إكتظ ميناء سواكن بسفن النقل والسفن الحربية واحتشد الرجال على الساحل من الجيش البريطاني والجيش الهندي كانت القوات المحتشدة في سواكن تضم لواء الحرس وسريتين من لواء النبع البارد وسرية من الحرس الاسكتلندي الذين كانت في وداعهم الملكة فكتوريا نفسها في قلعة وندسور. ثم ازدادت قوة الحرس في سواكن بانضمام خمسمائة جندي من فرقة ثاوزيلز الذين قدموا من استراليا الى سواكن في مارس 5881م وهم يرتدون السترات الحمراء التقليدية للمشاة البريطانيين والتي استبدلوها بالكاكي عندما انضموا الى قوة جراهام التي بلغت ثلاثة عشر الف رجل وزعوا على اربعة ألوية ثلاثة منها مشاة بالاضافة الى عدد ضم من المدفعية وثلاث مجموعات من سلاح المهندسين الملكي كانت مهمة عثمان دقنة التاريخية الخالدة هي كسر زرائب الانجليز وهزيمة جراهام ومهمته البليغة جداً هي ان يجعل الانجليز ينسون انفسهم ويفتتنون به ويشندون الاشعار اعجاباً به، كانت مهمة عثمان دقنة ان يلقن فرسان الانجليز رجال حرب البوير درساً ما يزال يدرس في قيادات القادة والاركان حتى في اميركا اذ صدر آخر الكتب التي اطلعت عليها 6991م بفلدر روبن نيالاند ترجمة د. عبد القادر عبد الرحمن. اذاً كانت مهمة عثمان دقنة ان يقدم خلاصة عبقرية اهل شرق السودان هزيمة نكراء للجيش الاسطوري جيش الامبراطورية الفيكتوري لكن الامر لم ينته بتاريخ يقرأ ويحلل بل بقيت عبقرية عثمان دقنة سراً كامناً في اهل الشرق وسر أهل الشرق ليس في شجاعتهم وقوة شكيمتهم فحسب بل ايضاً في صبرهم وقدرتهم على التأقلم مع العطش والجوع والشح والعدم ولحسن حظ السودانيين والدولة السودانية انهم القوم الذين يحرسون بوابة الشرق ومدخل البحر الاحمر وما ادراك ما البحر الاحمر والاطماع الصهيونية في موقعه الاستراتيجي واهميته التجارية والعسكرية هذا الموقع الذي جعل كل الشعوب المطلة عليه الآن تحت تأثير النفوذ الاميركي الصهيوني. إن الصهاينة الذين احتلوا فلسطين في القرن العشرين ظلّ البحر الاحمر والنيل من اهم المناطق التي يجتهدون للتأثير عليها وقد تمكنوا من ايجاد موقع قدم راسخ في اثيوبيا واريتريا وجيبوتي وتمكنوا من زرع الفتنة في الصومال التي هي الآن خارج التأثير على محيطها بل هي تمثل عبئاً اجتماعياً وامنياً بدلاً من ان تكون رافداً ثقافياً واجتماعياً. ونحن لا نطلق القول على عواهنه ولا ننطلق من نظرية المؤامرة عندما نؤكد على مدى الجهد الذي بذله الكيان الصهيوني ليسيطر على القرن الافريقي فاذا علم القارئ بان اول مملكة اسلامية قامت في وسط الهضبة الحبشية وهي مملكة شوا في نهاية القرن الثالث الهجري 382ه الموافق نهاية القرن التاسع الميلادي 6991م حيث يقول د. موسى محمد عمر في كتابه «الصراع السياسي والثقافي وقضية الهوية عند الاحباش» في ص «54» فإن من الثابت تاريخياً ان قبيلة عربية قرشية من بني مخزوم هي التي انشأت اول سلطنة عربية اسلامية في الحبشة». لقد انتشرت السلطنات والممالك الاسلامية في القرن الافريقي وتعرضت كغيرها الى حروب وفتن وضربات محكمة التخطيط حيث لم يدع اليهود شبراً على وجه الارض يمكن ان تقوم للمسلمين فيه قائمة الا وسبقتهم وهم في غفلة من امرهم الى وضع الخطط ورصد الاموال حتى تحول دونهم والتطور الطبيعي لمجتمعاتهم، فمنذ نشوء تلك الممالك بدأ الصراع في منطقة القرن الافريقي واشتعل ضراوة ابان الحرب الصليبية وتجذر وتعمق مع الحروب الاستعمارية في القرن الثامن عشر ولم يشتد الا حرارة ايام الحرب الباردة وسيظل العرض مستمراً حتى بعد الصاروخ الذي ضرب «السوناتا». السؤال الذي يفرض نفسه كيف يستطيع جهاز الامن الوطني «الاستخبارات السودانية» الآن ان يواجه جهاز الموساد؟ إن جهاز الموساد الذي ناء بكلكله على القرن الافريقي ونخر في جسده وتمكن بمساعدة القواعد الاميركية في المنطقة من خلق وجود اقتصادي وعسكري وتجاري في منطقة القرن الافريقي ولم يستعص عليه سوى شرق السودان منذ الدرس الاول الذي لقنه عثمان دقنة لاعوان اليهود وان لم يستعص للاسف على الموساد جنوب السودان ان هذا الجهاز -أي الموساد- الآن لا يحتاج من رجال الاستخبارات السودانية الى حدة الذكاء الذي عرفوا به ولا الى الميزانيات الضخمة التي ينالها من الموازنة العامة، إن جهاز الامن الوطني الآن يحتاج كاولوية قصوى ليتمكن من حماية الأمن القومي الى جبهة وطنية متماسكة والجبهة الوطنية المتماسكة لا تتكون بمحاورة الاحزاب التي تجاوزها الزمن والمنطق بل باصلاح مؤسسات الدولة وهيكلتها على أسس علمية، وباحترام القانون وسيادته وفوق هذا وذاك السعي الى تحقيق العدالة الاجتماعية التي بدونها لن نحصل على مواطنة حقيقية وبالتالي على شعور وطني صادق وغيور بل عوضاً عن ذلك نرى غبناً وكيداً ومكراً لا نفرق بين الوطن والحكام والنتيجة صعوبة المحافظة على الامن الداخلي وسهولة اختراق المجتمع بل وحتى تأليبه على ثقافته وثوابته مما يعني انهيار الامة لا سمح الله. إن احفاد عثمان دقنة لا يمكن صيدهم كالعصافير بنبل الموساد مهما كانت الظروف فهم لم يكونوا يملكون عدة او عتاداً عندما انزلت الامبراطورية البريطانية جيوشها في سواكن ولم تكن اكتافهم تتحلى بالنجوم والصقور عندما هزموا جنرالات الانجليز فرسان حرب البوير الذين كانت الاوسمة والنياشين تزين صدورهم. إن السودانيين بتركيبتهم العجيبة ومزاجهم الخاص لا يتملكني ادنى شك في انهم احد عجائب الدنيا لن تكون قدراتهم وقوتهم وصفاتهم دروساً تاريخية بل ستظل باذن الله شاهداً على كل عصر، ستنهض قوتهم وتتطور قدراتهم وتتبلور صفاتهم وفقاً لمعطيات كل زمان لنفاجيء اي امبراطورية يحلو لها اللعب واذا عجز رجال الدولة وفي مقدمتهم وزير الدفاع عن حماية الارض والجو فانني اطمأنه وبثقة متناهية وارجو منه ان يتماسك ويثبت ويركز فان اجواءنا لا تحمى بالرادارات ولا أرضنا تخشى من يزحف بجيوشه مستهدياً بال «جي بي إس». إن حديث وزير الدفاع الذي قاله بعد ان قام وزير الخارجية بالواجب «شكر الله سعيه» بفقع المرارة لكننا لن نموت كمداً اذا عجز احدهم او ضلّ فهذا وطن وليس متاعاً من أمتعة الدنيا بماذا يعتقد السيد وزير الدفاع عندما يعلن عجزهم عن حماية الاجواء؟ هل فهم جهاز الاستخبارات الوطني عبء وثقل المسؤولية ،إن الأمان والضمان في الانسان السوداني خفوا عليه او اتركوه. إن جهاز الموساد ليس رجالاً اذكياء فحسب ولا هم اكثر ايماناً بمخططاتهم الاستعمارية من ايماننا بالحق المطلق لكنهم يرتكزون على مؤسسات علمية صارمة فجامعة تل ابيب بالتأكيد هي واحدة من أحسن مائة جامعة في العالم إن لم تكن من عشرين ومعظم اساتذة ومنظري القانون الدولي في العالم من اليهود هل يستطيع جهاز الامن الوطني الآن ان يجيب على اسئلة جامعة الخرطوم الجريحة؟ وهل يستطيع ان يخبرنا على اي مراكز البحوث والدراسات يستند؟وهل هو قادر على إعداد أجيال قادرة على مواكبة المستجدات؟ إن محاولة اتهام اسرائيل بكلمات رنانة امام عدسات المصورين لن تنجينا، والشكوى الدائمة من قبل وزير الدفاع من السماء المكشوف ومن أجهزة الجي بي إس لا تهمنا ما يهمنا هو ان لا نكشف نحن اسقفنا وقدراتنا امام العالم بعدم الحرص والاستهتار فعربة السوناتا لو لم يستخدم ركابها الهاتف او كانت «معلّمة» بمادة ما لا يستطيع الصاروخ ضربها مهما كانت سماؤنا مكشوفة. إن المكشوف حقاً هو تداخل الاختصاصات بين الاجهزة العسكرية والامنية وبين الاجهزة العسكرية ذات نفسها اين سلاح الجو والبحرية؟ إن التحقيق الذي أجراه القاضي الايطالي الذي كلفه كوفي أنان بشأن الجرائم التي ارتكبت في دارفور «التقرير موجود في الانترنت» كشف بؤس العلاقة بين جهاز الأمن والجيش واجوبة وزير الدفاع تدعو للشفقة والبؤس وربما هي الثغرة التي استندت عليها المحكمة الجنائية ولا أحد يتعلم او يصمت حتى. كتب مارتن انديك في كتابه «أبرياء في الخارج» رواية شخصية لدبلوماسية السلام الاميركية في الشرق الاوسط وهذا الكتاب يحكي قصة أحد المبعوثين الخمسة وكلهم يهود- الذين بعثهم كلينتون للسلام في الشرق الاوسط وقد قاموا برحلات ماكوكية من الدارالبيضاء غرباً الى عمان شرقا وطبعاً شرم الشيخ والرياض كانت المحطات المفضلة وحتى دمشق في هذا الكتاب كان هذا المبعوث يصف تفاصيل التفاصيل من عصير الليمون حتى الوان الستائر ودع عنك تحليله لهؤلاء الزعماء نفسياً وسياسياً وانسانياً الآن كل المبعوثين الذين يستقبلهم وزير الخارجية لهم علاقة باليهود وهم يقيمون ويكتبون ويربطون ما يصلون اليه بمؤسساتهم البحثية ليكيفوه مع القانون الدولي ومع السياسات المستقبلية لبلادهم فهل يضيرنا بعد ذلك ان كانت سماواتنا مكشوفة ام مغطاة؟ يحتج بعض اهل الحل والعقد في الحكومة بان اميركا لم تستطع حماية اجوائها! لكن ما لنا واميركا بعد 11/9/1002م تعيش رعباً قاتلاً ونحن لا نعرف الرعب وهذه مشيئة الله أمننا النفسي مستتب ودفاعاتنا الثقافية والايمانية اقوى منهم لو تحصنوا ببروج مشيدة لم تكن القوة العسكرية مصدر طمأنينة بالنسبة لنا في يوم من الايام لكن خطواتنا المحسوبة وراداراتنا الداخلية هي التي تكتسب منها الهيبة والمنعة والعزة «اولاد ناس عزاز نقعد ونقوم على كيفنا» لم نرهن إرادتنا لاحد ولن ترعبنا اجواء مكشوفة او مغطاة لكن يغضبنا جداً ان نكون بكل ارثنا ومجدنا وتاريخنا ملهاة لمن لا يحسب خطواته او يجوّد مؤسساته أو يدغمس في العلاقة بين المؤسسات نحن نريد مؤسسات ذات قوة علمية مهنية احترافية فهل سنأخذ الدرس من صاروخ السوناتا؟ أم سننتظر مزيداً من «النبال»؟!