اكتمل إجراء إستتفاء جنوب السودان كآخر مرحلة من مراحل تطبيق إتفاقية السلام الشامل، والتنيجة الراجحة لهذا الاستفتاء هو إنفصال جنوب السودان وتكوين دولة مستقلة تحقق رغبة النخب الجنوبية التي تتولى زمام الأمر في الجنوب الآن، ورغبة امريكا والدولة الإستعمارية السابقة وإسرائيل التي ترى انها بفصل الجنوب يمكنها الاستفادة بطريقة أفضل من الموارد الطبعية البكر التي يتمتع بها، كما يعتبر الفصل افضل وسيلة لوقف التعريب والاسلمة والتداخل الثقافي الذي يمكن ان يتم بالتداخل والتواصل بين الشمال والجنوب، وكما ذكرنا في مقال سابق، سبق ان ارسل الحاكم العام البريطاني أيام الاستعمار منشوراً سرياً الى مفتشي المراكز الجنوبية الثلاثة (واو، ملكال، منقلا جاء فيه ( ان انجلترا كقطر مسيحي لايمكن لها ان تساهم في سياسة تعضد إعتناق الاسلام بين اقوام من الوثنيين يبلغ عددهم ثلاثة ملايين وليست لديهم روابط جنسية أو اواصر قربى مع العرب) لذلك فإن السياسة الرسمية تقوم على إنتهاج سياسات وإتخاذ تدابير تساعد على عزل الشمال عن الجنوب كما جاء في منشورات السكرتير الاداري لحكومة السودان وقتذاك، حيث جاء في احد هذة المنشورات(ان سياسة الحكومة بالمديريات الجنوبية هي العمل على قيام وحدات عنصرية قائمة بذاتها أو وحدات قبلية ذات بناء ونظام يقوم وفق مقتضيات العدالة ، الحكومة الصالحة هي التي تشجع الاعراف والعادات والمعتقدات القبلية) وربما يسعفني الوقت فى مقال اخر فأكتب بتفصيل اكثر عن هذة السياسات والتي كانت تعرف بسياسات الجنوب. لكن المهم في الامر ان هنالك جهدا اَخر بُذل لقفل مناطق جبال النوبة وعزلها عن التفاعل الايجابي مع السودان الشمالي وهو ماعرف بسياسة النوبا(NubaPolicy) وابرز مهندسيها هو انجلس جيلان حاكم جبال النوبة في فترة العشرينيات من القرن الماضي والسكرتير الاداري فيما بعد فجيلان وهو من صمم سياسات تعمل عل عزل النوبة عن محيطهم العربي وقد اوردنا في ورقة سابقة اكثر من عشر نقاط تمثل جوهر سياسة جيلان المعروفة بسياسة النوبا، ولقد وجد الجانب المتعلق بالتعليم والذي ارتكز على تعليم اللغة العربية بالحرف الروماني خوفاً من ان تحمل مضامين ثقافية للنوبة، وجد هذا الجانب انتقاداً لازعاً من سير دوغلاس نيوبولد عندما تم تعيينه حاكما على كردفان عام 1933م، حيث ذكر انه غير راض عن خلط العاطفة بالسياسة التعليمية هذا بالرغم ان دوغلاس نيوبولد واصل في سياسة عزل النوبة ووصل الحد الى منع إدخال الكساء اليهم. هذا المقال غير مخصص للحديث عن السياسة الاستعمارية تجاه جبال النوبة والتي وصلت الى منع النوبة من الزواج خارج اهلهم الا بعد موافقة ضابط مختص، بل إعلان جبال النوبة منطقة مقفولة وبيان ان هذه السياسات فشلت بالطبع في تحقيق غرضها لكن ما اريد ان انبه اليه هو انه يوجد ثم تشابه بين أوضاع جبال النوبة والجنوب من حيث وقوعها تحت تأثير السياسة الاستعمارية المحرضة على العزل، يضاف الى ذلك العلاقات التي تشكلت بين جبال النوبة والجنوب ووصلت الى حد التحالف القوي بين حركة كومولو التي قادها المرحوم يوسف كوة، و الحركة الشعبية، بل وصل الامر الى حد اندماج كومولو في الحركة الشعبية وتكوين الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة ، وهذا بالطبع بالاضافة للجوار الجغرافي والمصالح الاقتصادية والتداخل الكبير بين جنوب كردفان وجنوب السودان، وهو تداخل لم يقتصر على قبائل النوبة ولكنه شمل القبائل الرعوية الاخرى ذات الاصول العربية التي لديها مصالح مشتركة مع القبائل الجنوبية، واذا اخذنا في الاعتبار ان ولاية جنوب كردفان والتي بلغ تعدادها السكاني حوالي 205 مليون نسمة بعد اعادة التعداد هي اطول الولايات الشمالية حدوداً مع الجنوب، فإننا لا نستطيع ان نغفل تأثير نتائج إستفتاء جنوب السودان على هذة الولاية، واذا كان جوهر الصراع السياسي في السودان هو صراع على السلطة والمال فإن هنالك على الاقل اربع مجموعات سياسية في الولاية تتصارع على السلطة، اوقل تتطلع لنيل نصيبها من السلطة هي : مجموعة الحركة الشعبية التي اعطاها بروتوكول السلام في الولاية نسبة 48% من السلطة التنفيذية والتشريعية في الولاية، وهي الان على وشك ان تفقد ذلك اوتدخل في معادلات جديدة لتوزيع السلطة تحددها الانتخابات القادمة، وهنالك مجموعة غرب كردفان التي فقدت ولايتها عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل وهي تريد ان تعوض هذا الفقدان بالحصول على نصيب معتبر في السلطة السياسية في الولاية التي ألحقت بها، وهنالك مجموعة الولاية القديمة التي انتقصت سلطاتها بدخول الحركة الشعبية والجزء الجنوبى من ولاية غرب كردفان السابقة ، ثم تأتي الاحزاب السياسية التي عانت من احتكار السلطة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية طيلة فترة الاتفاقية وهي تأمل وتنتظر حدوث تغيير يتيح لها فرصة المشاركة في السلطة، يضاف لهذه التعقيدات التحديات الكبرى المترتبة على انفصال الجنوب مثل تفاقم مشكلة أبيي ووبروز النزاع الحدودي في اكثر من نقطة مثل منطقة الليري وكاكا التجارية، اضف الى ذلك القلق الذي ينتاب كثيرا من الاسر جراء المصير المجهول لابنائها في الجنوب، وهنالك كذلك قضية المرتبطين إرتباطا وجدانيا أو عضويا بمؤسسات جنوبية ستصبح بعد اعلان النتيجة مؤسسات في دولة اخرى. جميع هذة العوامل تجعل إستنطاق النخب المثقفة من أبناء الولاية لإبداء ارائهم حول القضايا المتشابكة للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتأثر بالجنوب امرا في غاية الاهمية ويطرح نفسه بإلحاح شديد لذلك فإن مركز دراسات التماس قد وافق فورا على الدخول في شراكة مع كل من جمعية مندي الخيرية القومية ومفوضية شمال السودان لنزع السلاح والتسريح واعادة الدمج، لتنظيم تداول حول هذه القضايا من خلال ورشة تعقد يوم 22/01/2011م، ومن المتوقع ان تتناول أربعة محاور هي محور الوضع الدستوري على ضوء اتفاقية السلام الشامل ودستور السودان، ومحور العلاقة بين الجنوب وجنوب كردفان الحاضر والمستقبل، ومحور الرؤية الاستراتيجية لتحسين الاوضاع المعيشية، ومحور مستقبل منطقة التماس والتمازج بعد الاستفتاء، ومحور أبيي حقائق التاريخ وفرص الحلول، حيث سيتم تقديم 12 ورقة في هذة المحاور يبتدر النقاش فيها تسعة عشر من المختصين وستوجه الدعوة الى 300 ناشط من أبناء الولاية ومهتمين بقضايها، ولقد لفت نظري ونحن نحاول استكشاف القيادات والاكاديميين من ابناء الولاية الذين يمكن ان يقدموا الاوراق أو يناقشوها لفت نظرنا العدد الكبير من البدائل المتاحة، حيث وضح ان الولاية غنية جداً بالكوادر العلمية والعقول المفكرة التي يمكن ان تساهم في تقديم رؤى ناضجة تساهم في مواجهة كافة التحديات التي تواجه الولاية الان ، كما اتضح ان ابناء الولاية على درجة كبيرة من الوفاق والاستعداد لقبول الاخر، فالقيادات ال 36 الذين سيرأسون الجلسات او يقدمون الاوراق او يبتدرون النقاش فيها يمثلون مختلف الوان الطيف السياسي والاثني، ولم يعتذر احد أو يعترض عل احد، بل تحمس الجميع لهذة الورشة ونصح بأن يقود المركز منفرداً أو مع شركائه سلسلة من الحوارات تتبلور فيها الاراء حول القضايا المصيرية لان التعامل العاطفي مع مثل هذة القضايا مضر ويقود الى نتائج غير مرغوبة. جنوب كردفان يجب ان تلعب دوراً محورياً في تجسير العلاقة بين الشمال والجنوب اذا انفصل واصبح دولة مستقلة، ويجب ان لا يسمح ابناؤها بتحويلها الى بؤرة من بؤر النزاع او مسرح من مسارح القتال وكفاها ما عانت من تعطيل للتنمية وتدمير للبنية التحتية وتخريب للعلاقات الاجتماعية. ندعو الاستاذ احمد محمد هارون والي الولاية الى ان يلتقط القفاز وويستثمر هذه العقول التى تذخر بها الولاية في صياغة خطة أستراتيجية لتنميتها والنهوض بها استكمالاً لما بدأه من مشروعات، ونؤكد ان محور التنمية البشرية هو أهم المحاور، ومرة اخرى نؤكد ان هنالك دائما طرقا افضل لعمل الاشياء فلنبحث عنها.