سلام عليك في الملأ الأعلى، وحتى بعد موتك، لازالت بعض النفوس تصر أن تزيل آثار جهادك الطاهر من صفحات التاريخ الهزيل، الذي صنعته أنفسهم واهواءهم وخوفهم من السقوط في مزابل التاريخ عندما يسقط القناع وتظهر الحقيقة، سلام عليك وأنت تتوشح أحزان كرري والشكابة وأم دبيكرات فتطويها طياً ثم تعلو قامتك على أحزانك وأحزننا لتتدلى دمعات سخينات على وجنتيك وأنت تحصد ثمرة جهادك يوم الاستقلال وتسجل لك العدسات ذلك الموقف الذي إجتهد منافحوك في إخفائه ودسه بين وريقات كتبهم المحشوة بالقصد والتدليس. سلام عليك الأمام عبد الرحمن المهدي وأنت تحكي لابنائك وأحفادك من الجيل السوداني الأصيل وتقول عندما إقتربت جيوش الاحتلال وهي تشق طريقها نحو العاصمة الوطنية وتناولت المجتمعات الأحاديث عن حشودها وأسلحتها وطغيانها رأيت في المنام ملازم أخي نصر الدين قد سقط وفي يده الراية الزرقاء فصرخت فيه -أرفع الراية يا جابر- ولكنه كان قد خر صريعاً فهرعت إليه فرفعت الراية، هذا ما حكاه الإمام عبد الرحمن عن تلك الرؤية ويسترسل رحمه الله قائلاً: وعند الصباح فوجئت بحرس خليفة المهدي يطلبني إليه فجهزتني أمي مقبولة واخذوني إليه، فضمني إليه ودارت هذه المحادثة: الصادق «هذا كان لقبه» أنت شفت الليلة منام؟ نعم سيدي. - شفت شنو؟ - شفت جابر سقط صريعا بالراية الزرقاء. - منو الرفع الراية أنا ام أنت؟ - أنا يا سيدي. - أحفظ هذا المنام ولا تحكيه لأحد. سبحان الله ليت اجيالنا وابنائنا وبناتنا علموا ما حدث لذلك الطفل الصغير، عندما دكت قبة أبيه وانفرط العقد وجالت خيول المستعمر وارجلهم النجسة في أنحاء العاصمة وولوت النساء وبكى الأطفال وتمددت ما يزيد عن عشرة آلاف جثة على أرض كرري والمئات في الطريق عبر خور شمبات وعلى أطراف النيل عند الطوابي التي لو سئل عنها أحد ابنائنا لجهل أمر، مبانيها الشاهقة عند الله والمنسية عند المارين بجانبها دون عبرة ولا عظة. في ذلك اليوم الحزين العاصف سار عبد الرحمن الصغير خلف الركب خارجا من ام درمانالمحتلة وعيناه تحدقان في تلك الجماهير الشهيدة ثم الحزينة ثم الزاحفة جنوباً من على الضفة الغربية للنيل الأبيض. جمع خليفة المهدي صلاتي المغرب والعشاء على أطراف أبو سعد الجنوبية، ثم إلتفت إلى الصف الأول وقد قطع «تبسة» من الحشيش الجاف ورفعها قائلاً: بتاً بالله المهدية متل القش دا.. متين ما تقع عليه المطرة يخضر مرة اخرى. هذه كانت المسيرة جوع وجهاد وسير على الأقدام حتى وصل ركب عبد الرحمن المهدي الشوال، عندما حطت عليهم سيارة من جيش الاحتلال لتحمل الخليفة شريف وإخوانه الفاضل والبشرى ونصر الدين وعبد الله وعلي وتتركه لصغر سنه يأكل من خشاش الأرض مع بقية النسوة دون والدته التي أبى المحتلون إلا أن ترافق المأسورين، وينتهي المطاف بالركب الحزين إلى قرية «المسلمية» حيث صنعت لهم نجلة أحمد شرفي رواكيب عاشوا تحتها حتى رأى المستعمر إطلاق سراح الخليفة شريف والفاضل والبشرى أبناء الإمام المهدي ليحلوا مع البقية في «الشكابة» جنوبود مدني. لم يبقَ الركب قليلاً حتى تحرش بهم الانجليز فتحركت بآخرتان إلى «الشكابة» وأطلقت مدافعها الرشاشة على الأنصار وأحضر الخليفة شريف والفاضل والبشرى وتم رميهم بالرصاص واثقلت أجسامهم بالحجارة ورموا بهم في منتصف النيل الأزرق، وبكت مقبولة محروقة من الحزن فرفعت ابنها في يأس وقالت قولتها المشهورة: درب المهدي،«هذا إبنه فاقتلوه مع إخوانه» وأطلق أحد الطغاة رصاصة إخترقت كتفه الأيسر ليقع فاقداً وعيه على صدر أُمه وإخواته، إنها مسيرة شابهت مسيرة الحسين رضي الله عنه. وأبت نخوة الأمير نقد الله «الكبير» ومحمد طه شقدي بود مدني القريبة من الموقع أن ترضى بهذا الهوان وذلك الذل فإتصلا بالحاكم العام الذي سمح للصغير وإخواته أن يقيما عند محمد طه شقدي بجزيرة الفيل بمدني على أن يزاول الصغير الحضور عند كل صباح إلى مبنى المديرية ويفارقها بعد الظهر فكانت كلمته المشهورة رضي الله عنه لمحمد طه شقدي: «أنت أبونا، لما الناس أبونا». سلام عليك أيها الإمام، وأنت بعد ذلك تخطوا خطوات الشباب الناهض المهموم بمقاسات الوطن العزيز فوضعته في حدقات العيون وحاصرك الاستعمار من كل جانب فبدأت في المسيرة الثانية لتحرير الوطن في هبة عظيمة جمعت فيها المال وداويت فيها الجراح النازفة وضممت ما تبقى من صناع الاستقلال الأول وجمعت حولك الجماهير الوفية وأنت ترنو إلى أعز أمانيك وهو الاستقلال المجيد الذي رفعت رايته وأنت صغير تتعارك الأسلحة وتحيط بك أهوال الاستعمار الجديد الذي تعاملت معه بالحكمة والعزيمة. كيف لا نجد صورتك إلى جانب إخوتك فقد بذلت المال والجهد حتى صار لا مال لك، وهذا لا يعلمه الا القليل من الأحبة الذين أوفوا بالعهد وتماسكوا بالخناصر حولك لا يهزهم ذهب المعز ولا يحول دونهم وجهك المضيء ولا يفوت عليهم سطرا واحداً من جهادك، فليعلم الذين يريدون أن يغيروا دفة التاريخ لأسباب تخص مصالحهم، فإن السفينة سائرة نحو مرماها، والعقيدة ثابتة، إننا نحييك أيها المجاهد الذي جاهدت فوصلت إلى مراميك، نحييك بعيداً عن محاككات السياسة، بعيداً عن البغض بعيداً عن الحسد، ونحيي من جيلك الذي صدق الوعد وحقق لنا استقلالاً نظيفاً.. يوم طفرت من عينيك الدموع، نحيي معك الأزهري المجاهد، والمحجوب اللجب، والفرسان الذين أهدونا سوداناً، لم نستطع المحافظة عليه. سلام عليك وعليهم في الخالدين.