ما أن وصلت من أديس أبابا مؤخراً، حتى وجدتني استقبل رسالة ملتهبة من صديقي العزيز معلم الاجيال فاروق الحريري وفيها غضب واسع على مدير هيئة الحج والعمرة. للذين لم يلتقوا فاروقاً فانه يمثل الجيل الثاني من اجيال الحداثة في دارفور وجيله من ورث الثورة متقدة ضد الوضعية الاستعمارية وحمل الراية ضد المركزية الطاغية بالتنوير والعمل في مجالات التعليم والتثقيف، والوعي المدني والسياسي والطوعي والرياضي والديني وهو ينتمي الى الزاوية التيجانية بالفاشر. من تجربة جيله ومن كل الحالة الدارفورية الراهنة اغرق فاروق رسالته غضبا عنيفا بحق مدير هيئة الحج والعمرة الذي حاول الافلات من ادانة البرلمان والجمهور بخلفية قصور مالي اداري غير مستغرب بحق الحجاج، الا انه في محاولته تلك وقع في قصور انساني غير مغتفر عندما قال مخففا على نفسه مصيبة التقصير: (هو زول جاي من دارفور تفرق معه في شنو يسكن العزيزية ولا ريع بخش؟!). تلك كلمات ترد في قاموس النزاع المسلح والسياسي في دارفور، ولكن ان تأتي في سياق التنصل من مسؤولية دينية ركن، فذلك ما هيج المشاعر، وقد اضطر المغضوب عليه ان يعتذر خاضعا لطلب نواب دارفور الذين اعتبروا الامر (استفزازا وافتراء واستهزاء مرفوضا من اهل دارفور)، ومع ذلك فان الغضب تزايد عليه، وقد عبر فاروق عن بعضه في رسالته. عبرت الرسالة عن اعتقاد ربما شاركها فيه آخرون، ان مدير الهيئة بضعف سلوكه المدان برلمانياً لم تأتِ به كفاءة متنافس عليها، انما وكما هو شائع هذه الايام في وظائف الدولة ان سياسات التمكين هي ما قد جاءت به الى الوظيفة العامة، ذلك ان من ملامح الكفاءة في مدير الحج والعمرة، ان يدرك العلاقة المتينة بين الحج وكل المقدسات الدينية وبين اهل دارفور، والذين عرفوا في الرسالة بأهل المحمل، واهل صرة الحرمين، واهل وقف القدس، واهل الرواق في الازهر الشريف، وأهل آبار علي، وهي مسائل تجعلهم في مقدمة المهتم بهم تاريخيا وانسانيا ودينيا، لقد كانوا يقدمون على غيرهم في السكن والاقامة والزيارة وشرف تغيير كسوة الكعبة، واليوم مع اوضاعهم الكارثية الراهنة دفع الحجاج منهم ومن حر أموالهم ثمانية ألف جنيه (النصف منه يكفي الحاج القادم من امريكا)، ومع ذلك لم تذهب بهم الطائرات الى المدينةالمنورة كالاتفاق مع ادارة الحج، بل حطت بهم الطائرات في جدة واكملوا السفر بالبصات في ظروف غير مواتية واستغرقت زمنا طويلا. ايضا تم تفويجهم من والى المشاعر في اوقات تخالف مذهبهم المالكي، هذا فضلا عن ضيق المخيمات والانتظار في المطارات، وتأخير الأمتعة، وبعض حجاج العام الماضي لم تصل بعض امتعتهم حتى اليوم. بعد تقديم تلك الملاحظات في غضب ود فاروق توجيه نداء لأهل دارفور.. ان يدعوا مدير الحج والعمرة لشأنه وان اساء اليهم بالاستخفاف، فان حقوقهم في الكرامة لن تضيع، ومقبل الايام ستبرهن على صدق ما يقول، ويختم رسالته بالقول ان الاعوام القادمات حبلى يلدن كل عجيب. عزيزي استاذ فاروق.. لقد سعدت بغضبك النبيل، وهو غضب يشبهك ويشبه غضب جيلك على الوضعية الاستعمارية المركزية، ويشبه غضب كل المستنيرين من الدارفوريين في هذه اللحظات القاسية، والمفصلية من اجل حقوق وكرامة مواطنيهم. واليوم ان اغضبتك كلمات مسؤول لم يستطع ان يفي بمستلزمات مسؤوليته الادارية المالية والاخلاقية والانسانية، ومع ذلك لم يتنحّ برغم ان الرسول الكريم قد توعد قبلاً الذين يقدمون على اداء اعمال تدر اموالاً وامتيازاتٍ (مؤقتة) وهم يعلمون تمام العلم ان هناك من هم اكفأ منهم، والمدير الفني ليس هو وحده في هذا الشأن بيد انه سرتني الخاتمة ان (أتركوه)، لأن الدارفوريين سيتجاوزون مثل هذه الاستفزازات الصغيرة ولو بعد حين، ذلك ان دارفور الرائعة ستظل رائدة، وهذه هي البداية الصادقة للبدء من جديد عندما يغضب أهل الحق لحقهم المهان، بخلفية الجهل والاستهتار والاستفزاز، او كما قال النواب هذه المرة. لقد جاء في رسالتك ان حجاج دارفور يستحقون ارفع انواع المعاملة، وفي الحج خاصة لأنهم ورثة تجربة انسانية عظيمة ومن واجبهم ان يمضوا بها الى المستقبل، ويورثوها أجيالهم القادمة، خاصة وامامهم نضال طويل من اجل استعادة مبادراتهم التاريخية. لقد بنت دارفور للسودان علاقات خارجية مميزة في كل القارة الأفريقية حتى عرفت دارفور في الأدبيات الأفريقية المعاصرة ب (ثدي افريقيا) التي رضعت فيها كل الشعوب الافريقية واحياء الفاشر العاصمة التاريخية تمثل تلك الشعوب. كما ورث السودانيون افاضات السلاطين التاريخية على مقدسات الامة الاسلامية بالخير والعطاء، فقد كان المحمل وسقي الحجاج وقضاء حاجاتهم درساً تاريخياً لم يتوقف حتى بانهيار السلطنة. ورث السودانيون تجربة وخدمة فقراء الحجاز، فقد اورد حمدي بولاد وهو أحد نجوم المنوعات ألفنا برامجه منذ الستينيات اذ حكي في آخر سهرة قدمها من الاذاعة انه في ثلاثينيات القرن الماضي ان جمع اهل السودان مالاً لفقراء الحرم المكي والحجاز، وكان على رأس قائمة المتبرعين الامام الراحل عبد الرحمن المهدي ابن اخت السلطان علي دينار آخر سلاطين دارفور من الذين ألفوا ارسال المحمل الى الحجاز سنويا، وكان يمر بالعرضة في مدينة ام درمان وقد حكت لي بذلك الحجة الشول الكنزية على سبيل طمأنتي أني لن اكون غريبا في هذه المدينة وكنت قد قدمت اليها حديثا. كقولها ان المدينة تعرفني لأن المحمل ومناخاته الثقافية قد تولى عن مسؤولية التعريف بنفسي، وفي هذا السياق يكفي ما ظل يورده الوزير القطري آل محمود كل مرة ان لدارفور دين مستحق على دول الخليج العربي، وما الجهد القطري للمساهمة في تسوية النزاع في دارفور الا تعبير عن امتنان لجميل سبق لدارفور بحق أهل الخليج زمن الضيق والفقر والصعوبات الذي مضى بلا عودة إن شاء الله. في سياق العلاقات مع عالم الاسلام الأوسع فمن لا يذكر ذلك الوفد التركي الذي اشاد بالعلاقات التاريخية بين السودان وتركيا والتي شكل تحالف البلدين في الحرب العالمية الأولى رمزا لها بقيادة السلطان علي دينار، وقد دهش سودانيون لدى سماعهم ذلك، فتلك كانت المرة الأولى التي سمعوا بذلك. واليوم هناك أسر في جبال (كُونُو) بمنطقة زالنجي تعود بأصولها الى ايران. أما على الصعيد الغربي أوربياً فان العلاقات التي صنعتها دارفور للسودان تبدو مميزة، وقد تم الكشف عن كثير من جوانبها من خلال النزاع المسلح الذي نشب خلال العقد الاخير، وقد تساهم تلك العلاقات في اعادة تأهيل الاقليم مع احتمالات نجاح العملية السلمية في انهاء النزاع الذي يعتبر برغم قسوته وضراوته وباهظ تكلفته عربون وعي ومنصة انطلاق لواقع جديد ولمتابعة حلقات التاريخ المغلقة عن اجيال اليوم. عزيزي فاروق: اودا ن ابعث اليك وانت بالفاشر عاصمتنا التاريخية رسالة اطمئنان ، فالناس في السودان يعرفون قدر دارفور الا من ظلم .. اذكر تماما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكان جيلنا قد ورث نداء الاستنارة من اجل حقوق اقليم دارفور التاريخية، حفاظا على خصوصية النوع ودعما للمبادرات المحلية في البناء الوطني سياسيا واقتصاديا وثقافيا.. كان طبيعيا ان يدخلنا في مثل ذلك النداء في نزاع مع السلطة المركزية، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون ان روادا في الحركة الوطنية السودانية هم من وقفوا معنا في تعضيد ذلك النداء حتى اصبح حقيقة، ومن بين اولئك الجيل الراحل نصر الحاج علي اول مدير سوداني لجامعة الخرطوم، والهادي ابوبكر واحمد بشير العبادي الذي كان يكرر المرة تلو الاخرى «ناس دارفور ما يغلطوش» في مواجهة مغالطات الواقع المركزي المجحف. وقف ذلك الجيل الرائد مع حقوق دارفور باعتبار ان ما كنا نقوم به فيه استكمال للحركة الوطنية في تحرير البلاد من الظلم والغبن، ومن ناحية اخرى فقد كان قادة مستنيرون في الاتحاد الاشتراكي من امثال د. اسماعيل الحاج موسى، وأ. آمال عباس وأ. مصطفى امين وغيرهم ظلوا دما مستمرا لتجربتنا حتى تم اعلان اقليم دارفور في سياق قانون الحكم الاقليمي لعام 1980م. هناك سودانيون كثر من المثقفين والمغتربين والسياسيين والقوى المدنية والشعبية ممن يعرفون دارفور بالحق، ويعملون على دعم جهود ابنائها في استعادة مبادرتها التاريخية وذلك ما يبرز من خلال الحوارات والمداولات التي نشارك فيها في الاوساط الاكاديمية والفكرية والمهنية وتأتي في اعلى مستوياتها، معضدة لحقوق الدارفوريين وكرامتهم. من بين تلك الحوارات حاول الراحل ب. محمد ابراهيم ابوسليم تفسير ما حدث لدارفور من ظلم وتعتيم. بأن الحكم التركي لم يستطع ان يغزو دارفور وقد كانت دولة قوية الا بعد اكثر من خمسين عاما من دخوله السودان، ولم يقضِ في دارفور الا سبع سنوات، على تلك الخلفية افادت التركية من البنيات التحتية الادارية والثقافية التي كانت متاحة في سلطنة الفونج، واصبحت هي القاعدة المستقبلية لبناء السودان المعاصر، ولم تنتبه الصفوة السودانية الى قدرات دارفور الا عبر بوابات العنف والنزاع (ودا غلط طبعا) كما كان يؤكده ابوسليم دائما وفي صرامة، لذا عندما كُلف في عهد الانقاذ برئاسة لجنة اسماء الولايات، وصل الى ان اسماء الولايات الثلاث عليها ان تبقى على دارفور اسما مشتركا، حتى لا يصادم نفسه مع التاريخ، او يعيق التطور الطبيعي للتنوع الدارفوري في سياق وحدة السودان. ولعل اكثر ما يجعلك مطمئنا صديقي فاروق، انه وفي عز النزاع المسلح في دارفور نظمت الجامعة الاهلية وهي كما تعلم تمثل العمق الشعبي وطنيا، نظمت ورشة عمل حول ما كان يجري في دارفور بمشاركة اكاديميين ونشطاء، كان من بين المشاركين مداخلة د. ادريس البنا الذي وجه نداء صادقا لأهل دارفور وهو يقول ان الكارثة التي حلت بأهلنا في دارفور ، بلاء عظيم من الله تعالى واختبار لأهل دارفور وتمحيصا لهم ، وتمهيدا لوضعهم في قمة مسؤولية هذا البلد. فعليهم ان يصبروا ويدركوا انه ما من اسرة ذات قيمة في ام درمان الا ولها جذور في دارفور. واخيرا... في الفاشر وعلى مرمى حجر من داركم العامرة تقع دار الملك رحمة الله محمود احد بناة الوحدة الوطنية السودانية المعاصرة.. اسأله ..وأسألوه ليقول لابنائه من الدارفوريين ما يثلج به صدورهم ويقوي عزيمتهم في المضي قدما من اجل الحقوق والكرامة، والمشاركة في بناء الوطن الاوسع من الجنينة الى بورتسودان. وكل عام دارفور الرائدة وانتم من النبلاء الغاضبين في الحق.. دمتم بخير..