أم ءحمد كانت تصر على زوجها لاستخراج شهادة الميلاد لابنهما أحمد، بحجة الحاجة إليها عند بلوغه سن الدراسة. ولكن والد احمد يفاجئها بسؤال استنكاري: هل سنبقى في غربتنا إلى تلك اللحظة؟ ومرت الأيام والسنين واحمد الآن طالب بإحدى الجامعات السودانية ولم تسعف الظروف أبو احمد حتى بزيارة السودان طيلة هذه الفترة. سقت هذا المدخل مثالا لنماذج عديدة تكتظ بها دفاتر الغربة، فغياب سقف محدد لفترة الاغتراب يجعل السودانيين خارج بلادهم بلا هدف، حتى تحولت حياة الهجرة إلى غاية بدلا من كونها وسيلة، فقد حدثني احد ممن سبقوني إلى المملكة وهو رجل قد تعدى الستين من العمر، بأن سقف أمانيه كان الحصول على ساعة سيكو ومسجل وحقيبة ملابس، ولكن سرعان ما اتسعت الهوة لتستمر غربته أكثر من عشرين عاما. وطرفة سخيفة يتندر بها المغتربون أمام أي مستجد، مفادها أن العشر سنوات الأولى هي أصعب أيام الغربة، حتى يتم التعود على الحياة الجديدة، وإن تطاولت وقلت إن غربتك لن تطول فسيبادرك احدهم بأنه سيذكرك بعد سنوات بمقولتك هذه التي عليك أن تتذكرها جيداً. لكن الأمر برمته متشعب، وتشترك في إدارته أطراف عدة حكومية واجتماعية وشخصية، فقد أكدت مواقف كثيرة أن وزارة العمل السودانية ليست هي البوابة الرئيسية لهجرة العمالة السودانية، فهي لا تمتلك حتى عقود مزيفة للمغادرين، ناهيك عن متابعة مخصصاتهم وطرق إثبات حقوقهم التي طالما هضمها الآخر. والداخلية هي الأخرى تمكنك من استخراج جواز سفر بالمهنة التي قد لا تتناسب مع ما تملك من مؤهلات، فخرج أطباء ومهندسون وكفاءات عالية بجوازات تحمل مهنة عامل «تربية مواشي»، وأضحى الأمر بابا للتندر حتى في الدراما المحلية لبعض دول الخليج التي قدمت يوما الراعي جعفر السوداني اختصاصياً في أحد مسلسلاتهم الرمضانية، وتحمل وثيقة السفر الرسمية تاريخ ميلاد لا يمت لحامله بصلة، خاصة بعد أن بحثت إدارة الإحصاء في سجلاتها ولم تجد اسم فلانا مسجلا، ليجتهد الآخرون في تحديد تاريخ الميلاد المفصل لحامل وثيقة السفر. وسفاراتنا بالخارج هي الأخرى تلبس ثوب هذا التقصير حيال هذا المهاجر، فتنعدم متابعاتها لرعاياها بالخارج لدرجة لا يقيم لها الآخرون وزنا، واقتصر دورها في سنوات سابقة على الجباية، وعانى المغتربون من عمليات نصب عديدة تعرضوا لها دون رقيب في مجالات الاستثمار والأراضي. وعندما ينوي أحد السودانيين الهجرة فإن أول ما يقوم به حرق جميع سفن عودته، فالوظيفة التي كان عليها يطلق عليها رصاصة الرحمة والطلاق البائن. ومن مصر القريبة يرافقنا زملاء يتدرجون في وظائفهم المصرية مع رفقائهم بمصر، وكل ما عليهم عمله التجديد السنوي ودفع الرسوم الزهيدة المقررة، بالإضافة إلى أقساط التأمينات أسوة بمن هم في مصر الذين يستقطع من راتبهم ما يماثل المدفوع، فيضمن المغترب على الأقل معاشاً يعينه على سنوات العجز وسن التعاقد، وهذا ما لا نجده عندنا، فلا إجازات تتجدد بصورة مستمرة ولا معاشا مأمولا. أما الدور الأكبر فهو متعلق باجتماعيات ممتدة تجعل من المغترب ليلة قدر وعصا سحرية لمعالجة قضايا الأسرة الصغيرة، وتتعداها إلى القرية والى المجتمع الكبير، وقد مكنهم الله من بناء المنازل والمساجد وفصول المدارس وغيرها قبل أن تسعفهم الأيام لبناء شيء خاص يسترهم. وتمر السنون حتى يفاجأ إخوتنا بأن العيال قد كبروا واتسعت احتياجاتهم التربوية والدراسية. ومع غياب معينات العودة التي تلبي هذه الحاجة، نجد الغالبية تستسلم للظروف وترفع راية مفادها «ليس بينك وبين الأوطان رحم، فخير البلاد ما حملك» وهو لأمر مؤسف أن نصل إلى هذه المرحلة التي يدعمها لفظ بلاد المهجر للطلاب المتجهين للجامعات، ويستقبلهم السودان بمعادلة الشهادات بطرقها المجحفة التي تجعل أول الثانوية السعودية بالمنطقة الشرقية لا يجد ما يتمنى من دراسة بالسودان توازي ما حصل عليه. ولعل هذه الخطوة دفعت بالعديد إلى إرسال أبنائهم للدراسة في الدول الآسيوية، الأمر الذي يتطلب مزيداً من سنوات الغربة لتلبية رسوم ومصروفات الدراسة.