لا يعرف المرضى من ميسوري الحال طريقا إلى المستشفيات الحكومية، كما أن أبناءهم، الذين درسوا في المدارس الخاصة منذ نعومة أظفارهم وإلى أن شبوا عن الطوق، يمرون على المدارس الحكومية فقط من بعيد في ذهابهم وإيابهم.. ويبدو أن كل ما له صلة بالحكومة يفتقر إلى ما يجتذب هؤلاء، وأن غيرهم يلجأ إلى المؤسسات الحكومية لانعدام الخيارات أمامه.. وحتى إعلام الحكومة لا يحظى بتلك الجاذبية التي تتمتع بها الوسائل الإعلامية الخاصة، فحالما تصل يد الدولة إلى الانتاج الإعلامي فإنها تدمغه بروحها الجافة البعيدة عن الوضوح والشفافية. وقد حدثنا زميل سوداني في دولة عربية، عن أن المذيع البريطاني الذي كان يقدم معه النشرة الانجليزية في الإذاعة، درج على مخاطبته قبل كل نشرة بالقول: فلنبدأ أولا بالأخبار الفارغة (LET US BEGIN WITH THE NO NEWS) وهي تلك الأخبار الرسمية عن استقبالات كبار المسؤولين، ورغم طول الخبر فإنه في النهاية خاوي المضمون، فهو يتحدث عن أن فلانا استقبل علاناً بحضور زيد وعبيد، لكن الخبر لا يقول ماذا جرى في ذلك اللقاء. هذا على الأقل ما يحدث في الدول الفقيرة أو النامية أو فلنقل دول العالم الثالث، وهي في الغالب ذات أنظمة شمولية، تضفي على إعلامها كل مفردات هذه الشمولية وأدبياتها البعيدة عن المهنية والإبداع، كما أن القائمين على الوسائل الإعلامية يتم اختيارهم وفقا لولائهم للنظام أو لدرجة قرابتهم من هذا المسؤول أو ذاك، دون اعتبار للكفاءة والخبرة. ولكن حتى في الدول التي نالت حظا كبيرا من التطور والتي تتمتع بأنظمة ديموقراطية، فقد اعتقد الكثيرون أن الإعلام الذي يتلقى دعما من الحكومة ليس فاعلا بالدرجة الكافية، إلى أن فجر أحدهم مفاجأة كما سنرى في ملخص للتقرير التالي الذي أورده مجلس الدراسات الاجتماعية في الولاياتالمتحدةالأمريكية (SSRC)، وقد جاء فيه: تتعرض وسائل الإعلام الأمريكية العامة إلى انتقادات في ما يتصل بتمويلها واستقلاليتها، لكنها مطالبة في ذات الوقت بردم الهوة الكبيرة الناجمة عن تجاهل وسائل الإعلام الأخرى لبعض الشؤون العامة. وفي إطار هذا النقد هناك السؤال: هل يمكن أن تلعب الحكومة دورا ايجابيا في ما يتصل باستقلالية وسائل الإعلام وتطوير ادائها النوعي؟ وتجيب على السؤال دراسة أعدها الإكاديميان رودني بنسون وماثيو باورز، وهما عالمان في الإعلام، من جامعة نيويورك، وجاء في الدراسة التي ادهشت الأوساط الصحفية: إن وسائل الإعلام العامة المدعومة حكوميا، محمية بالقانون من التدخلات الحزبية السياسية، كما أن هياكلها التنظيمية تتيح كامل الاستقلالية للصحافيين العاملين فيها، ونتيجة لذلك فإن وسائل الإعلام العامة المدعومة «تلفزيون، اذاعة، صحف، وخدمات للبث المباشر» تقدم في الغالب تغطيات واسعة ووافية وذات مستوى رفيع عن الشؤون العامة، وأنها تتضمن كما هائلا من وجهات النظر، بل أنها أكثر انتقادا للحكومة من نظيراتها التجارية. واستندت الدراسة على مسح اجراه العالمان على «14» من الدول الديمقراطية المتطورة، وحددت الطرق التي تتبعها تلك الدول لحماية استقلال وسائل الإعلام العامة لمساعدتها في القيام بمهامها. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية أثبتت وسائل الإعلام العامة فاعليتها، وحصلت على اعتراف الجمهور في استطلاعات الرأي العام، بأنها الأكثر مصداقية. ومع ذلك فإن هذه الوسائل العامة في أمريكا هي من بين الأفقر، من جهة الدعم الحكومي، مقارنة مع نظيراتها في الدول الديمقراطية ال «14» التي تناولتها الدراسة، فالدعم الذي تتلقاه الإذاعة العامة الوطنية بأمريكا لا يتجاوز أربعة دولارات للفرد، مقارنة مع «30» دولارا وحتى «130» دولارا للفرد في دول مثل ألمانيا وكندا والسويد وبريطانيا. وبينما يسعى الصحافيون والمؤسسات والمواطنون وراسمو السياسات، إلى البحث عن السبل المبتكرة والخلاَّقة لدعم صحافة مستقلة وذات نوعية متميزة، فإن الدراسة التي قدما بنسون وباورس أثبتت أن الإعلام المدعوم حكوميا يمكنه تقديم الكثير. انتهى ذلك التقرير، ونقول إن الحديث عن دعم حكومي للإعلام في الديمقراطيات المتطورة لا ينطبق بأية صورة من الصور على دعم حكومي تقدمه دولة شمولية لصحافتها.. فالدولة الديمقراطية تحرص على أن تتحلى كل مؤسساتها بالديمقراطية مثلها، وأن يعكس إعلامها هذه الصورة عنها، وأن يؤكد على الشفافية التي يلتزم بها الجهاز الحكومي، بينما يكون الإعلام المدعوم حكومياً في الأنظمة الشمولية، قاصرا، لأن تلك الأنظمة تكره مفردات الديمقراطية والشفافية والمشاركة، وكل ما يمكن أن يعرض للمساءلة أو ينبش مواقع ومواطن الفساد، ولهذا تبدو هذه الأنظمة بعيدة عن شعوبها وعن تطلعاتها وآمالها. وهناك في تلك الأنظمة الشمولية التصنيف الساذج لكل نقد لجهاز حكومي على أنه محاولة للنيل من النظام، ولهذا يتم تكميم الأفواه وحرمان الدولة من أصوات صادقة استهدفت التنبيه إلى مواطن الخلل وربما اقترحت الحلول، وفي كل ذلك تعويق لجهود الإصلاح.. فإذا لم تعتمد الدولة، ولو جزئيا، على الإعلام لمساعدتها في تبين الأخطاء، فإنها ستعتمد أكثر على أجهزتها الخاصة التي تعتقد أن مهمتها هي رفع التقارير تحت عنوان «كل شيء تمام يا ريس»، ما يعني أن الحكومة تنتحر بطريقة بطيئة، لأنها تبتعد عن الشفافية والوضوح، ومن ثم تجعل المشكلات تتراكم تحت السطح إلى أن تنفجر الأوضاع فجأة، لينهار كامل النظام بكل اخطائه وسلبياته، ويطال ذلك حتى الإيجابيات النابعة من حسن النية التي يجري تفسيرها طوال الوقت على أنها معول هدم للنظام.