قبل أن يخفت صدى طلقات الفرح التي اطلقها اهل الجنوب فرحة بتكوينهم لدولتهم الجديدة في اعقاب نهاية الاستفتاء والتصويت بارقام كبيرة لصالح الانفصال، تحولت الطلقات نفسها لتحصد ارواح الكثيرين منهم بعد تجدد النزاع بين حكومة الحركة الشعبية المسيطرة هناك والجماعات المنشقة عنها والتي يقودها الفريق جورج اطور والذي كان قد وقع في فترة سابقة على اتفاقية لوقف اطلاق النار بينه والجيش الشعبي قبل الاقتراع على مصير الجنوب بايام، الا ان الاحداث الاخيرة وضعت بداية النهاية للاتفاقية الموقعة بين الجانبين واعادت التساؤل المتعلق باستقرار دولة الجنوب بعد الانفصال الى سطح الاحداث مرة اخرى وسؤال آخر يتعلق بقدرة الحركة الشعبية وجيشها في الحفاظ على الامن بالجنوب او بالمهددات الامنية العامة التي ستقابل الدولة سؤال بدأت الاجابة عليه في الايام الماضية بسقوط اكثر من 100 قتيل وعدد كبير من الجرحى حيث اعلن الجيش الشعبي مقتل 105 أشخاص، بينهم 39 مدنيا، في المعارك التي دارت اليومين الماضيين بين قواته ومتمردين في منطقة جونقلي في جنوب السودان، في حصيلة جديدة تفوق باضعاف تلك التي صدرت امس الاول وتضمنت 16 قتيلا. وقال المتحدث باسم جيش الجنوب فيليب اقوير «من جهة القوات العسكرية، التي تتضمن قوات الجيش الشعبي والشرطة وادارة السجون، قتل 20 منهم في مدينة فانجاك، في حين قتل 30 من رجال الجنرال المنشق جورج اتور». واضاف اقوير «للاسف قتل 39 مدنيا بينهم نساء واطفال، واصيب 65 آخرون بجروح» اضافة الى 30 جريحا في صفوف القوات النظامية بالجنوب. الارقام المذكورة في الصحف عن عدد الضحايا تأكيد على ان الجنوب او الدولة الجديدة تستشرق عهدها بحالة من النزاعات المسلحة التي حتما ستؤثر على مستقبلها ككل وربما يتجاوز التأثير لتحديد نمط العلاقة بين الشمال والجنوب وبالتالي على المنطقة ككل والامر نفسه يعيد للاذهان الحراك السياسي ما قبل الاستفتاء والذي يقول بان الجنوب في طريقه لتكوين دولة فاشلة تسود فيها النزاعات العرقية والاثنية وتنعدم فيها درجات الامن وهو ما بدا واضحا في اندلاع النزاعات والتي اتبعها الفريق اطور بتصريح امس لصحيفة السوداني دعا فيها المواطنين في الدولة الجديدةبالجنوب من اجل العمل من اجل اسقاط حكومة الحركة الشعبية والتي وصفها بالعمل من اجل مصالح مجموعاتها الخاصة بعيدا عن تحقيق الصالح العام قبل ان يتهمها بانها تجاوزت اتفاقية وقف اطلاق النار واعتدت على قواته . اشتعال الوضع في الجنوب يبدو مدخلا لما سيأتي بعده حيث يرى الكثير من المراقبين للوضع بالجنوب ان مزيدا من الاشتعال في طريقه للدولة الجديدة وهو امر يغذيه وبشكل اساسي التكوين الاجتماعي وهشاشة التركيبة السكانية في الدولة الوليدة وهو الامر الذي يقود بدوره التعرض الى قضايا الصراع القبلي المرشحة للانفجار عقب انجلاء غبار الأفراح و النشوة بقيام الدولة ، فبعد أيام من الابتهاج و الفرح بالدولة الوليدة فإن المنازعات القبلية و التنازع على السلطة سوف يطل برأسه و تبدأ كل مجموعة إثنية فى محاولة السيطرة و فرض إرادتها و إذا وضعنا فى الاعتبار شعور بعض المجموعات الاثنية بأن هناك اثنيات معينة (مثل الدينكا) يسيطرون و يهيمنون على الأمور ، فان المواجهات واقعة لا محالة. وهو ما بدا بارزا فيما يحدث الآن بين حكومة جنوب السودان وقوات اطور في الوقت الذي تقف فيه مجموعات اخرى ويدها على الزناد في انتظار لحظة الصفر للانقضاض على الحكومة وهو ما يعني الدخول في مرحلة جديدة من النزاع في الجنوب، نزاع تغيرت آلياته فبعد سنوات من الاتفاق حول وجود ما يوحد الجنوبيين وهو الصراع مع الشمال الذي انتفى ولو مؤقتا بتكوين الدولة الجديدة وتحقيق حلم الانفصال ارتفعت الاصوات المنادية بضرورةالتخلص من مركزية الدينكا في الجنوب وسيطرتها على كافة محاور السلطة والثروة في الجنوب ،وهو امر لطالما نفته الحركة الشعبية عبر قيادتها وهي تتحدث عن ضرورة الانطلاق من الخطوة الصحيحة وبناء مجتمع متعدد في الجنوب انطلاقا من رؤية السودان الجديد وتستطيع ان تتجاوز كافة الازمات، بهذااللسان تحدث الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم للصحافة مشيرا لذلك من الناحية الداخلية نجد ان العامل الذاتي والانساني والبشري افضل بكثير من دول العالم الاخرى لان جنوب السودان مستقل بوجود وحدة فكرية والتقاء شبه كامل في الرؤية لشعب جنوب السودان يعني ان ما يقارب (99%) من الجنوبيين موحدين في تطلعهم ويريدون بناء دولة جديدة، فهذا رأسمال اجتماعي وانساني وبشري ضخم وبالتالي فان الجنوبيين على استعداد لمواجهة كل التحديات ، وكثير من الناس يتحدثون عن وجود صعوبات ستواجه الجنوبيين، اقول لهم الجنوبيون يعلمون بتلك الصعوبات التي ستواجههم اكثر من اي انسان آخر، لكن البعض من خارج جنوب السودان يتحدثون بنوع من الوصاية بان الجنوبيين سيواجهوا بكذا وكذا وكأن الجنوبيين لا يعرفون مشاكلهم ، فالجنوبيون يعرفون مشاكلهم جيدا ويقولون ان مشاكلهم هذه قليلة ولديهم القدرة على حلها ومواجهتها وهم لديهم الاستعداد لبناء دولتهم انطلاقا من اتفاقهم حول خيار الانفصال الذي صوتوا له باغلبية ساحقة الا ان حديث باقان حول حالة الاتفاق يجد له معارضين في الجنوب مثل اطور ولا يتفق معه المحلل السياسي ورئيس قسم العلوم السياسية الدكتور عمر عبد العزيز الذي اعتبر ان الحديث عن حالة من الوحدة في الجنوب هو امر لايسنده المنطق وينفيه النزاع الدائر الآن ما بين قوات اطور والحركة واعتبره امراً يمثل البداية فقط للنزاع القادم مضيفا ان اطور في صراعه ليس له ما يخسره وقال ان الصراعات الحقيقية في الجنوب ستبدأ بعد يوليو نهاية الفترة الانتقالية وفي اعقاب الاعتراف بالدولة الجديدة عندها فقط ستبدأ عملية الصراع حول السلطة بين مكونات الجنوب المتنافرة وهو امر سيكون للصراع القبلي فيه تداخلاته الكبيرة والمؤثرة جدا انطلاقا من التكوين الغالب هناك، كما ان الاحساس بسيطرة الدينكا هو الاحساس الذي يسيطر على كل المكونات الاخرى المتواجدة الآن في الجنوب. ويقول عبد العزيز ان الحركة الشعبية ستواجه صعوبات كبيرة في هذا الجانب وهي تتعامل الآن مع اطور محاولة منها لارسال رسالة للقوى الاخرى التي ستنتهج مثل هذا الموقف ويعتبر ان هذا الامر سيصب في صالح الشمال ويمكن من خلاله الحصول على اتفاقيات فيما يتعلق بقضايا ما بعد الاستفتاء لعدم رغبة الحركة في فتح جبهات جديدة للصراع الا انه في المقابل فان كثيرين يرون ان فتح جبهة للصراع مع الشمال الآن يمكنها ان تفتح الابواب امام اتفاق الجنوبيين عبر نظرية نقل الازمة الداخلية خارجيا وهو اسلوب كان قد انتهجه النظام العراقي في فترات سابقة وحقق من خلاله نجاحا الا انه يبدو غير ذي جدوى في ظل الاحداث المسيطرة على الجنوب الآن واعتماده شبه الكامل اقتصاديا على الشمال ورغبته في تأمين ممرات البترول المتجهة شمالا وهو امر يتقاطع تماما في اي اتجاه نحو التوتر والحرب. وبحسب مراقبين فان الاوضاع السائدة في الجنوب الآن والمتمثلة في موت الملايين بسبب نقص الغذاء و التردي فى الأوضاع الصحية ووفيات الأمهات بسبب انعدام كافة معينات التعليم الأساسي ، بجانب القرارات المتعجلة و غير المدروسة التى اتخذتها حكومة الجنوب مؤخراً بترحيل جامعات الجنوب التى كانت موجودة فى الشمال الى الجنوب ، حيث تبيَّن أن 90% من هيئات التدريس فى الجامعات هذه من الشماليين يضاف لذلك العدد الكبير من العائدين من الشمال والذين سيشكلون ضغطاً كبيراً على الموارد الضعيفة في الدولة الجديدة مع ارتفاع تيرمومتر النزاعات المسلحة وانتشار السلاح في منطقة لم تكمل بعد رحلة الخروج من اوضاع الحرب وتناقضات المكون الاثني داخلها تجعل من عملية تحقيق الاستقرار السياسي امرا بالغ الصعوبة ويتجاوز مقدرات الحركة الشعبية والتي تنتظرها التزامات كبيرة وبالغة التعقيد، وتتطلب قدرا هائلا من بذل الجهود لوضع المعالجات لها وقبل كل ذلك تتطلب التزاما سياسيا وخارطة طريق دستورية جديدة تستهدف في الاساس تحقيق حالة من تمثيل الجميع في السلطة الجديدة من اجل وضع نهاية للنزاعات القبلية والإثنية في الدولة حديثة التكوين .