لن نجد تعليقا ملائما على ماحدث فى مصر اثناء اجراء استفتاء على التعديلات الدستورية ،بالسبت الماضي ، بأفضل من الذي صدر على صفحات الواشنطن بوست الامريكية ، فقد قالت الصحيفة «إن الشعب المصري تكلَّم أخيرًا بعد عقودٍ من القمع»، وهذا الوصف من الصحيفة الامريكية ربما يكون قد جانبه الصواب قليلا لجهة ان المصريين انفسهم يؤرخون لبدايات القمع فى بلادهم الى عهود ابعد فى التاريخ . ومابين الاستفتاء الاول على رئاسة جمال عبد الناصر ،والاستفتاء الاخير فى عهد مبارك على التعديلات الدستورية سيئة الذكر جرت مياه كثيرة تحت الجسر. وعلى كل فان اعلان نتيجة التعديلات ،مساء أمس الاول ، شهد موافقة نحو 77% من المقترعين على التعديلات المطروحة على الدستور،والتي تخدم عملية الإسراع في نقل السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى حكومة مدنية عبرانتخابات برلمانية ورئاسية فى غضون شهور قليلة ، وحسم الجدل المحتدم بين دعاة اعداد دستور جديد للبلاد وهم غالبية القوى السياسية المصرية والاقباط ،ومؤيدي ترقيعه من جماعة الاخوان المسلمين والجماعة الاسلامية والحركات السلفية وبقايا الحزب الوطني . وكانت جماعة الإخوان المسلمين سبق وأن طالبت الشعب المصري بالتصويت لصالح التعديلات الدستورية ،ونظمت الحملات فى الشوارع لدعمها ،بينما أصر على رفضها بقية الاحزاب والكيانات السياسية ،وائتلاف شباب ثورة 25 يناير. وللمرة الاولى منذ بداية ثورة 25 مايو، تبدو الجماعة المصرية منقسمة بهذه الحده ازاء قضية تحتاج لاجماع من القوى التى دعمت عملية التغيير، وهو ما يؤذن بانتهاء شهر عسل طال لشهرين ،بين قوى تحمل اجندات مختلفة ومؤجلة لمستقبل مصر منذ عقود فى انتظار سقوط النظام الشائخ. فقد كان من المتوقع ان تعتبر القوى السياسية المصرية هذه التعديلات عملية ترقيع لدستور فقد مسوغات وجوده بعد سقوط مبارك، خاصة وانها لا تلزم الرئيس القادم بالدعوة الى صياغة دستور جديد للبلاد ، كما انها لا تتيح للبرلمان فرض مثل هذا التعديل على الرئيس،الا ان اعلانها ان هذه التعديلات تمهد الطريق لعودة الحزب الوطني من الابواب الخلفية لكراسي الحكم ، لانها تدعو لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة ، قبل ان ترتب القوى السياسية اوراقها وتنظم صفوفها، فعد من المراقبين مزايدة على الحزب المنكوب، ومحاولة للهروب من اعلان خوفها من سيطرة الاخوان على مقاعد البرلمان القادم الذى سيصبح امرا مفروغا، حال اجرائها بهذه العجلة. وهذه المخاوف عبر عنها رأفت سيف نائب رئيس حزب التجمع اليساري بقوله ان اقرار التعديلات خطأ كبير لانها وضعت الاحزاب فى مأزق صعب ،اذ ان اغلبها الآن يعمل على ترتيب اوضاعه الداخلية، لافتا الى ان التجمع اعد قواعده لمؤتمرات قاعدية فى يوليو القادم ،فكيف سيخوض غمار انتخابات تشريعية. ولان حال التجمع لا يختلف عن حال احزاب اللبرالية المصرية ، فقد عبرت احزاب الوفد والغد والجبهة الديمقراطية عن مواقف مشابهة، الا ان ما قاله رئيس حزب الوفد د. السيد البدوي ، ذهب بعيدا فى محاولة ابطال العمل بهذا الدستور حتى بعد اقرار التعديلات عليه من قبل الشعب، وافتى رئيس الوفد بأن الدستور ليس به مادة تسمح للمجلس العسكري الحاكم بممارسة سلطاته ،وهذا سيسبب مشكلة ،ويفتح الباب للطعن فى شرعية قراراته ،ويستند السيد البدوى على ان الرئيس السابق لم يقم باتباع الاجراءات المنصوص عليها فى الدستور، عند تخليه عن السلطة. ورغم ان القوى السياسية فى مصر تعلن ان رفضها لهذا التعديلات ينبع من حرصها على وضع اساس متين للدولة الجديدة فى مصر ، الا ان حرصها على اجراء الانتخابات الرئاسية اولا ثم اعداد دستور جيد للبلاد قبل اجراء الانتخابات التشريعية اعتبر من شخصيات مستقلة ،خوفا من ان تكشف العملية الديمقراطية نفسها ضآلة هذه الاحزاب وعجزها عن مواكبة عملية التغيير التى تمت. وسبق للمستشار طارق البشرى ان اتهم مرشحي الرئاسة المحتملين محمد البردعي وعمرو موسى من طرف خفي ، بالسعي لضمان الوصول للمقعد الرئاسي ، قبل ان تسفر الانتخابات التشريعية القادمة عن وصول قوى لا يضمنوا تأييدها . ولم يترك البشرى ايضا الدفوعات التى قدمتها الاحزاب لتبرير موقفها من التعديلات دون تفنيد ، اذ قال انها تخشى من الديمقراطية التى ظلت تطالب بها منذ عقود، وتخشى من الذى قد تفضحه هذه العملية. ولكن مساعي رجل مثل عمرو موسى ،على ابراز حرصه على اتاحة الفرصة الكاملة لنشوء احزاب جديدة، تعبر حقيقة عن الشعب المصري، واتاحة الوقت الكافي للاحزاب القائمة لاعداد قواعدها لهذه العملية، يبدو مقبولا للغاية فى ظل التجريف الذى تعرضت له على يد نظام الرئيس مبارك على مدى عقود من الزمان. ومطالبة البردعي بضرورة صدور اعلان دستوري مؤقت ، من قبل المجلس العسكري الحاكم الى ان يتم صياغة دستور جديد للبلاد، تعد اسهاما معقولا فى الحوار الدائر حول الأمر وربما يتوافق مع البعض، وان تعرض الرجل للحصب بالحجارة ممن رأى انهم متربصون. ورغم ان التعديلات التى اقرت خففت كثيرا من القيود التى تحكم الترشح لرئاسة الجمهورية ، الا انها ابقت على مواد مثار جدل بين القوى السياسية المصرية ، مثل المادة الثانية من الدستور التى تصف مصر بانها دولة اسلامية وتلزم بان تكون الشريعة الاسلامية هى مصدر التشريع الوحيد، ويطالب اقباط مصر على الدوام بتعديل هذه المادة التى تنتقص كما يزعمون من حقوقهم فى الدولة ، فى حين يشير مؤيدوها الى ان المادة الاولى من الدستور تؤكد ان المواطنة هى اصل الحقوق والواجبات .ورغم ان هذا الجدل حول المادة ظل قائما حتى قبل سقوط مبارك ،الا ان اسراع جماعة الاخوان المسلمين بدعم هذه التعديلات وحشد التأييد لها فى اوساط الشعب ،عد محاولة منها لضمان الابقاء على المادة التى تعطي الدولة صبغتها الاسلامية . وهو على ما يبدو السبب الذي دفع الجماعة ان تدمغ معارضي التعديلات بالارتهان الى قوى اجنبية ، ومضت الجماعة فى اتهامها الذى طال صحف ومنابر اعلامية ، مبرزة ما دعتها وثائق تثبت ان امريكا قدمت اموالاً لتمويل هذه الحملات ضد التعديلات وضد الجماعة بذاتها، الا انها سقطت فى امتحان المكاشفة الذي خضعت له ، مما اضطر مرشدها العام محمد بديع ان يقدم اعتذارا علنيا . ولكن يبدو ان المعركة لم تنتهِ حول هذا الامر فقد اتهمت القوى السياسية الاخرى الاخوان ، بعد اعلان نتائج الاستفتاء ،بالعمل على توجيه قواعدها للايحاء للجماهير بأن اقرار هذه التعديلات ضمان لعدم تحول مصر الى دولة علمانية ، ولكن عصام العريان المتحدث الإعلامي باسم الإخوان المسلمين سخر من هذه المزاعم وقال إن التصويت في الاستفتاء لم يك طائفيًّا، مشيرًا إلى أن التصويت استند إلى أرضيةٍ وطنيةٍ مشتركة.وأضاف أن التصويت استند إلى الآيديولوجيات السياسية أكثر من الآيديولوجيات الدينية، مضيفًا أن الجميع يتطلع إلى المستقبل ودولة مدنية كاملة.