لكوني مجربا في الخيال السردي، ولست بناقد، اجدني غير هيّاب للاعتراف كيف تلذذت دائماً بقراءة ذلك النقد الذي يفتش عن بعض استلهامات مبدع السرد من سيرته الذاتية وتجاربه الشخصية.. وتبهرنا القدرة الإبداعية التي نحللها من هذا الوجه حينما تجعل استلهاماتها من اخبار ذاتها بذات القدر من الصدقية مع ما تستعيره من ملاحظاتها حول الواقع الانساني المحيط بها.. لقد أمتعتني كثيراً هذه الظاهرة في تلك النقود الموصولة بمكتبات مشاهير مثل الكونت ليو تولستوي في القوقاز والسبا ستبول، وفي معظم روايات دفيد هيربرت لورنس، وفي قصص وروايات إرنست همنجواى. لقد تحصنت بعدم تأهلي للنقد، فاعطيت لنفسي حقاً في أن أفتش، بما يستطاع من النزاهة، عن ذلك الجانب الذي يرفض المرحوم الطيب صالح، مراراً وتكراراً، فتح المداخلة اليه، واعني الطريقة التي يمزج فيها الذاتي والملتقط من تجارب الحياة، ثم يصوغ منهما متخيله السردي الفذ. إذن ساتحدث بجرأة عن آرائي في سرديات الطيب صالح دون تهيب من أن يردعها استنكار من المبدع الذي انشأها.. ويستطيع النقاد ان يرموا ملاحظاتي بالشطط، لكن رأيهم ذاك لا يملك امتيازاً على آرائي الا بمقدار ما نقدم من العقلانية في نقاش كل منا للمفردات التي تسوقنا الى خلاصاتنا. لقد اعتنيت هنا فقط بالمسرودات القصيرة للطيب صالح.. وبشيء من الايجاز سأضع الاطار الزمني للقصص القصيرة الثمان والنوادر الخمس التي سماها «مقدمات» في الفترة بين عامي 3591 و3791م.. ولاتجنب المغالطات حول تواريخ النشر أحيل من يتحرى حول تلك الدقائق إلى المرجعين اللذين استشرتهما وبيناتهما ملحقة بالحواشي ٭ أ- النصوص المتحققة بين 3591 و2691م: لنتذكر أن الطيب صالح لم يمنحنا معلومات وافرة عن حياته الخاصة والعامة، ومنحنا القليل منها في الكتاب الذي أعده طلحة جبريل بعنوان «على الدرب مع الطيب صالح»، وقد نشر في عام 7991م.. وبذلك فقد حاولنا أن نصنع الهيكل الزمني الخاص بهذه الملاحظات وربطه بمهنيات واشتغالات الطيب اوان كتابته لهذه السرديات الثلاثة عشر.. فوجدنا أن القصص القصيرة الست و«المقدمات» الخمس التي طبعت مع «عرس الزين» عام 7691م في بيروت، كانت قد كتبت على الأغلب في بريطانيا واوربا بين 3591و2691م.. ونحن نعرف أن الطيب صالح كان يعمل وقتئذٍ في هيئة الإذاعة البريطانية، ولم يكن قد كتب لا «عرس الزين» ولا «موسم الهجرة إلى الشمال». «نخلة على الجدول» 3591م، يقول عنها صاحبها إنها «قصة بسيطة كتبتها بباسطة شديدة جداً.. كانت تعبيراً عن حنين للبيئة ومحاولة لاستحضار تلك البيئة «بعد الرحيل:97».. هذا كان في عام وصوله الى لندن قادما من الخرطوم.. الناقد السوري المشهور المرحوم محيي الدين صبحي أشار الى هذه البراءة السردية عند الكاتب الناشئ حينما لفت الأنظار إلى دور تلك الصدفة السعيدة عند خاتمة القصة في حل عقدتها.. لكن صبحي يمتدح تصوير الصلابة الراكزة لدى الفلاحين في مواجهة إغراءات البرجوازية القروية إن صح الوصف بذلك على التاجر المحلي «بعد الرحيل:966». ثم يقدم لنا شقيق الطيب صالح المورد الوقائعي والبيئي الذي يستلهمه أخوه يومئذٍ عندما يقول: «كرمكول قرية عادية على حدبة النيل ليس بها شيء يلفت النظر.. شريط من الأرض تكسوه أشجار النخيل مع مساحات ضيقة لزراعة المحاصيل قلَّ من كان يعتمد عليها اعتماداً كاملاً في معيشته.. كانوا يعتمدون على المبالغ التي ترسل إليهم كل شهر من الأزواج والأبناء بالبريد احياناً وباليد مع القادمين في اغلب الاحيان «بعد الرحيل 14».. وكل هذه الاوصاف موظفة باتقان وبمطابقة شبه كاملة في «نخلة على الجدول». «حفنة تمر» 7591 تدلنا على أن الطيب من لندن اصبح يقترب مما يسميه «لاقيم جسرا بيني وبين بيئة افتقدتها بدون سبب» بعد الرحيل 048. ويعترف الطيب أخيراً بأن الأحداث والشخصيات في أعماله هي مزيج من الوقائع والخيال، وهي حقيقة لا ينكرها كاتب سرد ناصح.. في مقابلتين أعاد المصريون نشرهما عام 9002م بعد وفاته، يقول الطيب مرة «إنني اعتمد على أنصاف الحقائق وعلى الأحداث التي يكون جزء منها صحيحاً والآخر مبهماً» وفي الاخرى يقول: «لا أظن ان في مقدور الكاتب التنصل من الشخصيات التي يبدعها، لأنها تنبع من خياله ومن تجارب عاشها او تابعها في حيوات الآخرين» بعد الرحيل 977 و587». الجد الذي يلازم القارئ للطيب صالح من «حفنة تمر» 7591 وحتى الجزءين من «بندر شاه» 1791و7791م، فيه ملامح قوية جداً من جدين للكاتب كما يقدمهما حفيداهما لنا خارج النصوص السردية.. الجد الاقرب: صالح أحمد، كان فارع الطول ضخم الجسد، محترماً ومحبوباً ومرهوباً، وقد مشى على قدميه من كرمكول إلى مصر عام 7191م.. ثم كان والد هذا الجد والمدعو أحمد، رجلا ثرياً وله أراضي زراعية ونخيل بقرية عبسة، وعرف مع أسرته بالثراء في مدينة بورتسودان لفترة متوهجة في تاريخهم الاسري «بعد الرحيل: 83/ 93/ و577». وصورة الجد في «حفنة تمر» آخذة من بعض هذه الملامح.. ولا تخرج الصورة في «حفنة تمر» عن استهجان الطفل الحفيد للقسوة والبطش الاجتماعي التي تبديها البرجوازية القروية كما نشهد في «نخلة على الجدول»، ولنتذكر أن الطيب صالح في فترة الخمسينيات من حياته في لندن، كان مشايعاً للاشتراكية الغابية. القصة الثالثة التي تسبق «دومة ود حامد» هي «رسالة الى إلين»، ولو نصحنا لقلنا إن المشاعر الفياضة التي يبديها السوداني الذي يقضي اجازته عند اهله ويسترجع لحظاته الحميمة مع زوجته البريطانية، وهي تحرص على ذهابه بعيدا عنها ثم تحثه على العودة اليها، لقلنا بأنها تستلهم قدراً هائلاً من بواكير الحياة الزوجية للطيب صالح.. وهي قصة مفعمة باللفتات الرومانسية الرفيعة. ثم تأتي «دومة ود حامد» عام 0691م ليكون نشرها في مجلة «انكاونتر» البريطانية، شارة بارزة لدخول كاتب ناضج لعالم الإبداع السردي بالعربية.. وهنا يتحدث النقاد عن المعالجة لما يبدو تعارضاً مزعوماً بين التقاليد المحلية والتطور التنموي في قرية ود حامد المتخيلة.. وحسن أبشر الطيب يلخص رسالة هذه القصة في تصوره بأن قريحة الكاتب الابداعية تبين أن الجدل والصراع بين الحكومة والقرويين حول المزار ومرفأ الباخرة ووابور الماء لا معنى لها.. وذلك لأن الذي يغيب عنهم جميعاً هو سعة المكان للدوحة والضريح ولمحطة الباخرة وما عداها من معالم التطوير «بعد الرحيل 82»، ويصبح المؤدي الرئيسي للقصة هو أن التقاليد يجب ألا تتخذ من أية جهة كانت أداة لحجب التنمية. والقصتان القصيرتان: «اذا جاءت» و«هكذا يا سادتي» لم ار لهما اعتباراً كبيراً لدى النقاد.. فخطوطهما احداثا وشخصيات ومؤدي.. ابتعدت كثيراً عن الحفريات الأثيرة عند الطيب في مساقات التجاذب بين الحياة في «ود حامد» والحياة في أوروبا.. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نقول إن «المقدمات» الخمس تلقى اضواءً كاشفة، وان كانت موجزة، على العلاقات ذوات الشكل المتعدد بين الشاب الإفريقي المغترب والفتاة البريطانية.. فمثلاً ذلك الصوت النشاز في نادرة «أغنية حب» يخسر حبه.. لكن الذكريات التي تكشفها السيدة جولي صالح ارملة المرحوم الطيب صالح عن هذا الغناء النشاز الذي يؤديه الطيب صالح، وهو يقرأ أشعار السير وليام إمسون «6091-4891» تؤكد كيف تتجاوز المحبة الأسرية مثل هذه النواقص اللطيفة، وكيف تحولها المودة العائلية إلى وجدانيات باقية «بعد الرحيل:388 و764». النادرة المسماة « خطوة للأمام» تسجل لحظة نجاح بديعة للتلاقي بين العرقين والثقافتين الافريقي والاوربي، للدرجة التي ينتج منهما ولد خلاسي هو برهان عملي على التجسير الممكن بين مسافتي القارتين إنسانيا وواقعيا.. لكن المقاصد العاطفية تفشل في النوادر الثلاث: «لك حتى الممات» و«الاختبار» و«سوزان وعلي... فالمحبة هنا لا تحقق التمازج الجميل في النادرتين السالفتين، وأبعد ما تكون عن «رسالة إلى إلين» ربما لأن الاستحالات المتولدة من التباعد القاري كانت لها ها هنا اليد الباترة. ب النصان المتحققان بين 2791وأوائل الألفينيات: حينما كتب الطيب صالح قصته البديعة «الرجل القبرصي» عام 2791م ونشرها في بيروت بعد عام، أي 3791م كان لا يزال متعاقداً مع هيئة الاذاعة البريطانية.. لكن شهرته كانت قد طبقت الآفاق. وقد صدرت الطبعات تباعا في بيروت لمجموعته المتحققة 7691، ورواياته الثلاث «عرس الزين» و«موسم الهجرة الى الشمال» و«ضو البيت».. وسرعان ما توالدت الترجمات للقصص والروايات، الى الانجليزية اولا بمهارة دينيس جونسون ديفز، ومنها الى الالمانية والروسية والفرنسية واليابانية والصينية، وما عداها.. وكذلك يشتد كسبه حتى ينال الاعتراف العالمي بعبقريته. اعتقد ان موضوعة الموت تظل شاغلاً إنسانياً رئيسياً لدى أغلب المبدعين الكبار.. لذلك فالطيب صالح أيضاً نراه يتحاوم حول لغز الموت في رواياته الثلاث الأخيرات ليوازن بين بهجة العيش وضرورة الفناء.. لكنه في «الرجل القبرصي» يحفر عميقاً في القلق الذي يحمله كل إنسان عن الموت الراصد لجميع ابناء الرجال والنساء.. ولقد سهل عليَّ أستاذنا محمد إبراهيم الشوش المهمة عندما تناول هذه الظاهرة نفسها تحت عنوان «لعبة الموت مع الطيب صالح».. يقول الشوش: «وكان الطيب هو الوحيد الذي يعرف سر هذا الاصرار ومآله. فقد قابل الموت وجهاً لوجه في بيروت ونجا منه بأعجوبة أذهلت الاطباء.. وسافر في مهمة إلى قبرص، وهناك كما يحدثنا في آخر رواياته «الرجل القبرصي» قابل مندوب الموت الذي قال له فيما يشبه المداعبة والتهديد: لقد نجوت من الموت هذه المرة لأن والدك قد افتداك بروحه.. وفي المرة القادمة حين يدهمك الموت لن يفديك أحد.. وبعد ذلك بفترة قصيرة جاءه نبأ وفاة والده الذي وصف موته بأحلى الكلمات وأعذبها في رواية مريود» «بعد الرحيل 427».