أنا لم أعايش الطيب صالح عن قرب فاعرفه معرفة صديقه محمد ابراهيم الشوش. لكنني بالتأكيد اؤيد تماماً القول بأن الطيب صالح في مجمل أعماله يربكنا في خلطه المقصود بين الذاتي والملتقط من متابعاته الانسانية.. ومع ذلك ترانا نبحر فيها بحذر.. فالحكي بلسان الراوي المنغمس في الأحداث قد يغرينا بأن نقول إن المتحدث هو ذات الطيب صالح.. وللنظر للتقاطعات والترادفات.. فالطيب في عام 2791م كان في الرابع والاربعين من عمره.. وهذا ينطبق على الانذار الذي يؤشر له مندوب الموت حينما ينبه الراوي في «الرجل القبرصي» قائلاً: احترس فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل» بعد الرحيل 567. والطيب صالح قارئ مستوعب جداً للدرر في التراث العربي والإسلامي. وأظنه عند ذلك الخيار الذي يجريه الموت بينه وابيه يقرأ معكوساً مطلع القصيدة المشهورة، لابي تمام وهو يعزي الخليفة العباسي في وفاة ابنه فيقول: «تقدم مولود ليمهل والد».. واذا كان والد الطيب قد افتداه حسب «الرجل القبرصي» عام 2791م، فالتراث الإسلامي يتضمن كذلك: «إن الذي ينعدم حبل الآباء بينه وبين آدم هو امرؤ قد بلغة الانذار» ولا يزال الطيب صالح يقترب من الراوي في «الرجل القبرصي» حتى يتطابقان في رأي الشوش المتقدم.. فها هو الراوي يشهد مندوب الموت كلما يصوب بعينه المهلكة نحو امرأة او فتاة يتفجر منها الدم.. ويزداد الراوي كراهية وغضباً من مندوب الموت.. لأن الراوي مثل الطيب صالح عندئذٍ «يتذكر البنات وأمهن في بيروت» وهي اشارة واضحة الى اسرته «بعد الرحيل 67».. والطيب صالح نفسه في مقابلاته يخبرنا بأن أباه توفى في السبعينيات وأمه توفيت عام 8891م «بعد الرحيل:108». وهنالك في صورة مندوب الموت بهذه القصة مزج غير عادي بين اليقينات الإسلامية المأثورة وبين الاعتقادات الشعبية الاممية.. فهذا «الرجل» يستطيع ان يغير هيئته باستمرار، ويتلبس عدة مظاهر مقززة.. وهو داعر وفاجر ويكذب بالسليقة للدرجة التي يستطيع الراوي أن يدرك معها متى يبدأ في نسج الافتراءات، وذلك للتغير الذي يطرأ على صوته.. وهو اقرب ما يكون للرجل «المعيان» المعروف في المدارك التقليدية ذات التهاويل، حيث يمثل شخصاً حقوداً وحاسداً لا يتوقف قط عن اشتهاء ما لدى البشر من المحاسن. وكل الذي يشتهيه يتهدم في ذات اللحظة.. وجميع هذه الصفات تبدو أبعد ما تكون من الصورة الاسلامية لملك الموت النزيه الصامت القاطع في طاعته لاقدار ربه.. ويمكننا أن نرى نموذجه في المأثور عن سليمان عليه السلام والشخص الذي طلب من الملك أن يسخر له جنيا يحمله فورا إلى بلاد الصين. لأن هذا «الرجل» في بلاط سليمان لا يكف عن التطلع اليه، ففرائص هذا الشخص ترتج وأنه ليحسبه ملك الموت.. وبقية القصة تحدثنا عن أن ملك الموت يرتبك أيضاً، لأنه يجد في «سجلاته» أن روح هذا الرجل تطلع بعد حين ولكن في الصين لا في فلسطين.. وملاك الموت يغادر مستعجلاً حتى لا تفوته المقادير الصينية.. ومهما يكن فإنما مهمته هو أن يلتزم بالمقادير مهما اربكته.. فإذا به يقابل صيده أمامه هناك في الصين. الاسترجاعات التي تملأ القلب من قصة «الرجل القبرصي» والمعنية بأخبار الطاهر ود الرواسي تنتمي الى الروايتين من «بندر شاه» وزحزحات أزمانها العويصة.. وانها لتبدو كحاشية مناسبة لتكملة الأسرار الزاحمة للحياة.. ولأننا تستهوينا المقارنة بين الابداعات العبقرية الخاصة بالحياة والموت في الادب العالمي، فسنعطي فرصة للنظر في درة ارنست همنجواى «المخيم الهندي» ومشابهتها «للرجل القبرصي»، وسنتحسب لصعوبة أن يتيسر لمبدع او لناقد قط أن يكشف لنا لغز الموت. آخر الإبداعات القصصية للطيب صالح هي «يوم مبارك على شاطئ ام باب» وهي من عطاءات الالفينيات.. الراوي في هذه القصة وامرأته وابنتهما لا يمتون بصلة ظاهرة للسيرة الذاتية عند الطيب صالح في جانبها العائلي.. واعتقادي يميل بي نحو الحكايات والمراقبات والتآنسات الكثيرة التي تجتمع للطيب ثم يحشدها داخل باطنه الصوفي ويعركها فتجيء بمثل هذه القصة.. والأثر الصوفي عند الطيب صالح ينتمي إلى نوع الصلاح المجاني للسرائر الصافية الذي ينزل مثل البركات على بعض الناس دون سواهم ولغير ما علة ظاهرة. ومن هؤلاء بالتأكيد الفقيه بخيت والسائح محمد عبد الحفيظ الملقب «بالحنين»، وهما من العجائب في منطقة كرمكول ودبة الفقراء.. «بعد الرحيل 93». ودور هؤلاء في روايات الطيب صالح أن يغوصوا بالعمل الفني الى اعماق تغرق القارئ في الخفاء والغموض والتعقيد حتى وقد يتعطل به الفهم.. فكلما يوغل الطيب في الحفر على ركامات الماضي الادراكي لكرمكول وعلومها الباطنة «بعد الرحيل 72» يصعب استجلاء الإشارات المبطنة.. لهذا لا نفاجأ في «بندر شاه» حين تغدو الصعوبة الاستيعابية مشابهة لمشكلة القارئ مع خواتيم عمل جيمس جويس في «جنازة فينغان». وذلك التصوف الكشفي عند المستنيرين المحدثين مثل الطيب صالح يبلغ مداه إبان مبيت للطيب صالح ومحمد بن عيسى عند ضريح عبد السلام ابن مشيش الإدريسي رأس الطريقة الشاذلية بجبال الريف في المغرب، في وقت ما بعد عام 8791م. ويحدثنا محمد بن عيسى «أمضينا يوماً وليلة بجوار الضريح والطيب مسكون بروحانية المقام وأصوات المقرئين وتهليل الزوار، سهرنا إلى قرابة طلوع الفجر، بكى سيدي الطيب وقبَّل الشباك والشجرة والهواء وعانق السماء، صوفيته عمّرها الايمان والحب وطهارة المكان» «بعد الرحيل 057». قصة «يوم مبارك على شاطئ أم باب» هي حصيلة لمثل هذه التصورات الصوفية الراكزة على الكشف.. فالرجل والمرأة وبنتهما في القصة يبرزون تدريجياً في وعي القارئ كنتاج لبركة لقاء يتم في المدينةالمنورة، حيث يتعارفان على نمطية الفلقة التي تصادف نصفها الضائع، ويتزوجان فوراً.. وبعد تسع سنين، ولعله مراراً بعد الاندماج والنتاج، ها هم الثلاثة على شاطئ الخليج في يوم مبارك آخر يندمجون في الفضاء الكوني ويستبشرون بالسلام الذي يذوب كل التناقضات.. اتساق مبهر إلى درجة أن تصلي أرواحهم مع الأمواج ومع الإبل التي ترد الى سيف البحر فتتوضأ وتصلي وتتأمل «بعد الرحيل 057». ج- الموت عند إرنست همنجواى والطيب صالح: ولنعد للمضاهاة بين «المخيم الهندي» لهمنجواى و«الرجل القبرصي» للطيب صالح.. فالمبدعون الذين عالجوا معضلة الموت في الادب العالمي وتفوقوا على غيرهم هم قلة.. هذا إلى جانب ان الحياة باسرها انما يربض مغزاها في حتمية الموت والسؤال عما وراء ذلك.. وعلى كل فهمجواى كتب «المخيم الهندي» في اوائل القرن العشرين، حينما كانت مخيمات الهنود الحمر لا تزال منصوبة على الحوافي من البحيرات العظمى بشمال أميركا ومفتوحة للتعامل الإنساني مع البلدات الريفية للإنسان الاميركي الابيض.. نِك آدم بطل «المخيم الهندي» يذهب ليلا في مركب صغير عبر البحيرة مع ابيه الطبيب لحل أزمة ولادة مستعصية لدى سيدة من الهنود الحمر.. لكن الطبيب لم يكن معه مخدر، وكان مضطراً لاجراء جراحة قيصرية.. فكان صراخ المرأة اثناء الطلق وخلال العملية شيئاً لا يطاق.. ويبدو أن زوجها الذي كان قابعاً في ضروة بالخيمة والجميع منشغل عنه، تأزم للغاية ولم يعد يحتمل فذبح نفسه.. ولدى عودة الصبي وأبيه عبر البحيرة كان نِك يتساءل بانزعاج شديد عن ضرورة الموت، وهل يقتل الرجال انفسهم اكثر من النساء؟ ولماذا؟ وهل الموت بالضرورة بهذه القسوة؟ ثم طلعت الشمس وتحرك السمك يلعب فوق الماء الدافئ والحياة أخذت رونقها.. يقول الراوي العليم عن نِك: «في بواكير الصباح على البحيرة، جالسا عند دفة المركب ووالده يجدف، كان نِك يحس باطمئنان تام بأنه لن يموت ابداً» «ثلوج كلمنجارو 74». لكن همنجواى الذي كتب هذا وهو دون الثلاثين قضى حياته كلها يراوغ الموت في الحروب الاوروبية وفي الملاكمة ومصارعة الثيران والصيد في البحر وفي إفريقيا.. ثم إنه يصوب بندقيته الى الحنك من فمه وينهي عجز طاقاته الشائجة في عام 2691م. أما الطيب صالح فرجل يمنحه إيمانه وعياً عقائدياً صافياً، فلا يحيد عن مفهوم المسلمين في قدرية ساعة الموت وخفائها المطلق.. ولذلك، فحتى مندوب الموت بصورته البغيضة في «الرجل القبرصي» لا يتجرأ على مخالفة هذه الرؤية العقدية.. يقول مندوب الموت للراوي: «ما هو الموت؟ شخص يلقاك صدفة، يجلس معك، كما تجلس الآن، ويتبسط معك في الحديث، ربما عن الطقس أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال، ثم يوصلك بأدب إلى الباب، يفتح الباب، ويشير اليك ان تخرج.. بعد ذلك لا تعلم.. لن تراني على هذه الهيئة إلا آخر لحظة حين أفتح لك الباب وانحني بأدب واقول لك: تفضل يا صاحب السعادة» «بعد الرحيل: 957/467». وبالطبع نحن لا ندري هل تحقق ذلك المشهد في الليلة من يوم 71 فبراير 9002م، أم ظلت هذه الصورة المذهلة مجرد محاولة إبداعية أخرى لاختراق حجب الغيب.. لكن المرء يندهش.. فالطيب يرحمه الله توفي مسلماً وغير مخير في موته، تماما كما يتصور «الرجل القبرصي» وتلك النادرة السليمانية، وهمنجواى يموت بجلب الموت على نفسه، تماماً كما لم يتوقع أبداً لا الموت ولا الانتحار في «المخيم الهندي» وقت لم يفهم، ولا في كل حياته فهم، لماذا يموت الناس أو ينتحرون.. ويظل الإبداع السردي مشرع الأبواب في بحثه في ثنايا جماليات الفن عن خفايا الحياة ومعانيها. ٭ الحواشي: 1- حسن أبشر الطيب ومحمود صالح عثمان صالح «9002م» بعد الرحيل: في تذكر المريود الطيب صالح، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان. 2- عامي إلعاد بوسقيلة «9002م» «الواقع والخيال في قصة الطيب صالح، دومة ود حامد»، كتابات سودانية، مركز الدراسات السودانية، الخرطوم أبريل 9002م، ع 74، ص ص76-39. 3- إرنست همنجواى «8691» ثلوج كلمنجارو، بنجوين، المملكة المتحدة «بالانجليزية».