والمسك والعنبر هما (الأبيض والأسود).. أما (وادي عبقر) فهو ما تعارف عنه انه موطن الجن.. والجن معروفون بأنهم أوتوا فعل ما لا نستطيع نحن البشر فعله.. لذا نحسبه من (الخوارق). ونحن نصف الابداع بأنه عبقري والمبدع كذلك... حين الاتيان بشئ مختلف ومدهش.. وهكذا. هذه المقدمة سقتها كمدخل لتعليقي على مسرحية (أبيض وأسود) التي قام بتأليفها واخراجها الفنان المبدع، (العبقري) الأستاذ/ محمد نعيم سعد. وهذه المقدمة هي بالضبط ما قلته اجابةً لسؤال الأستاذ لي عن انطباعي عن المسرحية بعد انتهاء العرض، في أسابيعه الأولى. الاستاذ محمد نعيم هو أحد أفراد عائلتي الكبيرة، وبرغم هذا فإن شهادتي فيه ليست مجروحة، بل هي تعزز ما أكتبه عن عبقريته. هو انسان هادئ، بسيط في تعامله وتناوله للمسائل الحياتية اليومية، وقنوع جداً بما لديه - على قلته، رغم ضخامة اسمه - حلو المعشر سهل التعامل، ودود جداً.. لا يعقد المسائل.. لم اسمعه أو اسمع عنه أبداً انه انشغل بأمور الآخرين أو أموره معهم إلا بما هو ايجابي وحميم في سبيل التواصل وتمتين العلاقات المتبادلة. يحب فنه جداً ويخلص (بل ينقطع) له.. هو انسان خلاق بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. في مناسبتين خاصتين جداً لأسرتي الكبيرة وكانت إحداهما (كرامة)، والحضور مشغول بالطعام و(الونسة).. وقف فجأة الاستاذ وخلق جوّاً من البهجة والسرور، بدون أن يشارك فيه هو كممثل أو أي شئ آخر غير أنه خلق كل شئ.. دعا الاستاذ الناس للونسة عبر برنامج ابتدعه في لحظته وفاجأ به حتى من شاركوه فيه، وقال «حنقدم منوعات وما عايزين فيها أي PAUSE) أي أن تتالى فقرات البرنامج مع عدم السماح خلالها بأي فجوة أو فراغ. والبرنامج كان مرتكزاً على معرفة الأستاذ بكل أفراد الأسرة فاستخلص من كلّ فردٍ ما يكتنزه من جوانب فنية، أدبية ...الخ. كان وبصورة سريعة ولبقة يقدم من يختاره مع نُبذة قصيرة عنه، فيما يخص موهبته، التي قد لا يعرفها الحضور، ولا هو يعلم أن الاستاذ يعرفها عنه!! فقدّم من يغني ومن ينظم الشعر ومن يرسم ومن يعزف الجيتار ومن يقلِّد الآخرين ومن يقدم اسكتشات ...الخ علماً بأن الاستاذ قد صاهر عائلة فيها كل هذه المواهب المذكورة.. أسرة المرحوم المهندس ابراهيم محجوب والد زوجته الممثلة الشابة خفيفة الظل (سحر ابراهيم) هي أسرة فنية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان وتنوع.. سنتطرق لها في مقال قادم إن شاء الله. ما قدمه الاستاذ في تلك المناسبات حدث بصورة فجائية وغير مخطط لها.. ولكنها تفجّرت من عبقرية محمد نعيم سعد وروحه المبدعة التي نفضت الغبار عن تلك الدرر.. فتتالت التابلوهات (ومن غير أ PAUSE)، والسعادة رفرفت بأجنحتها على الحضور حدّ الانتشاء. هذه السعادة شاهدتها تغمر الحضور الطيب الذي أمَّ مسرحية «أبيض وأسود» التي عُرضت بقاعة الصداقة، وهي من تأليف واخراج الأستاذ محمد نعيم سعد. وان كان ما ذكرت قد حدث في مناسبة خاصة وبصورة فجائية تلقائية فلكم أن تقدروا مستوى الابداع لتأليف وتجهيز واعداد وتنفيذ واخراج مسرحية تصاغ لجمهور ومن شخص في قامة الاستاذ محمد نعيم! وما أكتبه هنا هي خواطري الخاصة وقد تتوافق أو تختلف مع رؤية الاستاذ الذي يكون كما قال الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي:- أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم حين أوصى في الأثر النبوي بالأسودين (التمر والماء) كان هناك مجاز يتيح وجود اللون الرمادي، وحين يحذر الأطباء من الأبيضين (السكر والملح) فإنه ليس منعاً مطلقاً، ويتيح أيضاً مساحة للون الرمادي وهي مساحة يتداخل فيها اللونان (الأسود والأبيض).. هو في هذه المسرحية للتأمل والتأني للتخلص مما هو أسود والانطلاق نحو الأبيض. في هذه المسرحية وبعبقريته الفذة، استغلّ ما يُعرف عن «الجن» من خفّة وتخفّ لخدمة النص تماماً، وجعله عموده الفقري.. وعبره تنقّل بخفة الجن وخفّة روح الأستاذ المبدعة عبر الأزمان ما بين الحاضر المعاش إلى الماضي السحيق والسحيق جداً.. وعبر الجوار والمواقف كان استشراف المستقبل.. كلمة السر في كل هذه الرحلة هي الشفرة (هِشْشْ)! أي عبقرية هذه؟! وحين بروز معضلة فنية في سياق الحدث لتباعد الأزمنة والقفز عبرها فإن الحل عند الاستاذ غير مستحيل، فالجن موجود وعقل الاستاذ حاضر بتجميد الصورة والحركة.. والانتقال الأثيري ...الخ! ومن يدري؟ فقد يكون الأستاذ/ محمد نعيم قد سبق عصره واستشرف بخياله ما يمكن أن يكون حقيقة، لاحقاً، مع سباق الخيال والحقائق العلمية.. من كان يصدّق ان تتحدث من أقاصي الدنيا مع آخرين بالصوت والصورة؟ كل ما ذكرته لم يخرج عن مساحة غرفة بديكور بسيط تتحرك قطعه إلى أعلى وأسفل يمنة ويُسرى.. بإحلال وإبدال في ظلام رغم أنه متعمد لزوم التغيير - وإلا أنه لا يخرج عن سياق الجن والكمبارس الذي يتحرك كالأشباح بالملابس البيضاء الفضفاضة فيما أتيح من ضوء خافت.. حفلت المسرحية بدروس عالية في الوطنية باستدعاء بعض الأحداث التاريخية المهمة، مؤكداً على الارث التاريخي (القديم والمعاصر) الموصَّل والقيم الماجدة وأهم من ذلك التأكيد على معنى المواطنة السودانية البحتة أي الانتماء والانتساب للسودان. المسرحية عرضت كذلك مجموعة من الفنون المختلفة منها الزار ومعه رقص الحبش «والجن» وحفلات راقصة منها رقصة العروس وطقوس الجرتق وأغاني الحماسة والأغاني الشعبية (التي لم ينس الممثل (جلود) حضن الرق فيها على طريقة محمد أحمد عوض.. وعرج على طقوس عروس النيل في عهد الفراعنة.. والنضال أيام المهدية وثورة اللواء الأبيض في 1924م برموزها والنظام العام والبُطان حين قال الممثل (ود الفادني) انه يُريد أن (يركِز) في حفلة الفرح.. وصاحب كل هذا التوثيق، تسجيله للأدوات وللأزياء في كل تلك المراحل الزمنية: الاجتماعية والادارية والرسمية والمهنية... وبهذا فقد عكست ثقافات وفنون وأساليب حياة ومفاهيم ونضال ووطنية كل الحقب التاريخية.. كل هذا الذي ناءت بحمله المجلّدات، عرضه الاستاذ العبقري محمد نعيم سعد في مساحة زمنية لم تتجاوز ساعتين ونصف الساعة، اختار له ممثلين لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وأوصلوا رؤيته بنجاح لاشرافه الدقيق واللصيق، ولخبرتهم وتلقائيتهم وتفانيهم... أي ان المسرحية بكل هذا النجاح تمت بمحدوديةٍ في الزمان والمكان والشخوص. ورغم أن الاستاذ محمد نعيم يُعد من أفضل الممثلين - ان لم يكن أفضلهم - إلا أنه لم يستأثر بأي دور فيها.. بل إنه بأريحيته وروحه السمحة تنازل عنها لزملائه لتوصيل رؤيته وأفكاره - وطبعاً بإشرافه - لا ننسى للاستاذ محمد نعيم ابداعاته - مع زملائه - منذ محطة التلفزيون الأهلية وأعمال فرقة الأصدقاء منها مسرحية المهرج الشهيرة - وغيرها - التي طال عرضها بفعل الاقبال الطاغي من جمهور الشاهدين. وهذا يقودني إلى ما لاحظته من تفاعل الجمهور مع مسرحية (أبيض وأسود) والتي اعتقد انها أرضتهم باختلاف درجة تفكيرهم واستيعابهم للمطروح.. ولقد رأيت تفاوتاً في الحضور بدءاً من (أهل الكار) أنفسهم، مثل الأستاذ الكبير ابراهيم حجازي وكذلك جعفر سعيد الريح في مقدمة المسرح، وقابلت بعض الأطباء، حضروا مع أفراد أسرهم وكل الجمهور الذي غصّت به قاعة الصداقة تجاوب مع فقرات المسرحية والقفشات المضحكة والتلميحات الذكية واللفتات الصريحة والمواقف الوطنية وتفاعله كان ما بين تصفيق حار، و(صفير) بإعجاب، وضحك من القلب، وسعادة ارتسمت على الوجوه حتى بعد انتهاء العرض وعند مغادرة القاعة، لذا المسرحية كانت بحق: (مسك وعنبر). الأساذ محمد نعيم سعد أحبَّ واحترم تاريخه ووطنه وجمهوره. احفظوا له منذ الآن حقوق ملكيته الفردية لهذه الرؤية العبرقية بخياله المبدع الفنان التي ربما تصح وتتحقق في مقبل الأيام، واحفظوا لي معه تنبؤي هذا.. وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.