تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية مدينتي التي تخرجتُ فيها حدث استثنائي ولكن نرى أن القدرة على تحليله والاستفادة من عظته قد تقاصر بسبب أن خط المهادنة والمداراة بين النظام المصري وإسرائيل والتي ظلت لا تكتفي بتجريد مصر من موقعها القيادي العربي والافريقي ولكن بالقصد إلى تدمير مصر حتى تزيل العقبة التي تقف أمام توسعها حتى ولو ارتهنت مصر السادات سياساتها بنسبة 99% إلى أميركا «الغرب»، لقد كانت ردود الفعل كبيرة وقوية إعلامياً وكان أول المتباكين هم الرئيس أُوباما الذي عرض مشروع تدخل لحل المشكلة بالتعاون الأمني! وكان رد فعل الإسلاميين في مصر سريعاً بالإدانة بل أن الادانة جاءت من كل حدبٍ وصوبُ دون ان تؤشر هذه الادانات الى الفاعل الحقيقي وهو المستفيد الحقيقي، عندما وجدت يد الانتحاري على الطابق الرابع في العمارة المقابلة تغير الخطاب الأمني ولكن لم يتغير التوجه السياسي نحو رمي الخارج وأصابع الخارج دون الجرأة لتبيان حتى أن المستفيد هو الغرب وإسرائيل ولعل ذلك من الحكمة ولكن حتى لو ثبت أن الفعل هو مخابرات المنشأ فإن الغرب سوف يكتفي بالنفي والاستهجان كنفي فرنسا لان يكون لقواتها أي دور في التدخل في الشؤون الداخلية لساحل العاج، وسرعان ما سيستقبل الرئيس المصري في مقر رئاسته رئيس وزراء إسرائيل، وذلك لا بد منه في ظل الوضع المستمر لعلاقة مصر الرسمية مع إسرائيل وفق اتفاقيات السلام، ولكن هل ستترك مصر في سلام، لقد طعنت مصر طعنة نجلاء بانفصال جنوب السودان الذي أضحى مهدداً حقيقياً للبلدين بحكم هشاشته وقابليته التاريخية لان يكون يداً لاسرائيل، نحن نعتقد أن هنالك فترة هدنة بعد الانفصال قبل نشوب توترات جديدة ان لم نقل حرب وفي هذه الفترة سيكون على الغرب ان يستغل الوقت في بناء قواعد المعركة القادمة في شمال الوادي. اسرائيل غير راضية عن مصر بوضعها الحالي نشير الى عدم زيارة حسني مبارك لاسرائيل او قمعية التوجه الشعبي المعارض للتطبيع او تغيير عقيدة القوات المسلحة المصرية القتالية حتى الآن.. ان الحرب ضد الاسلام ليست ضد العقيدة الاسلامية فهذا غير ممكن والاسلام هو الديانة الاكثر انتشاراً في اوربا واميركا على الخصوص ولكنها حرب ضد المسلمين المؤمنين برسالة محمد «صلى الله عليه وسلم» وملائكته وعلى آله. وذلك لاختيارهم العدو الجديد بعد الاتحاد السوفيتي الذي تلاشى فاين تذهب مصانع الحرب عندهم -هم سمونا الخطر الاخضر والاستراتيجية هي انه في الدول التي يكون فيها المؤمنون المحمديون اقلية فالخطة تعمل على تدجينهم بل تحويلهم لمعاول هدم ضد بلدانهم «الاسلامية» واليك اشارة خاطفة لما تفعله اوربا وفرنسا بالذات ضد كل ما هو «اسلامي». واستغلال احداث «سبتمر غير معروفة المصدر» لغزو بلدين اسلاميين في دائرة الخطر الاخضر وليس دائرة الشر فدائرة الشر ليس فيها حروب حتى الآن. اما بالبلاد الاسلامية وخاصة العربية والمتوسطية فالحرب هي باستغلال الوجود المسيحي في المنطقة والضرب على حقوق الاقليات بل ضرب الاقليات اذا كان ذلك سيجرف الاغلبية المسلحة ووضعها في خانة الاتهام ثم رشق كل من تسول له نفسه بنظرية المؤامرة التي اعتز بانني من المنبهرين بها، فعلام تقوم السياسة العالمية اذا لم تقم على المؤامرة- وكيف تفكك الدول وتباد الشعوب عرقياً اذا لم تكن هنالك مؤامرة، والمؤامرة ببساطة هي المكر في الخفاء وعدم اظهار الفاعل للوصول الى نتائج غير معلنة لانها غير مستحبة انسانياً. ما يهمني هنا هو اننا نريد ان نشير باصبع الاتهام للمستفيد الاول حتى ولو لم يصل البحث الجنائي او لم يراد له الوصول الى الجاني الحقيقي، فقد قال احد القساوسة نحن ظننا ان القضية هي طائفية في اول الامر، هذه الصراحة هي ما اريد له ان يتوقف عنده لكن التدبير الجنائي لم يسر كما اريد له ولا اغادر هذا المنحى قبل ان اربط بين ما حدث في فصل جنوب السودان وتهديد مصر في شمالها فالفاعل واحد وان تنكر بازياء مختلفة ولعل النزوع نحو وحدة وادي النيل في هذه الظروف من السودان او حتى من جنوبنا الحبيب هو رد فعل تلقائي وغريزي ولكنه عندنا نحن الاتحاديون هو عود على بدء واستنهاض للفكر الاتحادي الذي اهملناه في غمار مصالحنا وحروبنا ضد الدكتاتوريات. انفصال مؤقت: وخلاصة الامر ورأسه هو ان ما يحدث يؤكد على الترابط التكويني العضوي والحضاري والمصير المشترك فهذه ليست شقشقات ولكن هي حقائق كلما ابتعدنا عنها كلما حلت بنا كوارث وتضررنا -عندما خذلت الحكومة المصرية الضباط الاحرار- ارتد عبد الله خليل ضد الوحدة وأدى ذلك الى ميول الازهري للاستقلال بعيداً عن مصر مما افقدنا الفرصة الثانية فضعفت مصر ولجأت الى وحدة في فضاء اكبر هو العروبة ولكن بجناح واحد ففشلت ومات جمال وهو يحمل الهم الذي كان حلماً بعيد المنال فلم يحمل السادات الحلم ولكنه وثّق لعلاقات التكامل مع السودان مع النظام الدكتاتوري المايوي ففقد تعاطف اعداء النميري فالغت حكومة الصادق التكامل، والآن الاصوات تتعالى هنا وهناك وكل الامل الا تضيع هذه الفرصة لاحداث التحول التاريخي والانتصار للجغرافيا واستعادة مجرى التاريخ الحقيقي، كل ما يلزمنا هو عدم وضع العربة امام الحصان، أي عدم استعجال المصالح المباشرة على الهدف الاسمى الذي به يحل السودان كل مصاعب مصر وتحل مصر مشاكل السودان وهذا هو معنى الوحدة لان الوجود الجغرافي والتساكن والكفاح المشترك لم يكن عبثاً.. ان تكاتف هذه الاحداث يؤكد اننا ماضون في الاتجاه الصحيح ولكن على الاخوة في مصر النيل ان يعلموا اننا قد بدأنا نعيش مرحلة ما بعد الانفصال وهي مرحلة ما بعد الانقاذ التي فقدت معنى وجودها بعد ان باء مشروعها الحضاري بالانفصال. صحيح ان الاستفتاء قد ارتضته المعارضة المريضة في اسمرا ولكن الآن تم الانفصال والحركة الشعبية مطلقة اليد في تخريب عقول ووجدان الجنوبيين البسطاء ولمدة «6» سنوات عملت فيها بالعصا والجزرة لتنال مبتغى غير معلن عنه وسيطرة مجموعة متطرفة على الحركة اقل ما يقال عنها انها لا تمتلك رؤية واضحة وانها خاضعة للتاريخ ومستغلة له وواقعه ضحية لاسوأ صفحاته فادخلت شعبها في تجربة لا قبل له بها وادخلت السودان كله في نكسة اطالت فيها يد الاعداء ولكنها تجربة ستمر بعون الله وبيد القدر نحو تحرر الجنوب من الخوف والشمال من الغباء السياسي ومصر من هواجس الامن الوطني والعطش... انه انفصال مؤقت ولا بد من الخرطوم وان طال السفر ووضع ثقل مصر الجغرافي مع السودان سيؤدي الى وحدة راجعة وراجحة. يعتبر المسلمون الجنوبيون انهم يمثلون حوالي 03% من السكان وبدون التوقف عند الرقم فهم الديانة الاولى في الجنوب حيث ان المسيحية اقل انتشاراً عن الاسلام مع العلم ان المسيحية لا يفترض ان تكون عائقاً عن اتحادنا في قطر واحد، لكن وجود انفصاليين مسلمين امر غير مستقيم اذ كانت الآلة الاعلامية للحركة او للسلطة تتحدث عن حرب بين المسلمين والمسيحيين لكن وجود مسلمين جنوبيين يصوتون للانفصال حقيقة لا بد من تفهمها لان هؤلاء يتحدثون عن تاريخ لا عقيدة ولا جغرافيا متأثرون بالتاريخ الذي لم ينجح في تفعيل التقارب والتمازج والتلاقح بقدر ما عملت الحرب على تغذية مشاعر البغضاء ونحن نؤمن ان الاسلام ليس بطاقة عبودية والمسيحية ليست بطاقة عداء ولكن الاعلام الذي يجري عكس التيار الحقيقي للتاريخ قد يؤثر مؤقتاً ويمكنك ان تخدع كل الناس بعض الوقت ولكن لا يمكنك فعل ذلك كل الوقت بل انك لا تستطيع ان تخدع بعض الناس كل الوقت الا ان تكون رب الناس او ان يموت هذا البعض قبل ان يكتشفوا خداعهم ولحسن الحظ فهؤلاء ليسوا اغلبية الناس. على قوى الاتحاد ان تعمل الآن في مصر وفي الجنوب وان تكون آلية تعمل على التوعية والتوجيه الاتحادي وان تعمل على حث السلطتين في البلدين على ان يبذلا بعض الجهد او يتبعدا عن الطريق وان يستوعبا ان حياة الوادي اكبر من عمريهما معاً وان التاريخ يذكر ما يقومان به وان تعاد الحياة الى القوى السياسية التي تعمل من اجل وحدة وادي النيل وعلى هذه الآلية ان ترعى القوى السياسية الجديدة التي لا تستهدف الوحدة من اجل البقاء دون الايمان بها لانها هنا تكون قد عملت بدون ارادة، وعلى كل حال فان بزوغ فجر سياسي جديد سوف يؤدي الى تكوين قوى سياسية جديدة وما هو اليوم كبير لن يكون كذلك غداً فالمقدسات ستحتفي في مضمار السياسات وستلتئم جراح مصر وجرح السودان وسوف يعود المهدي دينق الى قطيته التي فارقها وسيعيش الاقباط المسلمون في مصر مع الاقباط المسيحيين في السودان وسيعيش المسلمون النيليون مع العرب الزنوج في وطن واحد حدادي مدادي. ولك الله يا مصر يا أخت بلادي في السراء والضراء. * بروفيسور مشارك.جامعة الزعيم الأزهري