حتى لا يلتبس الأمر على أحد، فانني أتحدث فقط عن حلم استعدناه، في حين أن واقعنا لا يزال كما هو لم يتغير فيه شيء يذكر، وكل التغيير الذي حدث حتى كتابة هذه السطور لم يتجاوز حدود الترميم وتحسين الصورة. أتحدث أيضاً عن الأمل في أن تنتقل من حكم الفرد الى حكم الشعب، ومن ولاية الرئيس الى ولاية الأمة، ومن ضيق الطوارئ الى فضاء الحرية وآفاقها الرحبة. قبل أي كلام في الموضوع، لابد أن نحني رؤوسنا تقديراً واحتراماً لأولئك الشبان والشابات الرائعين الذين تقدموا الصفوف ورفعوا رايات الغضب النبيل، فانتشلونا من هوة اليأس الذي تلبسنا حتى بتنا نرى المستقبل بائسا ومظلما، ونرى بلدنا عزيز قوم انكسر وذل. ان هناك من يتعمد تشويه صورة أولئك الشجعان الرائعين بتحميلهم المسؤولية عن التخريب والتدمير وعمليات النهب التي تمت في أنحاء البلاد، وذلك ظلم بين وافتراء مفضوح. ذلك أن ما يحسب لصالح أولئك الشبان هو تلك المظاهرات السلمية التي خرجت في أول يومين واستمرت طوال نهار الأيام التالية. يحسب لهم أيضاً أن أقرانهم هم الذين تنادوا الى تشكيل اللجان الشعبية التي خرجت في أنحاء مصر، تحرس الناس وتهدئ روعهم، بعدما انسحب من الساحة رجال الشرطة وتخلوا عن واجبهم في تلك اللحظات الدقيقة. أما الذين خرجوا ودمروا وأحرقوا ونهبوا فانهم لا يحسبون على المتظاهرين الداعين الى التغيير واستعادة الحلم، ولكنهم يحسبون على الذين نهبوا البلد وسرقوا الحلم. في كل مكان بالدنيا ما ان تعم الفوضى أو ينقطع التيار الكهربائي لبعض الوقت، حتى يسارع العاطلون وأرباب السوابق الى نهب المتاجر والمحال العامة. وللولايات المتحدة الأميركية تجارب عدة من هذا النوع. لذا لا ينبغي أن نستغرب أن تتكرر تلك المشاهد في الأوقات التي يحظر فيها التجول. ولا شك أن الغياب التام للشرطة كان اغراءً قويا شجع العاطلين والناقمين وخريجي السجون على أن يفعلوا ما فعلوه، وبسبب ذلك فان الخلط في بعض البيانات الرسمية ومقالات كتاب السلطة بين المتظاهرين الداعين الى التغيير وأولئك الأشرار يتعذر افتراض حسن النية فيه. ولأن التمييز بين كل منها مما لا تخطئه عين، فلا تفسير للخلط بينهما سوى أنه يتعمد التشويه والتلويث ويستهدف الاغتيال المعنوي للظاهرة النبيلة التي حدثت. «2» اتهام المتظاهرين بالتخريب ليس الأكذوبة الوحيدة التي أطلقت، ولكنه العنوان الأول في سجل التشويه ومحاولة اغتيال الدعوة الى التغيير، لقد سمعت بأذني أحد شيوخ الحكومة يقول -في برنامج «صباح الخير يا مصر» الذي يقدمه التليفزيون المصري «في 29/1»- ان هؤلاء المتظاهرين بخروجهم الى الشوارع يكونون قد قطعوا الطرق، مما أدى الى اطلاق حملة الترويع والتخريب، لذلك فانهم يستحقون أن يطبق عليهم «حد الحرابة»!. وكان التعميم الذي وزع على خطباء المساجد يوم الجمعة الماضية «في نفس اليوم الذي بثت فيه الحلقة سابقة الذكر» ، يدعوهم الى ثني الناس عن التظاهر الذي يؤدي الى التخريب والاعتداء على خلق الله ومرافق الحكومة. وفي الوقت ذاته روج نفر من كتاب السلطة وأبواقها لأكذوبة ادعت أن عناصر الاخوان المسلمين وراء الانتفاضة، في مسعى غير بريء لتشغيل «الفزاعة» التقليدية التي تستهدف أمرين: اثارة قلق المسلمين، وفي الوقت ذاته تخويف الأقباط. وهي الأكذوبة التي لم تنطل على أحد، خصوصا أن الجميع يعلمون أن كل القوى الوطنية ومعها العناصر المستقلة من أبناء مصر، هؤلاء جمعيا كانوا في قلب الحدث، ولم يكن للاخوان أي دور مميز فيما جرى. من الأكاذيب الأخرى التي جرى الترويج لها في اليومين الأولين قول بعض أبواق السلطة انه لولا الحرية والديمقراطية التي تتمتع بها مصر لما خرج المتظاهرون الى الشارع ورفعوا أصواتهم التي انتقدت السلطة ودعت الى التغيير وهو ادعاء اذا صح، فمعناه أن تونس تتمتع بدرجة أعلى من الحرية والديمقراطية. لأن الناس هناك خرجوا الى الشارع وأجبروا رئيس الجمهورية على الفرار من البلد كلها، وقد نسي اخواننا هؤلاء أن الذين خرجوا للتظاهر في مصر لم يحتملوا وطأة القهر والكبت الذي خضعت له البلاد طيلة ثلاثين عاما فانفجروا غاضبين وساخطين على اهدار كرامتهم ومصادرة حرياتهم. من تلك الأكاذيب أيضا محاولة البعض اتهام حكومة أحمد نظيف بأنها فشلت وأثارت غضب الناس لأنها لم تلتزم ببرنامج الحزب الوطني، ومحاولة التضحية بالمهندس أحمد عز أمين التنظيم بالحزب الوطني - بعد استقالته طبعا- من خلال تحميله المسؤولية الأكبر عما جرى، وهو الكلام الذي نسب الى من وصف بأنه زعيم الأغلبية بالحزب الوطني، وهذا الكلام ليس من قبيل الهراء الذي يتعذر تصديقه فحسب ولكنه أيضا يعد نوعا من الهروب من المسؤولية. ويعبر عن افتقاد الشجاعة أو النزاهة، حيث يعلم الجميع أن الحكومة تخضع للتوجيه المستمر من جانب رئيس الجمهورية، وأن أحمد عز لم تكن له سياسته الخاصة وانما كان حتى آخر لحظة الذراع اليمنى لرئيس لجنة السياسات السيد جمال مبارك، ومن ثم فليس من المروءة في شيء أن يوضع الاثنان الآن في قفص الاتهام، وربما كان ما نسب اليهما سيلقى احتراما وآذانا صاغية لو أن الكلام الذي قيل بحقهما صدر أثناء وجودهما في السلطة، وليس بعد أن غادرا منصبيهما. «3» قلت ان الحلم استيقظ وعاد يداعب خيالاتنا، لكن واقعنا لا يزال كما هو، حيث تغيرت فيه الأجواء لكن الحقائق لم تتغير، لذلك لست أبالغ اذا قلت ان الحلم الذي استعدناه لا يزال معلقا في الهواء، والتحدي الكبير الذي يواجه الجماعة الوطنية في مصر هو كيف ومتى يمكن تنزيله على الأرض. بكلام آخر، هم يريدون تغيير طلاء البناية، ولكننا نريد تنكيسها أو اعادة بنائها، الأولون هم أهل السلطة الذين يريدون ترميم الوضع وتجميله، والآخرون هم أهل مصر الذين يتطلعون الى ادخال اصلاحات جذرية على الوضع القائم «أهل المعمار يطلقون مصطلح «التنكيس» على البنايات التي تتخللها الشروخ فتكون مهددة بالسقوط»، هذا اذا لم تكن هناك فرصة لاعادة بناء الوضع من جديد على أسس أكثر رسوخا وقوة. نحن الآن في مرحلة التجميل التي تبدأ بتقبيح الانتفاضة الراهنة وتخويف الناس منها، ومن يطالع الصور والتقارير التي تنشرها الصحف القومية كل يوم يلاحظ أنها لا تتحدث الا عن الخراب الذي حل ببعض المباني والمؤسسات العامة، في رسالة تقول: انظروا هذا ما جناه البلد من وراء الدعوة الى التغيير. بعد التخويف من تغيير الوضع القائم تمارس عملية تجميلية من ناحيتين، الأولى تمارس من خلال اللغة والوعود التي تتحدث عن الاصرار على استمرار الاصلاح السياسي، وتتشدق بعناوين الحرية والديمقراطية والمجتمع العصري والمدني، الى غير ذلك من الكلام الذي سمعناه كثيرا حتى مللناه ولم نعد نحسن الظن به، أما الباب الثاني للتجميل فيتمثل في تغيير الوجوه وتبديلها بأخرى أكثر قبولا وشعبية، وهذا ما حدث حين غُير رئيس الوزراء وشغل منصب نائب رئيس الجمهورية، واذ لا يستطيع أحد أن يقدح في الرجلين اللذين يحظيان بدرجة عالية من الاحترام الا أن استدعاءهما في الظرف الراهن لا يخرج عن نطاق التجميل، الذي لا يعني شيئا اذا ما قورن بالتغيير الجذري المطلوب، الأمر الذي يعني أن السياسات التي أوصلتنا الى ما وصلنا اليه ما زالت كما هي لم يتغير فيها شيء يذكر. لكي نقيم جدوى وحدود التغيير الذي تم، ينبغي أن نتذكر أن ثورة المجتمع المصري انفجرت تعبيرا عن الضيق بالنظام القائم الذي احتكر السلطة وحكم البلاد بأجهزة الأمن والطوارئ، وحاصر الحريات وزور الانتخابات وترعرع في ظله الفساد، وألحق البلاد بمعسكر التحالف مع الولاياتالمتحدة واسرائيل، في حين فشلت سياساته في تلبية احتياجات الناس في مجاليْ الخدمات والاقتصاد. اذا فعلنا ذلك فسنكتشف أن تعيين نائب رئيس الجمهورية ورئيس جديد للوزراء لا يشبع شيئا من تطلعات المجتمع الغاضب سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وانما رسالته الوحيدة هي أن النظام قائم وسياسته ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير، وكل التغيير الحاصل لن يتجاوز حدود الأيدي التي ستباشر تلك السياسات، وان شئت فقل انه مجرد تغيير في الوجوه لا علاقة له بالأسباب التي فجرت انتفاضة الشعب في مصر. «4» لقد تحدث البعض عن الخروج الآمن من السلطة، ولكن لتعذر تنفيذ هذه الفكرة فانني أدعو الى انتقال آمن للسلطة، الا أن مشكلة ذلك التغيير هي أنه يتطلب اتخاذ اجراءات تعبر عن الاعتراف بالخطأ، وجرأة على نقد الذات، وهذا ما يفتقده الكثير من الأنظمة المحتكرة للسلطة التي تستند في شريعتها الى تأييد الأجهزة الأمنية التي تتولى قمع المجتمع وليس الى رضا الناس وقبولهم. وفي تجارب البشر فان التغيير اما أن يتم من خلال النظام القائم أو من خارجه وعبر الانقلاب عليه، كما أثبتت تلك التجارب أن التغيير اذا لم يتم طواعية من داخل النظام وبواسطته، فانه يفرض بعد ذلك على النظام ويتم رغما عنه. واذ نفضل الانتقال الآمن من داخل النظام، فان نقطة البدء تتمثل في ضرورة الاقتناع باستبعاد التجميل الذي هو بمثابة احتيال لاستمرار الواقع، وبضرورة اللجوء الى التغيير الجذري المتمثل في «التنكيس». اننا لا نتوقع ولا نتصور أن يتم تغيير كل شئ دفعة واحدة، ولكني أشدد دائما على أهمية اشاعة الثقة بين الناس بامكانية التغيير، وهذه الثقة لا تتوافر الا في ظل الاعلان عن اجراء تغييرات أساسية في بنية وهياكل النظام القائم «حل مجلس الشعب الذي تم تشكيله بالتزوير مثلا»، أو في ظل الاعلان عن خطوات جوهرية مثل الوعد باجراء انتخابات حرة ونزيهة، أو تشكيل جمعية تأسيسية لتعديل الدستور تمهيدا لالغاء الطوارئ ورفع سقف الحريات في المجتمع، وهي الاجراءات التي تعزز الثقة وتمنح الناس أملا في امكانية التقدم على طريق التغيير. أفهم أن التدرج مطلوب، لكنني أزعم أن مجرد تغيير الوجوه يبعث على القلق أكثر من الارتياح، لأنه يعني أن نية اجراء التغييرات الجذرية لم تتوافر بعد، ولا سبيل الى دفع قيادة النظام الى الاقدام على تلك التغييرات الا من خلال ممارسة مزيد من الضغوط عليه، وهو ما يعني أن انتفاضة المصريين لا يزال أمامها شوط طويل لكي تحقق أهدافها، وأن بلوغ تلك الأهداف يقتضي الاستمرار في التظاهر السلمي والاعتصام، وقد بات ذلك خيارا وحيدا لأنه في اليوم الذي سيتوقف فيه التظاهر ستنطلق عملية اعادة الطلاء والتجمل بأقصى سرعة، وستتحول دماء أكثر من مائة مواطن مصري قتلوا أثناء الانتفاضة الى ماء يستعان به في انجاز عملية الطلاء، وسيسرق مرة أخرى أملنا في انتقال مصر من الفرعونية الى الديمقراطية . ان النظام المصري اذا لم يبادر من جانبه الى اجراء التغييرات الجذرية التي تتطلع اليها الجماهير، فان معاندته في هذه الحالة ستوفر حجة قوية للذين لا يرون فيه أملا ويسعون الى احداث التغيير المنشود من خارجه.