أجاب عن سؤالي هذا عنوان عمود السيد السفير نيكولاس كاي بهذه الصحيفة الغراء «الصحافة» إذ سمَّاه «خيارات». وهذا يعني أن السيد السفير قد اختار الكتابة الصحفية وهو اختيار يعد مجافياً للمعتاد، لأن الدبلوماسية كما تعرف في واحدة من تعريفاتها هي إخفاء الدبلوماسي لرأيه الحقيقي في منظومة من الاكليشيهات اللفظية والتعريفات الاتيكيتية، فهل يسمح ذلك «ليس رسمياً طبعاً» للسفير «أي سفير» أن يكون من كتاب الرأي في صحيفة؟ قلنا «أى سفير» مع أننا نتكلم هنا عن سفير بريطانيا بالذات التي هي إحدى بانيات الدبلوماسية الحديثة في العالم، والتي اعتدنا منها التعامل الدقيق المنضبط في العلاقات الدولية. كما عرفنا عن الشعب البريطاني بمكوناته كلها ميلاً للكتمان والحذر إذا تعلق الأمر بالتصرف مع الآخرين في ما عرف عالميا ب (the British Subtlety) فهل «خيارات» السيد نيكولاس كاي هي خياراته الشخصية أم أنه مأذون له بذلك. فإن كان الخيار هو خيار السيد نيكولاس كاي شخصياً، فذلك يعد تبدلاً نوعياً في سلوك الدبلوماسيين البريطانيين، وإن كان بإذن من جهته المخدمة فهذا أيضاً تبدل نوعي في السلوك الدبلوماسي البريطاني على العموم. والتبدل النوعي كان شخصياً أو عاماً يبدو بالنسبة لى أمراً إيجابياً، لأنه حتى في تاريخ بريطانيا الاستعماري للسودان، كان الاستعمار يحرص على أن يكون موظفوه بعيدين عن الشعب المستعمر، وأن يتعاملوا معه في الإطار الرسمي الصارم غالباً، حتى إن علماء السياسة يسمون الاستعمار البريطاني بالاستعمار من بعيد، بينما يسمون الاستعمار الفرنسي بالاستعمار الاختلاطي. وفي الصورة الملحقة بعمود السيد السفير نيكولاس كاي بهذه الصحيفة، نجده مصوراً وهو يضع البدلة على كتفه ويلبس قميصاً بدون ربطة عنق في منظر ودي حميم كأنه يقول للشعب السوداني «أحييكم أيها الأصدقاء». فهل تغير اتجاه التفكير البريطاني على عمومه في التعامل مع الشعوب، أم أن هذه مبادرة شخصية من سعادة السفير؟ أقول ذلك وأنا أعرف أن بعض البريطانيين أيام الاستعمار وبعده كانت لهم علاقات شخصية وحميمة مع بعض السودانيين، وقد سجلوا بعض هذه الخواطر في مذكراتهم وهم شعب يتفوق علينا بتسجيل المذكرات الشخصية والتي غالباً ما تصنع فيما بعد أمتع أنواع الكتب. كنت اعتقد دائماً أن العلاقة بين بريطانيا والسودان ينبغي أن تكون علاقة مميزة، لأن السودان على الرغم من ضرر الاستعمار العام قد استفاد من بريطانيا كثيراً، فهي التي أدخلت فيه المدنية الحديثة، وهي التي فتحت كلية غردون وبخت الرضا ومنظومة التعليم الابتدائية والثانوي، وهي التي أقامت خزان سنار لتنزرع الجزيرة ويودع السودان المجاعات، وهي التي بنت خط السكة الحديد، وهي التي أدخلت الخدمة المدنية الراقية، وهي بالطبع التي علَّمت السودانيين اللغة الإنجليزية. ومع ذلك وفوقه فإن رأي البريطانيين في الإنسان السوداني وكرمه ونبله وحكمته وامتيازه على إنسان المستعمرات الأخرى، قد كان رأياً ايجابياً. وبادلهم السودانيون ذلك حتى كان الرأي السائد شعبياً أن البريطانيين هم «قرشيون» وأنهم إذا نطقوا بالشهادة دخلوا الجنة قبل كل أحد..!! عجبت دائماً من التشدد الزائد في حصول السودانيين على تأشيرة الدخول إلى بريطانيا، مما ينافي بعض هوى السودانيين لهذه الزيارة، حتى قال سوداني من هواة إنجلترا «وهو معروف» «عيب شبابي الما سرا ما حج زار إنجلترا»..!! وأنا أقول نيابة عن الشعب السوداني لأننا أمة «يسعى بذمتها أدناها» إننا نرحب بهذا الروح الجديدة التي أبداها السيد السفير نيكولاس كاي، خاصة في زمان الشعوب هذا الذي تنطلق فيه الثورة في كل مكان، مما يحتاج إلى فهم وتعاون كالفهم والتعاون الذي أبداه السيد نيكولاس كاي... له مني التحية.