السودان بلد متعدد الاعراق والثقافات والاديان يمثل سكانه خليطاً من اعراق ذات اصول عربية وإفريقية ، مثلت وفرة موارده الاقتصادية وتسامح مجموعاته السكانية عاملا اساسيا فى كبح الصراعات التى غالبا ما تنشأ على الموارد ، فوفرة الموارد اكسبت السكان الاصليين خصائص الكرم والتسامح وقبول الآخر واراضى السودان وموارده الطبيعية كافية لإستيعاب اضعاف العدد الحالى من السكان. تعتبر منطقة جنوب كردفان ونسبة لثرائها بالموارد والثروات الطبيعية وسعة ارضها ووفرة ميائها من اهم مناطق الجذب السكانى فى السودان حيث قصدتها قبائل عديدة مثل القبائل ذات الطبيعة الرعوية كالبقارة والابالة وقبائل شمال السودان المهتمة بالتجارة والعمل الديوانى فى وظائف الخدمة المدنية والعسكرية بالاضافة للقبائل المهتمة بفلاحة الارض وزراعتها مثل القبائل ذات الاصول النيجيرية والشادية وقبائل دار فور وغرب إفريقيا ، تداخلت هذه القبائل وتصاهرت مكونة نسيجا اجتماعيا تقل فيه الفروق والحواجزالاجتماعية والثقافية كما ان هجرة ابناء النوبة الكثيفة من الجبال الى مدن الشمال لاغراض الدراسة او العمل او غيرها تعتبر عاملاً آخر ساهم فى تلاقح الثقافات وتقاربها وتذويب الفوارق الاجتماعية والثقافية وتكوين الشخصية الخلاصية ذات المزاج الوحدوى ،هذه التطورات والتفاعلات الإجتماعية والثقافية والحراك السكانى الواسع الذى شهدته المنطقة افشل الخطة الموضوعة ايام الاستعمار الانجليزى والمعروفة باسم(Nuba Policy)وهى خطة تحاول عزل النوبة عن محيطهم الاجتماعى والثقافى وتحتفظ بهم بعيدا عن التأثيرات المتبادلة التى تحدث عادة بين المجموعات السكانية التى تتعايش وتتجاور فى منطقة واحدة ، خطة العزل التى ابتكرها انجس جيلان (مدير مديرية جبال النوبة) تقوم على حزمة من السياسات المتأزرة التى تهدف الى عزل النوبة عن التفاعلات الثقافية والاجتماعية التى تجرى فى محيطهم إبتداءا من سياسات تعليمية تحول بينهم وبين تعلم اللغة العربية والاسلام وانتهاءا بسياسات عزل كلى عرفت بسياسة المناطق المقفولة، لكن السياسة التعليمية التى اسندت التعليم فى منطقة هيبان وبعض مناطق النوبة الاخرى الى الفرع الاسترالى والنيوزلندى من ارسالية السودان المتحدة واعتمدت الدراسة باللهجات المحلية والحرف الرومانى خوفا من ان تحمل اللغة العربية مضامين ثقافية للنوبة هذه السياسة واجهت انتقادا عنيفا من بعض الاداريين الانجليز مثال جودين مدير التعليم ونورث كوت احد حكام مديرية جبال النوبة غير ان اكثر الانتقادات حدة والتى كان لها اكبر الاثرفى نقض هذه السياسات والغائها هى انتقادات الخبير اللغوى هيللسون، فقد قام هذا الخبير بجولة ميدانية فى جبال النوبة فى يناير 1932وقدم على اثرها نقدا فنيا شاملا فى شكل تقرير قُدم للسكرتير الادارى وضح فيه كل سلبيات تدريس النوبة بمنهج مختلف عن منهج الدولة الام فى الشمال قال هيللسون فى ختام تقريره ( إن النوباوى المتعلم سوف يكون غاضبا لتدريسه لغة ليست لها قيمة تعليمية بالنسبة له - ... « إذا درسنا النوباوى اللغة العربية على نهج المخطوط الروماني فإننا نتحمل مسئولية إننا سوف نواجه في المستقبل بنوباوى متنورا يسألنا عن السبب في تدريسه لغة ليست لها قيمة بالنسبة له ، لماذا خُدع ، ولن يقبل اجابتنا إذا اجبناه اننا كنا نُحاول تخليص روحه من الإسلام والقرآن) تقرير هيللسون دار الوثائق القومية فشلت السياسات التعليمية الخاصة بالنوبة والغى قانون المناطق المقفولة بل رحل الاستعمار وخلفته حكومات وطنية شارك بعض ابناء النوبة فى اعلى مستوياتها امثال المرحوم محمود حسيب وبعض المحافظين الذين تعاقبوا على حكم جنوب كردفان امثال القاضى عبد الرحمن إدريس و جبريل تية وحسن كندة كربوس وغيرهم، لكن الشعور بالظلم والتهميش ظل يلازم عدداً كبيراً من ابناء النوبة ويدفعهم الى الانغلاق على انفسهم وتكوين احزاب اقليمية خاصة بهم مثل اتحاد عام جبال النوبة الذى تكون عام 1964ونال العدد الاكبر من دوائر المنطقة فى البرلمان ثم تلاه الحزب القومى السودانى برئاسة المرحوم فليب عباس غبوش وشارك بفعالية فى الجمعية التأسيسية 1986، اما الحركة الشعبية شريك المؤتمر الوطنى فى حكم جنوب كردفان وفق بروتوكول جنوب كردفان الموقع فى نيفاشا 2005 والمنافس الاقوى فى الانتخابات التكميلية التى جرت فى مايو الجارى للتنافس على منصب الوالى ومقاعد المجلس التشريعى (نالت الحركة عشر دوائر جغرافية وخسرت منصب الوالى بفارق ضعيف حسب النتائج الاولية) هذه الحركة هى صورة اخرى من صور الانغلاق على النفس والرجوع الى مربع الاقليمية فرغم الإنفتاح الكبيرالذى اعقب توقيع الاتفاقية وإنتماء عدد كبير من القبائل المختلفة مثل البقارة وقبائل تقلى والقبائل الاخرى الا ان الحركة الشعبية ظلت محتفظة بنزعة الانغلاق التى تأسست عليها وفرضتها الظروف الامنية التى عاشتها ايام السرية والمطاردة ،وكما يروى المرحوم يوسف كوة فى آخرمقابلة اجرتها معه الصحفية الانجليزية Nanne op t Ende يوم 12و13فبراير2001اى قبل اقل من خمسين يوما من وفاته فى لندن 31/3/ 2001 فإن تنظيم كوملو يعتبر هو النواة الاساسية للحركة المسلحة لابناء النوبة والتى إندمجت فى حركة جون قرن واصبحت تسمى الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة. يقول يوسف كوة (انه فى عام 1977ايام الدراسة فى جامعة الخرطوم انعقد فى الخرطوم اجتماع غاية فى السرية اختيرت عضويته بعناية شديدة من ابناء النوبة فى مناطق كادقلى والدلنج فى حدود 30-40 مشاركا واستمر اربعة ايام حاضر فيه عدد من الاجانب امثالJames C Faris عالم الانثربولوجى المهتم بالتراث النوبى والذى كتب عن كاونارو وكذلك عالم اللغويات R.Stevenson والذى عاش اكثر من عشرين عاما فى جبال النوبة وغيرهم وانتهى الاجتماع بتكوين كومولو او Youth movement برئاسة يوسف كوة وينوب عنه عبد العزيز آدم الحلو والتى اصبحت فيما بعد نواة الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة ) لكن يوسف كوة ذكر انه عندما تم تفويضه من كومولوللتفاوض مع قرن فى اثيوبيا ذكر له ما يلى :طالما ان الحركة الشعبية تدعو الى سودان جديد موحد فنحن كتنظيم فى جبال النوبة لا مانع لدينا من الانضمام للحركة اذ لا توجد هنالك قيود تمنع ذلك فرحب قرن على الفور وانضم يوسف بتنظيمه كومولو وكُلف باول مهمة له فى الحركة الشعبية هى تمثيل الحركة فى اليمن الجنوبى0 نشأت الحركة فى جبال النوبة بعقلية كومولو المنغلقة على النوبة دون الاثنيات الاخرى فى جنوب كردفان بل ليس حتى كل النوبة وعندما جاء السلام حاولت الحركة ان تستدرك مافات عليها وتوسع صفها فتبنت خطابا اكثر تصالحا من خطابها الاول واستطاعت من خلاله ان تكسب عضوية جديدة من المسيرية والحوازمة وتقلى والقبائل ذات الاصول النجيرية وقبائل النوبة التى لم تنتمِ للحركة قبل السلام لكن مصداقية الحركة كانت تتعرض على الدوام للاختباروتوضع فى المحك نتيجة لسلوك بعض منسوبيها الذين يميلون الى الانكفاء على النفس ورفض الآخرين بل حاولت الحركة ان تحتفظ بمناطق خاصة بها معزولة عن حركة التواصل التلقائى بين الناس وابتدعت نظاماً تعليمياً وقضائياً وشرطياً خاصاً بها استعصى على الإختراق حتى عن طريق الترتيبات الامنية التى فرضتها الاتفاقية ، شهدت الفترة التى سبقت الانتخابات حركة خروج كبيرة من الحركة الشعبية نتيجة لانفصال الجنوب وتمسك الحركة بخطابها غير المتوازن وغير المتوافق مع ثقافة اهل الشمال والذى قادته قيادات جنوبية ، النتائج الاولية للانتخابات التى جرت اوضحت ان الحركة قد نجحت فى عزل المناطق التى كانت تسيطر عليها من اى تأثير آخر فإذا استبعدنا فرضية التزوير فى هذه المناطق فإن المرء ليعجب كيف يفشل والى الولاية من الحصول على اصوات تحسب على اصابع اليد فى مناطق احدث فيها ثورة تنموية متكاملة؟؟ القراءة الاولية لما رشح من نتائج الإنتخابات توضح ان الطبع قد غلب على التطبع وان الحركة الشعبية فى جنوب كردفان قد رجعت الى دائرة الانكفاء على النفس ولو استمر الحال الى ما هو عليه الآن ستتحول الى حزب اقليمى مثلها مثل اتحاد عام جبال النوبة والحزب القومى السودانى وهى بذلك مرشحة لفقدان المزيد من العضوية التى انضمت اليها نكاية فى المؤتمر الوطنى وليس قناعة ببرنامجها، اما المؤتمر الوطنى فى جنوب كردفان فإن هذه التجربة الانتخابية التى جعلته يتصبب عرقا ويرفع صوته مستغيثا ومستصرخا كافة ولايات السودان لنجدته ويصرف بسخاء لتمويل حملته الانتخابية هذه التجربة كفيلة بجعله عليه ان يدخل فى خلوة طويلة يراجع فيها حساباته ويمارس فضيلة النقد الذاتى بشفافية وتجرد حتى ينقذ جهازه الحزبى المترهل الذى يحتاج الى مزيد من الترميم والاصلاح ، وهو امر طبيعى فى حزب تمدد وتضاعفت عضويته فقياسا على قانون قصور الطاقة فى الفيزياء كلما زادت العضوية كلما زادت الحاجة الى مزيد من الجهد للإحتفاظ بالحزب منظما متماسكا قادرا على مواجهة التحديات التى تنتصب امامه ، لا يعقل ان يفشل حزب ممسك بزمام السلطة ويملك امكانيات ضخمة من ان يُحدث إختراقاً فى امبراطوريات الحركة المقفولة الا إذا كان هنالك خللاً فى الجهاز الحزبى، فالحالة تعنى فشلاً فى نواحى عديدة منها تقديم القدوة المقنعة للآخرين وعدم القدرة على الطرح الفكرى الجاذب الذى يفك شفرة المناطق المقفولة اما ضعف الإقبال على التصويت فى مناطق نفوذ المؤتمر الوطنى وإرتفاعه فى مناطق نفوذ الحركة فيشير اما الى ضعف الدافعية فى مناطق المؤتمر الوطنى وقوتها فى مناطق الحركة او ضعفها فى الاثنين، ووجود شبهة تزوير فى مناطق الحركة فما زال الوقت مبكرا لتحليل نتائج انتخابات جنوب كردفان وإستخلاص الدروس المستفادة إذ لم تُعلن المفوضية النتائج بعد ولم تُفرج عن البيانات والمعلومات الاحصائية الكاملة (حدثنى احد المراقبين انه عند إعتراضه على تصويت بعض منسوبى الحركة لصغر سنهم قال مندوب الحركة الشعبية ان عمرهم اكثر من عشرين سنة لكنهم جعانين لان ناس المؤتمر الوطنى اكلوا حقهم ولازم يصوتوا عشان يرجعوه) انا اعتقد ان المحصلة النهائية للعملية الانتخابية ايجابية اذ تُنبئ بان الولاية مقبلة على مرحلة تحول ديمقراطى حقيقى الفيصل فيه الجدارة والطرح المقُنع وستُفرز قيادات جديدة مبرأة من كافة انواع الفساد.