح. عثمان محمد الحسن