بارك الله في ثورة تونس وفي أبطالها الميامين، فقد فجرت في أنحاء المنطقة طاقات مكبوتة وأسمعت أصواتا كانت مكتومة، وأعادت إلى الساحة فضائل منسية من التناصح والتشاور وقدرا من الشفافية ومن أدبيات التعامل بين الحكام والمحكومين في المجتمع المعافى، وبات علينا أن نعزز معطيات هذه الموجة الإيجابية، وليكن التناصح من بين المفردات التي ينبغي تفعيلها وإفساح المجال أمامها، فبلادنا أحوج ما تكون إليه، بعد أن مرت فترة من الزمان أصبح فيها مجرد محاولة ذلك يدخل في باب «لحس الكوع» وطلب المستحيل. ولأن موجة الثورة كاسحة باعتبار أن أسبابها قائمة في كل دولة عربية، ولسنا في السودان استثناء، فقد بات من الضروري أن نتمعن في أمرنا، ولنبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولنقبل على تدبير حالنا بالصورة التي تنقلنا وبطريقتنا، إلى ما هدفت إليه تلك الثورات، وما نتطلع إليه من ديموقراطية حقيقية يستظل الجميع بظلالها الرحبة، تمضي فيها عملية البناء والنماء بمشاركة الجميع، وفقاً لأسس قومية لا تستثني أحداً، ولا تسحق أيا كان بكتائب القمع الاستراتيجية أو بغيرها.. ولنتأمل أوضاعنا، أو جانباً منها، لنرى أننا في حالة تشبه الانتظار لأمور شتى، فنحن، على سبيل المثال، بانتظار عمل مفوضية مكافحة الفساد، بينما نرى آثار الفساد على الأرض تمشي بيننا، وتقتات من مكاسبنا، وتعمل على إفقار أبناء شعبنا، وتختطف اللقمة من أفواه الجوعى، ومظاهر الفساد كثيرة ومتشعبة وتكاد تمس كل جوانب حياتنا.. من التعليم إلى الصحة إلى الزراعة والصناعة مروراً حتى بهيئات إنسانية هدفها نصرة الفقراء وتأمين احتياجاتهم. ومن المهم حتى يتم تكوين هذه المفوضية وتباشر عملها، رؤية شيء مما هو متاح حاليا، وما هو مثبت على أنه يدخل في دائرة الفساد، بما لدينا من أجهزة عدلية وقضائية، ومساءلة ومحاكمة تلك الجهات التي رفضت الخضوع لإجراء مراجعة لحساباتها، وهي معروفة ومحددة، ومن شأن الوصول إلى نتائج طمأنة الجميع بأن هناك إرادة حقيقية لمكافحة الفساد، فالجميع بانتظار ما يقنعهم أن محاربة الفساد هي صيغة لديها أسنان وأنياب. غير أن الانتظار حتى يتم تكوين المفوضية فيه انتقاص لمكانة تلك الأجهزة التي أُقيمت خصيصاً لمحاكمة ومساءلة اللصوص والمرتشين والمختلسين و«مجنبي» الأموال لمصالحهم الذاتية، وإذا ارتهن الأمر فقط بتكوين المفوضية فهو يعني أن تلك الأجهزة القائمة فاقدة الصلاحية، وأن الفساد المنفلت يمكنه أن يلتهم حتى المفوضية قبل أن تقف على قدميها. وفي الحقيقة فإن شواهد عديدة تفيد بتجاوز النظام القضائي، ومن ذلك تصريحات وزير الشباب والرياضة ماجد سوار التي قال فيها إن المؤتمر الوطني يحاسب مسؤوليه المتجاوزين مالياً بطريقة داخلية، أي وفقا ل «فقه السترة»، وبالعامية السودانية «بطريقة دكاكينية»، رغم أن الأموال موضوع المحاسبة هي أموال عامة، وكان ينبغي، بل وينبغي اليوم قبل غدٍ أن يتم النظر في شأنها بالطريقة النظامية، وإلا فإن الحديث عن محاربة الفساد يصبح مثل ذر الرماد على العيون. وعلينا أن نقر بوجود قدر من الشفافية، على الأقل في ما يتصل بكشف بعض مواطن ومواقع الفساد، لكن هناك أيضا قدر أكبر من التعتيم في ما يتصل بمكافحته، وربما أن مرد هذه الشفافية إلى أننا نعايش حقيقة أعراض الثوارت حولنا، أو أن عدواها الحميدة بدأت تتسرب إلى نفوسنا، ليس باعتبارنا شعوبا فقط، وإنما حكام أيضاً، مع تباين التأثيرات على الجانبين، وربما أن حالتنا يمكن وصفها بالثورة الناعمة التي بدأت تتغلغل في الأعماق، وقد تصل في غضون أيام أو أشهر إلى مرحلة الانفجار، حتى وإن حاولت كتيبة مندور المهدي قمعها أو إحباطها. وحقيقة فإن الناس يعرفون أن هناك فساداً، لكن المسؤولين يطالبون بتقديم أدلة، وليس في وسع المواطن العادي بل وحتى الصحافي الوصول إلى رؤوس الخيوط المطلوبة بسبب امتناع المسؤولين عن الحديث في هذا الصدد. غير أن ما يحدث حولنا، وكما ذكرناه من قبل، بدأ يعجل بقرارات عدة كانت منتظرة، ومن ذلك قرار حل الشركات الحكومية، وأخيراً تحدث الرئيس البشير عن الحوافز المهولة في بعض المؤسسات الحكومية، ووصفها بالنهب «المصلح» مستعيرا تعبير «النهب المسلح» المعروف، والحقيقة فهو نهب مصلح من جهة ما ينطوي عليه من مؤسسية ومن حماية، وقد أزال الرئيس البشير حاجز الصمت بهذا الصدد، وحدد بطريقة مباشرة بعض أوجه الفساد التي كانت تحوم حولها الشبهات، لكن دون أن يتقدم أحد للإفصاح عنها، ومن ثم فإنه يتعين على الجهات العدلية والقضائية المبادرة إلى التقاط هذا الخيط والبناء عليه، والمعلومات طوع يديها لدى الرئيس، وهي التي استند عليها، وأعطى ملامح عن هذه الحوافز المهولة التي يصل بعضها إلى رواتب «40» شهرا، وكان يتحدث امام كاميرات التلفزيون في مجلس الوزراء، وينظر مع كل رقم يذكره، يمنة ويسرة إلى الوزراء الجالسين أمامه وكأنه يشير إلى تجاوزات حدثت في هذه الوزارة أو تلك. ويبقى من المهم من أجل تحقيق استهلالة قوية لمحاربة الفساد، النظر بجد في حكاية النهب المصلح الذي اتخذ بصفته «المصلحة» هذه وضعا مؤسسياً وترسخ عميقاً في الممارسة الإدارية في مختلف الهيئات والإدارات، مع استحكام دائرة الفساد واختلاط مظاهره بالأنظمة الإدارية التي تتيح منح البعض مرتبات أكثر من ثلاثة أعوام حوافز. وكان هناك أيضا الإعلان المنتظر منذ فترة طويلة بحل الشركات الحكومية، وبالفعل تم ذلك بشأن «22» منها، وبعد أيام تم الإعلان عن تخصيص خمس شركات أخرى، لكن لا يُعرف لماذا حل بعضها وتم تخصيص البعض الآخر، كما أنه ليس من الواضح على وجه التحديد العدد الإجمالي لهذه الشركات، وقال مسؤولون قريبون من هذا الأمر إنهم لا يعرفون عددها، وبينما يقول البعض أنها بالمئات، فإنه لا يُعرف لماذا الإعلان عن ذلك العدد فقط، وهل حقيقة أن مدى انتشارها غير معروف؟ وهل يدخل هذا التعتيم حولها في باب «دغمسة» الحقائق في إطار الممارسة الفاسدة؟ والأسئلة كثيرة في هذا المجال، ومنها ما يتعلق بما كان يدور حقيقة في تلك الشركات، غير أن القدر المعروف أنها كانت تتمتع بحماية حكومية في الكثير من أعمالها، وأن ما تقوم به قد أضرَّ بأهل السوق الحقيقيين، وأن وضعاً تجارياً مختلاً قد تسببت فيه تلك الشركات، من جهة أنها أخرجت المنافسة الحقيقية من دائرة السوق بسبب ما تتمتع به من امتيازات لا يجدها الآخرون البعيدون عن مظلة الحماية الحكومية. والأسئلة كثيرة لا تتوقف وهي ملحة، خاصة في الأجواء الثورية التي تشهدها المنطقة التي يتأثر بها السودان كثيرا، حتى إن تم قمع التظاهرات في مهدها، غير أن الحكومة وضعت نفسها أمام تحدٍ ينبغي أن تكون أهلاً له، فقد كشفت عن جوانب من الفساد، وبالتالي فإن «الشعب يريد أن يرى محاكمة هؤلاء المفسدين»، واستعادة أمواله التي قد تتيح تعليماً مجانياً ومنتظماً لأبنائه، وتقدم علاجاً جيداً لمرضاه.