أشارت أقلام مقروءة مؤخرا الى مناسبة مرور عام على طلب المحكمة الجنائية الدولية مثول رئيس الجمهورية ضمن قادة رفيعي المقام في الهرم السياسي التنفيذي في الحكومة والحركات المسلحة ممن ساهموا في ادارة النزاع المسلح بدارفور، وذلك للدفاع عن انفسهم في مواجهة اتهامات بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية فيما يسعى المدعي العام للمحكمة لالصاق تهم اضافية بالابادة الجماعية خاصة في الفترات التي سبقت اقرار مبدأ التحول الديمقراطي الذي تمظهر في اتفاقيات السلم (وبعضها تحت الاستكمال)، وفي الانتخابات كمدخل لتداول السلطة سلميا وكتمهيد ضروري لإنهاء الاوضاع الشمولية على نحو عام في البلاد. بما ان الشعب السوداني على يقظته التاريخية واستنارته الانسانية فإن قطاعات واسعة فيه لم تتوفر لها بعض المعرفة الضرورية لما حدث في دارفور خلال فترات النزاع المسلح والذي ما يزال مستمرا بين اطراف تملك القدرة على الاستمرار في القتال مع توفر السلاح و تزايد عدد القادرين على حمله خاصة الشباب الذين يمثلون 75% من حملته وتتراوح اعمارهم ما بين 13 - 22 سنة كما تؤكد بحوث موثوق من نتائجها. على تلك الخلفية فإن السؤال ايهما اولا: العدالة ام السلام؟ لم يطرح على مائدة الحوارات الوطنية والمحلية ، اذ ان الاطراف لا ترغب ان ترى نفسها في الزاوية العدلية خاصة تحت مواد القانون الدولي الانساني، ومبادئ حقوق الانسان، التي تحاول ان تضع معايير انسانية لاخلاقيات النزاع حتى داخل الوطن الواحد، او بين الحكومة ومواطنيها ايا كانت القضية موضع النزاع. لعل هذه المعايير الانسانية لكونها جديدة فقليلون هم من يهتمون بإثارتها ، ومن اهتم بإثارتها لا ينجو من الاتهام بالخيانة ونحو ذلك، وربما تعرض للاعتقال والاستفزاز والتعذيب.. الخ. وهكذا وتحت ظروف مماثلة ظلت الاجابة على سؤال العدالة ام السلام أولاً؟ شأناً دولياً، وخارج دائرة الاهتمام الوطني، فبينما ظلت المعارضة المسلحة مع قوى المعارضة الاخرى تركز على قضايا العدالة اولاً ، في المقابل ظلت ا لحكومة السودانية والموالون لها يركزون على اسبقية السلام، ومعالجة قضايا العدالة بالمصالحات المحلية في مراحل لاحقة. على الصعيد الدولي تزايد النداء بضررة ان تكون العدالة سياجا للسلام، لذا ومن واقع قرارات مجلس الامن للامم المتحدة التي تمت بها احالة الحالة الجنائية في دارفور خلال فترة النزاع المسلح الى المحكمة الجنائية الدولية، تفاقم الصراع حول من يجب ان يمثل أمام المحكمة؟ ان المدعي العام للمحكمة الجنائية مهني ولكنه ليس فوق الاخطاء البشرية. والحال كذلك فإن ساحة المحكمة هي الساحة التي تحسم فيها المزاعم، وتدحض الحجج، وتبين الاخطاء، لتبقى الحقيقة منارا لعدم تكرار ما حدث، تماما كما حاولت البشرية من قبل بوسائل غير مكتملة اجراء محاكمات طالت افراداً في نور مبيرج وطوكيو، بيد انها كانت محاكمات لم تؤخذ منها الدروس والعبر والحكمة الانسانية، فقد كانت محاكمة منتصرين ضد مهزومين. مع ذلك انتهت تلك المحاكمات الى شعار مدوي (never again) التي تعني باختصار دعوة للمنظمات الدولية خاصة الاممالمتحدة ان تعمل على التدقيق في تحقيق العدالة، وتهيئة الظروف للسلام، حتى لا تتكرر المآسي على النحو الذي شهدته احداث الحرب العالمية الثانية، فقد قضت على ملايين البشر. أياً كانت درجات الاختلاف في مأساوية الكارثة الانسانية بدارفور سودانيا، الا انها شحذت الهمم اقليمياً ودولياً ليس فقط من اجل معالجتها ولكن ايضا لتصبح نموذجا لحل الحالة المعقدة والمماثلة في القارة الافريقية وغيرها من مناطق النزاع في العالم الثالث. لقد ارتبطت العدالة بالسلام لدارفور في كل الادبيات الدولية والاقليمية، وذلك ما اكده الامين العام للامم المتحدة في مناسبات عدة، ايضا وعند ما برزت مبادرة اقليمية افريقية بتكوين اللجنة رفيعة المستوى بقيادة ثابو امبيكي الرئيس السابق لجنوب افريقيا، بشأن السلام والعدالة والمصالحة لدارفور ، اكدت هي الاخرى ان المحكمة الجنائية الدولية لا تملك كل القدرة للتعامل مع كل الحالة الجنائية في دارفور، لذا فإن جهدا عدليا اضافيا يجب ان يُبذل من خلال استقدام نموذج المحكمة المختلطة التي تتكون بخبرات وطنية واجنبية برغم تكلفتها العالية، هذا فضلا عن المحاكم العادية ولجان الاقرار بالحقيقة والاتجاه بها نحو التصالح. لقد كان ممكنا ان تتعامل الحكومة السودانية مع الحالة الجنائية لدارفور اثناء النزاع بوسائل لا تصل حد رفض الاعتراف بالعدالة الدولية على النحو الذي اتبعتها اجهزتها الاعلامية والامنية والعدلية، على ان ذلك لم يحدث وبقي السؤال لماذا؟! ان كارثية ما حدث في دارفور من افعال جنائية من كل الاطراف للنزاع، لم يكن محل تصديق الدارفوريين انفسهم، دع عنك المجتمع الدولي. أنا شخصيا لو لا اليقين الراسخ بحتمية الموت، لم اكن لأصدق ما حدث فافراد من اسرتي واقاربي في منطقة كرنقل شمال غربي كبكابية، في يوم وليلة واحدة فقدت عمي بخيت خاطر إمام وابنيه هارون واسحق ونحوا من مائة من مواطنيهم بالقتل على دم بارد، فيما لاذت القرية والقرى المجاورة بالفرار الى كبكابية ومناطق اللجوء شرقي الشقيقة تشاد، كان عمي بخيت قد تجاوز الثمانين من العمر، وكنت في كل مرة ازوره اتداول معه امكانيات تحديث حياة مواطنيه بالتعليم والصحة وفتح نوافذ للتجارة والاستثمار الزراعي، وفي كل مرة كانت ردوده معدة سلفا ، وهو يؤكد (يكفي تعليمكم يا ولدي ، اما أنا وفي المكان دا، ما فارقت تقابة القرآن الكريم، داير اعلم الأولاد القرآن..) ويستمر الجدل بيننا بطيئا، ولكنه جدل منتج في اتجاه التحديث، فأحفاده ذهبوا للمدارس، وتعلموا وهم يساهمون اليوم في قيادة الرأي العام المحلي، بدراية وبمعايير بعضها دولي وقد تدربوا على قيادة التنمية في مر حلة ما بعد تسوية النزاع. ان قرى كرنقل بحاجة ماسة للسلام مقرونا بالعدالة ولاشك، بيد اني أدركت ان ذلك لن يتحقق الا بأن تتوحد مفاهيمنا العدلية على الصعيد الثقافي. على سبيل المقاربة ان الانسان في ثقافة دارفور مع العدالة جملة واحدة، فإذا ما يستدعي للمحكمة متهما، او شاهدا يستجيب بأريحية، وعندما يتعهد بفعل شيء ما يقرن عدم التمكن بإحدى الحالتين ، اولاهما تدخل الارادة الإلهية وثانيهما تدخل ارادة القضاء، وفي ذلك يقال: (إما ربّاني او سلطاني).. في حالة لا تبدو نادرة حكم الشرتاي آدم أحمداي بكبكابية على أمه بالجلد (عليهما الرحمة) عندما تقدمت امرأة اخرى بشكوى ضدها في محكمة يرأسها ابنها الشرتاي.. إن ثقافة الاستجابة لدواعي العدالة في دارفور تراث انساني عظيم ربما تولاه الدارسون بالبحث والتقصي والتحقيق، فيما كان مدهشا لي في المقابل عندما اصبحت مواطنا في وسط السودان ، ان المرء قد تزيد قيمته اذا ما ارتكب جرما وأفلح في الافلات من العقاب. لقد كانت الاذاعة السودانية تروج لذلك من خلال تقديم نماذج لبطولات الهمباتة وفخرهم بالحاق الأذى بغيرهم وقدرتهم على الافلات من العقاب باعتبار ان ذلك ضمن ثقافة هذا الجزء من السودان، ولعل الكثيرين عاشوا كلمات الشاعرة التي طالما تمنت ان يكون لديها عشرة اخوة من ابيها (يقتلوا الزول ويتناكروا).. لقد عالج الاستاذان الراحل د. شرف الدين الأمين عبدالسلام، والبروفسير آدم الزين محمد تلك الظواهر الاجتماعية والمفاهيم الثقافية الاستثنائية امكانية تجاوزها بالوعي التنموي والتواصل الانساني ، والى ان يتم ذلك، فإن مزيدا من الجدل سيسهل اثارته حول المحكمة الجنائية الدولية، وكامل المؤسسات العدلية.