ندوة الشيوعي    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أشواق للسيف المبصر.. مشاهدات من العصر»
قراءة وتعليق حول كتاب
نشر في الصحافة يوم 22 - 01 - 2011

في آخر لقاء للسكرتير العام للحزب الشيوعي الاستاذ محمد ابراهيم نقد مع جماهير عطبرة بميدان المولد، تحدث عن تعلق ناس عطبرة الشديد ببعضهم البعض، وحكى عن ذلك بعض المواقف الطريفة. ولعل الاستاذ موسى ابراهيم محمد وكيل وزارة المالية الاسبق قد اكد شيئاً من ذلك، وزاد عليه بالحديث عن تعلق ناس عطبرة بها، فنجده يقول: «كنت كلما ضاقت بي الحالة والزحمة القاتلة اخطف رجلي لقضاء يوم او يومين بها واعود، فكان الاخ ابو زيد يسألني احياناً مستنكراً ما هذه العطبرة الساكنة فيك؟ فأقول له متى ما عبر بنا القطار الكبري داخلاً اليها احس بالعافية تسري في جسدي، واشتم رائحتها تملأ جوانحي حتى رائحة الزبالة التي تكسو منازلها الطينية لها طعمها الخاص المحبب لنا نحن أبناءها».
وذلك عبر كتابه القيم: «اشواق السيف المبصر.. مشاهدات من العصر» والاستاذ موسى ابراهيم من الذين شبوا في حي الموردة في مدينة عطبرة، وهو الحي الذي سبق لي ان ذكرت في احدى مساهماتي عبر هذه الصحيفة، ان الاوائل في مدرستنا عبر المرحلتين الاولية والوسطى كانوا في الغالب منه، وعلى سبيل المثال: موسى الحاج الشفيع، احمد عبد الرحيم، عباس سعيد، حسن البطري، عمر ابراهيم، السر ابراهيم، عبد الفتاح ابراهيم. ولم يكن لهذه القاعدة استثناء الا عبر كامل محمد سيد أحمد وابراهيم عبد الحفيظ حسان من احياء المربعات وامبكول، ولعله الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وقد صدر الكتاب في عام 2010م عن دار عزة للنشر والتوزيع. وقد قسم المؤلف الكتاب الى احد عشر باباً، وقد تميز الكتاب بالصدق الشديد والشفافية في كل سطر. ويختم الاستاذ موسى كتابه قائلاً: «ولا يجدن منتقد حرجاً في انتقاد ما سطرت، لكنني اقول مسبقاً انها الحقيقة التي عشت وشاهدت يسألني عنها ربي.
القائل «ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا».
والصدق والشفافية هي صفات عرف بها الاستاذ موسى ابراهيم عبر تجارب حياته، ومن خلال عمله في وزارة المالية التي عمل بها منذ عام 1966م، وتقلد فيها منصب الوكيل حتى عام 1990م، حيث صدر قرار بالغاء وظيفته واحالته للمعاش. ويصف القرار بأنه كان قراراً عبقرياً وفريداً لم يشهد تاريخ الخدمة المدنية مثيلاً له من قبل.. ولا اظنه تكرر.
وعبر الكتاب يحدثنا عن نشأته في مدينة عطبرة، ويتذكر بضبابية حسب تعبيره سحب الدخان تتعالى في سماء الجزء الغربي من المدينة متجهاً في السماء الى الجنوب، ذلك كان حريق المخازن الشهير، ويتذكر كذلك إضراب عمال السكة الحديد.. اضراب الثلاثة وثلاثين يوماً كما كان يُسمى، ويذكر كذلك ظهور نساء غريبات بيضاوات اللون سوداوات الجلابيب الطويلة والطرح يتجولن ويطرقن المنازل احياناً طالبات المساعدة والعون، لا يشبهن امهاتنا ولا نساء الحلب الغجر.
ويقول كنا نسأل عن اولئك النسوة الغريبات، فيقال لنا: «ديل عرب فلسطين.. يحتاجون الى المساعدة» ويذكر كذلك ذلك اليوم الحزين الذي عمّ فيه الحزن المدينة يوم ضربت قوات الحكومة تجمع العمال بالقنابل، حين احتشدوا للاعتراض على الجمعية التشريعية، فقتلوا الكثيرين الذين خلدت المدينة ذكراهم حتى اليوم قرشي الطيب ورفاقه.
وقد درس الكاتب كل مراحله الدراسية قبل الجامعة بمدينة عطبرة، ويصف مدينة عطبرة بأنها كانت تضج بالنشاط السياسي، ويقول «كنا نتحلق حول صينية الغداء مع الوالد والعم ادريس، وكانا يتحدثان بحماس يوما بعد آخر عن قوة مظاهرة العمال، وكثيراً ما كانا يتحدثان بحماس شديد عن شراسة قاسم أمين والشفيع في قيادة المظاهرة وتصديهم، ورجال آخرين منهم عبد القادر سالم وسليمان موسى، لرجال البوليس». ويقول «كنا نتابع الحديث بشغف شديد، ولا ندري من هم هؤلاء الناس، لكننا نتصورهم كالابطال الذين نسمع عنهم في الأحاجي».
ويحدثنا عن جمال المدينة في تلك الفترة من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي عند التحاقه بالمدرسة الاميرية الوسطى، فيقول: «كانت الفصول تقع وسط مجمع من الحدائق والميادين الخضراء في الجزء الجنوبي الغربي المجاور لنهر النيل.. وكان هنالك ميدان كبير منجل للكرة والجمباز وميادين اصغر حجماً للباسكت بول والتنس، ثم كانت الجنينة الملاصقة للجزء الجنوبي من الفصول التي توجد بها الاشجار المثمرة من برتقال ويوسفي وقريب فروت وليمون كبير الحجم، كانت أغصانها تتدلى من شبابيك الفصول بثمارها في بعض الاحيان، عالم جميل كل شيء فيه مختلف عما ألفناه قبلاً. والمعلمون كانوا مختلفين تماماً، مستوياتهم كانت رفيعة ابتداءً من هندامهم ومروراً بقدراتهم، ونوعية العلوم التي يدرسونها، وحزمهم مع التلاميذ واصرارهم على الانضباط والاتقان والتميز ورفقتهم في نفس الوقت، بحيث يكتسبون احترام التلاميذ وودهم كذلك». ويذكر منهم سعد أمير وشيخ أبو زيد محمد الأمين.
ويصف المدرسة الاميرية بأنها كانت عالماً قائماً بذاته، ويتحدث عن أسلوب الادارة ونظامها الدقيق المنضبط كما الساعة، وكلها كانت علامات للرقي والعراقة والاصالة.
ويتحدث عن العلوم التي تلقوها ويقول: «حفظنا اجزاء باكملها من القرآن ثم آيات مختارات ممتلئة بالحكمة والموعظة وتحض على مكارم الاخلاق، هذا اضافة للتلاوة المنتظمة على مدار ايام الاسبوع، والاحاديث النبوية وشرحها، فقد زودونا بكنوز لا تنضب تكاد تكون غطت كل الاصحاحات». ولعل في هذه المعلومات رداً مفعماً على الافتراءات التي نشرها البعض منذ اوائل التسعينيات من القرن الماضي، حيث زعموا أن مناهج الدراسة قد وضعها المستعمر البريطاني وقصد بها اهانة الاسلام ونبي الاسلام. وبالطبع فهذا افتراء مفضوح، حيث ان المناهج لم يضعها الانجليز وانما وضعها سودانيون افذاذ كل في مجاله، عبد الرحمن علي طه، عبد الله الطيب، أحمد الطيب، عبد اللطيف عبد الرحمن، وذلك عبر معهد بخت الرضا الذي وصف عبد الرحمن علي طه خريجيه من المعلمين بأنهم كانوا دق حلب في إشارة إلى متانتهم وحذقهم في عملهم، معهد بخت الرضا الذي يصفه الفكي عبد الرحمن بأنه بينه واتبرا مشابه كثيرة: البيوت تتشابه مساحة وخرطة ولوناً، الناس يتشابهون سلوكاً حميداً، اتبرا، القطر، بخت الرضا، الولد، وجودت كلتاهما عملها ونجحت، وكان الجزاء القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد.
وقد كان الباب الثاني بعنوان «في رحاب عطبرة الثانوية، البراعم تتفتح». وكان قد تم ختم الباب الاول بقوله: «إن الانتقال الى عطبرة الثانوية لم يكلفهم سوى عبور شارع الاسفلت الذي يفصل بين المدرستين من الشمال الى الجنوب، حيث بنيت الثانوية فوق شاطئ النيل مباشرة».
ويورد في بداية هذا الباب شعر التيجاني يوسف بشير مخاطباً المعهد العلمي بام درمان:
يا معهدي ومحط صباي من دار تفتق عن شباب نابه
هو معهدي ولئن شكرت صنيعه فأنا ابن سرحته الذي غنى به
ويعلق الأستاذ موسى بقوله: «ليت شعري ماذا كان سيقول لو انه كان طالباً بالثانوية عطبرة، كان ابداعه سيكون مضاعفاً».
ويصف تلك المدرسة بأنها «ابداع اجتمعت عليه عبقرية ثلة من القيادات والمربين العظماء والافذاذ وطلاب صفوة، كأنما جمعتهم العناية الالهية ليصنعوا مجتمع تلك المؤسسة التربوية المتفردة في انسجام وتناغم يفوق قدرة الواصف على وصفه».
ويصف الاساتذة بقوله «لله درهم من عباقرة كانوا معلمين لنا بالنهار، ومدربين رياضيين لنا في الاصائل، ومشرفين علينا اثناء المذاكرة في المساء، ومشرفين على طلاب الداخليات وكل شؤونهم، ومرافقين لنا الرحلات.. وفوق كل ذلك كانوا لنا نعم الاصدقاء يا الهي ما هذا؟. ووقتنا كله كان مكرساً للمدرسة.. استغرقتنا واستهوتنا وشغلتنا عن كل شيء سواها».
وقبيل ختام هذا الباب يقول:
«وبحكم النشأة الأولى في مدينة عطبرة وفي كنف وتحت رعاية أساتذتنا الأجلاء ترعرعت البراعم ونمت وبدأت تتفتح ازهاراً يانعة، تشرّبنا وتعطّنا بحب الوطن. وانغرست فينا مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة والاخاء والصدق».
ويخصص الكاتب الباب الثالث للحديث عن جامعة الخرطوم بعنوان: «جامعة الخرطوم- النقلة الكبرى والفضاء الرحب، ويصفها، اي جامعة الخرطوم، بأن كل شيء فيها مصمم على غرار أعظم واعرق الجامعات البريطانية»، ويصفها بانها كانت ركناً حصيناً وعصياً، وكانت في نفس الوقت آفاقاً رحبة لا تحدها حدود، فكل شيء كان معداً ومتاحاً ومهيئاً كاحسن ما يكون، فكانت مركزاً كبيراً للصقل والتجلية وتفجير الطاقات وعتقها للانطلاق في كل الآفاق، وكانت مطبخاً ساخناً لانضاج القيادات وتفريخها والدفع بها لمختلف مجالات التخصص.
ويحدثنا الكاتب عن انتمائه في الجامعة للجبهة الديمقراطية، وذلك أثناء حديثه عن النشاط السياسي لطلاب الجامعة ويقول: «وبحكم اننا وجدنا كل او اغلب من سبقونا من ابناء عطبرة أعضاءً من الجبهة الديمقراطية فقد لحقنا بهم»، ويقول كذلك: «وأذكر انه مما شجعنا على الانتماء للجبهة الديمقراطية وقتها وجود قامات سامقة بها ممن سبقونا من أبناء عطبرة الثانوية، أذكر منهم: عبد الله صالح، عبد الله احمد ابراهيم محسي، عبد الله علي ابراهيم، جعفر محمد صالح المر، تاج السر محمد خير خوجلي، فتحي محمد الفضل، صديق عمر وحاتم عبد العال حمور».
ويخصص جزءاً كبيراً من هذا الباب لنضال الطلاب ضد النظام الدكتاتوري العسكري وثورة أكتوبر ودور وتضحيات الطلاب، ويذكر أنه قبل أن يوارى جثمان الشهيد القرشي في مثواه، كان شاعرنا محمد عبد الحي قد أخرج درته:
هذا عريس المجد جاءك يا ردى
فافتح ذراعك واحتضنه مزغردا
لك في جبينه من دمائه وردة
حمراء قانية التفتح والندى
ويختم هذا الباب فيذكر أن جامعة الخرطوم ارضعتهم عشق الوطن وسلحتهم بالعلم والمعرفة، وزودتهم بالمثل العليا، وتوجت هاماتهم باكليلها العظم المتمثل في شعارها المنارة المحفورة باعلى شهاداتها وبداخلها «الله العلم الوطن»، ودفعت بهم الاحضان الوطن الرحبة ليكملوا المسيرة ويردوا التحية والجمائل لاهل السودان باحسن منها، وكأني بود المكي يصدح باسمهم جميعاً:
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا ماءً وخضرة
ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكرى
وكان يمكننا الاحتفاء بهذه الفقرة في مديح جامعة الخرطوم، وهي جديرة بأكثر من هذا المديح، وكان يمكننا الاحتفاء بخريجيها عبر مختلف الحقب، لأن جامعة الخرطوم قد أرضعتهم بالفعل عشق الوطن، لولا اننا لا نستطيع غض الطرف عن بعضهم ممن يصح في حقهم أن نقول إن النار تلد الرماد، فقد كان هذا البعض مثالاً للتفوق وعض الأصبع الذي طالما اسدى لهم الجميل من الذين درسوا جميع مراحلهم الدراسية بالمجان، دراسة وسكناً وطعاماً وبعثات دراسية، تنكروا لكل ذلك واصبحوا حماة للطفيلة والقيم الطفيلية، فقاموا بالغاء المجانية في التعليم الجامعي، وتركوا الطلبة والطالبات هائمين على وجوههم. ولعل مسلسل «الشيمة» الشهير قد فضح النتائج التي ترتبت على ذلك التخريب الذي تم قصداً وعمداً.
وابتداءً من الباب الرابع وحتى الحادي عشر، اخذت ابواب الكتاب عناوين مختلفة، ولكنني فكرت في انها يمكن أن تأخذ عنواناً واحداً اذا سمح لي الاستاذ موسى، وهذا العنوان هو «مأزق رجل الخدمة المدنية المنضبطة والنزيه في ظل اوضاع سياسية غير مستقرة ومتخبطة» ويذكرني هذا المأزق وتلك الاوضاع غير المستقرة والمتخبطة برواية «ضو البيت» للطيب صالح، فحين تقاعد محيميد من الخدمة قبل أن يبلغ سن التقاعد، كان يردد عند عودته الى بلده: ان طال الزمن وان قصر سيسألونه، سيسأله ود الرواسي في الغالب، سيقول له:«ما بالك تقاعدت وانت لم تبلغ سن التقاعد؟» سيقول له: «أحالوني على التقاعد لانني لا أصلي الفجر في الجامع»، سيقول ود الرواسي: «هل هذا جد ام هزار؟» سيقول محيميد: «عندنا الآن في الخرطوم حكومة متدنية، رئيس الوزراء يصلي الفجر حاضراً في الجامع كل يوم، واذا كنت لا تصلي او كنت تصلي وحدك في دارك فسيتهمونك بعدم الحماس للحكومة.. ان تحال للمعاش كرم منهم». يدهش ود الرواسي ويقول: «اما عجائب»..!! وقد تم تلخيص ذلك في الغلاف الخلفي للكتاب، حيث ورد أن الكاتب موسى ابراهيم اجتهد ليجعل من نفسه رجل خدمة مدنية منضبط، لكن عواصف السياسة ضربت أشرعته، فمشى فوق اشواكها والغامها رغماً عنه. واضيف انا كاتب هذه المساهمة بعد مطالعتي للكتاب، ان تلك العواصف كانت في منتهى القسوة.
ويبدأ الكتاب هذه الابواب منذ الباب الرابع، فيذكر «ان جامعة الخرطوم أبت ان تترك دررها تنتثر بلا نظام، فيفلت بعضها من بين أنامل الوطن، فمع إعلان النتيجة النهائية طلبت منا الادارة تعبئة فورمات يبين فيها كل واحد بأي الوزارات او الوحدات الحكومية يرغب في الالتحاق، وان نعود بعد لقاء الاهل واحتفائهم بنا في ظرف اسبوعين، وكان ان وجدنا قوائم معلقة ببوردات الادارة تم توزيعنا بموجبها، وكنت أنا ضمن مجموعة وزارة المالية التي استقبلتنا بكل حفاوة، ولم نخضع لأية معاينات، وبعد ان استكملت اجراءات التوظيف والتسكين بالوظائف تسلمنا مهامنا رسمياً في اليوم الخامس عشر في مايو 1966م».
هذه الفقرة الطويلة من كتاب الأستاذ موسى، اقترح ان تهدى للذين خربوا التعليم العالي والجامعي بما سمَّوه زوراً وبهتاناً بثورة التعليم، فقاموا بافتتاح الجامعات بدون اي احتياج لها، فكانت النتيجة عشرات ومئات من العاطلين عن العمل، وفي الحقيقة فإن الغالبية العظمى من خريجي هذه الجامعات المزعومة قد أصبح بحسب المثل السوداني العميق «لا هو حنضلة ولا بطيخة». ولعل خير من وصف حال هذه الجامعات العشوائية الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد حين تساءلت، هل هذه جامعات؟ إنها مراكز تعبئة سياسية للجبهة الإسلامية.
وقد سار كاتبنا الأستاذ موسى إبراهيم فوق الأشواك والألغام، فنجده في النظام الشمولي الثاني نظام مايو يحكي عن معاناة الخدمة المدنية من تعيين اصحاب الولاء وتقديمهم على اصحاب الخبرة، الذين ذكر الأستاذ موسى انهم وبرضاء تام نأى كل منهم عن كل أي ارتباط سياسي سابق، او اي نشاط ذي صلة بالسياسة والسياسيين، ومن أمثلة ذلك تعيين العميد محمد أحمد أبو دقن مديراً للمالية، ويصف موسى ذلك بأنه سابقة خطيرة في تاريخ الوزارة التي ما ملأ وظيفة فيها الا أحد ابنائها على مر تاريخها.
وفي ظل النظام الديمقراطي بعد انتفاضة مارس أبريل 1985م، يحدثنا عن تحرش صحف الجبهة الاسلامية بالنظام الديمقراطي ووضع الالغام والعوارض في طريقه، تخريباً للتجربة الديمقراطية.
ولكننا بالطبع نجد نظام الانقاذ قد فات الكبار والقدرو، فهو لا يكتفي لقطع عيش انسان بفصله من الخدمة، وإنما يصدر تعليماته حتى لشركات القطاع الخاص بعدم تعيين المفصولين للصالح العام، وكذلك لا بد أن يتبع ذلك الإجراء التعسفي اغتيال شخصية المفصول من العمل والتآمر عليه لابعاده عن كل تأثير في المجتمع.
وقد استغرق الحديث عن ذلك الباب التاسع بأكمله، وهو الباب المعنون ب «في أحضان الوطن»، حيث يذكر في إحدى فقراته أن سيف الاقصاء غير المبصر طال أشقاءه عبد الكريم ومحمد عمر، كما تعرض أحد أبنائه للتعذيب والضرب لساعات طوال داخل مكتب اتحاد الطلاب بالمدرسة الثانوية التي يدرس بها وأثناء اليوم الدراسي.
وقد تمت مطاردة كاتبنا الأستاذ موسى حتى خارج الوطن من قبل اولئك الطفيليين. ويقول الاستاذ موسى «إن الذين تتبعوني ولاحقوني كان بينهم زملاء عمل، وبعضهم أصدقاء، والبعض الآخر مقربون لي ولاسرتي الكبيرة والصغيرة، فلحق بنا منهم اذى كثير».
وبلغت بهم الوقاحة أن تم اقتحام منزله الحكومي أثناء وجوده خارج الوطن، واخراج كل ما به من أثاث ومكتبة وغيره ورمى به في العراء بوسط الشارع. وظل كذلك مثيراً لدهشة الجيران والغادين والرائحين لأكثر من يومين، يأخذ كل راغب او مار به ما يشاء خاصة الكتب ودواوين الشعر، والشوارع امتلأت بالاوراق والوثائق المتناثرة، حتى جاء بعض من اهله وآوو ما تبقى بمنزله باركويت. ويعلق الأستاذ موسى على ذلك السلوك الهمجي بقوله «يا لبؤس المتآمرين ويا للوضاعة»..!!
عود على بدء فإن الكتاب «أشواق للسيف المبصر.. مشاهدات من العصر» اتسم بالصدق الشديد والشفافية في كل سطر، وهي صفات عرف بها الأستاذ موسى الذي أتمنى له الإنصاف ومعاقبة الذين شردوهم وطاردوهم، مثلما شردوا وطاردوا كل أبناء الوطن الشرفاء.
* عطبرة هيئة مياه ولاية نهر النيل
٭ صدرت طبعة جديدة للكتاب تمت فيها إضافة بابين للأحد عشر باباً من الطبعة الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.