الفشل المستمر الذي صاحب مشروع الجزيرة خلال العقود الثلاثة الماضية، اصبح مثار حديث الناس وبؤرة اهتمام من قبل المراقبين السياسيين والاقتصاديين، لما كان يلعبه هذا المشروع الحيوي في مسار الاقتصاد السوداني منذ عهد المستعمر في عشرينيات القرن الماضي كأكبر مشروع زراعي في افريقيا (2 مليون فدان) لانتاج القطن. وقد كانت الادارة البريطانية تسعى آنذاك لتحقيق هدفين مهمين للغاية، الاول هو تغطية نفقات ادارة الحكم في السودان وتوسيع الرقعة الزراعية فيه بما يملكه من موارد طبيعية هائلة في واحدة من اكبر مستعمرات المملكة المتحدة في افريقيا، والهدف الثاني هو توفير خام القطن للمصانع الانجليزية حيث كانت صناعة المنسوجات في ذلك الوقت من اكبر دعامات الخزانة البريطانية، خلال الحرب العالمية الثانية في اواخر الثلاثينيات، حيث حققت اسعار القطن طفرة هائلة استطاعت ان تدعم الاقتصاد البريطاني المثقل بفواتير الحرب. ومنذ ذلك الوقت، ظل مشروع الجزيرة يلعب دورا اساسيا في اقتصاد البلاد في مرحلة ما قبل الاستقلال ومرحلة الحكم الوطني، اذ اصبحت عائدات القطن تمثل 86% من صادرات السودان ومن عائداته من النقد الاجنبي، بينما الجزء اليسير المتبقي كان يعتمد على صادرات هامشية مثل الماشية والصمغ والكركدي وغيرها من المحاصيل. وهذا النجاح الباهر للمشروع في ذلك الوقت كان يعود اولا للإدارة الحسنة التي ارست دعائمها الادارة البريطانية، وقد كان من ابرز من تولوا ادارة المشروع في ذلك العهد المستر (هيو جتسكيل) وهو شقيق احد رؤساء الوزارات البريطانية في الحكومات العمالية، فيما بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك فإن الحكومة الوطنية الاولى لم تألُ جهدا في اسناد ادارة المشروع إلى كفاءات وطنية مشهود لها بالخبرة والدراية والكفاءة المهنية العالية، امثال السيد مكاوي سليمان أكرت ومكي عباس الذي كان يتولى الخدمات الاجتماعية بالمشروع، وهذا شأن بالغ الاهمية لما يترتب عليه من ارتباط المزارع بالمشروع لما تقدمه من خدمات مختلفة مثل التعليم والصحة ومياه الشرب النقية وتخطيط القرى. وكان مشروع الجزيرة حتى ذلك العهد يشكل وحدة اقتصادية متكاملة ذات نفع وعوائد مجزية للدولة ولقطاع كبير من السكان، فأرض الجزيرة مازالت وستظل اكبر مناطق السودان كثافة سكانية، وهي تشكل بؤرة جذب اقتصادي يتجاوز حدود السودان الى دول الجوار. والقطن في حد ذاته بوصفه محصولاً نقدياً كان يشكل حزمة من المنتجات ذات العوائد النقدية المتعددة، فإلى جانب كونه يشكل ركيزة أساسية في صناعة المنسوجات، فقد كانت بذرته تشكل موردا مهما لأفضل زيوت الطعام، وسيقانه تدخل في صناعة الاعلاف، وحتى الزغب كان مطلوبا في كثير من الصناعات ومن بينها صناعة الديناميت والمفرقعات، كذلك كانت عملياته الانتاجية الصناعية تمثل مورد رزق لقطاع واسع من العمال، بدءا بالعمال الزراعيين، الى جانب عمال المحالج والورش وقطارات السكك الحديدية الداخلية التي تربط اجزاء المشروع المختلفة. وظلت الحكومات الوطنية التي تعاقبت على الحكم بعد الاستقلال تولي هذا المشروع جل اهتمامها، لإداركها التام بأنه المورد الوحيد والاساسي الذي يغذي خزينة الدولة بالعملات الأجنبية، وذلك الى عهد الديمقراطية الثانية في حقبة السبعينيات، حيث كان وزير المالية وقتها الشريف حسين الهندي يكرِّس معظم وقته وجهده لهذا المشروع، وحين عاتبه رئيس الوزراء وقتها السيد محمد أحمد محجوب لكثرة انشغاله بالمشروع وزياراته المتكررة له، رد عليه الشريف حسين قائلا: «إن هذا المشروع هو ركيزة الوطن وعماد اقتصاده، وان لم اوله هذا الجهد فأنا لا استحق ان اكون وزيرا للمالية». وفي الحكومة التالية التي تولاها السيد الصادق المهدي عقب انقسام حزب الامة، تعنت رئيس الوزراء في اسناد وزارة المالية للشريف حسين، بحسبان ان الاخير يوظف منصبه للكسب السياسي لحزبه في منطقة الجزيرة، وكأنه لم يتذكر أن السيد عبد الله خليل الامين العام لحزب الأمة ورئيس الوزراء في الحكومة الثانية بعد الاستقلال منح الجنسية السودانية للعديد من الوافدين من غرب افريقيا كي يدلوا بأصواتهم في انتخابات 58م لحزب الأمة. وهكذا أصبح مشروع الجزيرة بؤرة من بؤر الصراع السياسي في بلادنا، وان لم يكن بذات حدة الصراع التي شهدتها السنوات اللاحقة. وكان هذا خصما على الاداء الاقتصادي للمشروع. وايضا نذكر ان الحزب الشيوعي نشط منذ عهد المستعمر في انشاء خلايا حزبية وسط المزارعين بحجة مجابهة الاستعمار. وبعد الاستقلال راح يستثمر هذا النشاط في كسبه السياسي والجماهيري، وأصبح اتحاد مزارعي الجزيرة بمثابة لافتة يسارية في معظم الأحيان تحسب لصالح الحزب الشيوعي، ولهذا السبب وبعد قيام ثورة اكتوبر أصبح المرحوم الشيخ الامين محمد الامين رئيس اتحاد المزارعين وزيراً للصحة نتاجاً للجهد السياسي الذي بذله الحزب في هذا المشروع. ومن جهة اخرى شهد المشروع تحولات اجتماعية كبيرة كان لها تأثير سالب، فقد ارتقى المزارع الوطني ارتقاءً طبقياً جعله يترفع عن العمل الانتاجي وراح يوكله الى حفنة من النازحين بحثا عن الوجاهة الاجتماعية، مما خلق علاقات انتاجية تشبه العلاقات الاقطاعية، وهذا التحول الاجتماعي بدوره أحدث تأثيراً جذرياً في التركيبة السكانية في الاقليم بعد أن تجنس هؤلاء الوافدون بالجنسية السودانية، واصبحوا اصحاب القرار الفعلي في المشروع، الى جانب تأثيرهم في الساحة السياسية بحكم عدديتهم الهائلة التي كان لها تأثير كبير في فترة الانتخابات. وغالباً ما كانت ترجح كفة الحزب الذي يوالونه. كل هذه الاسباب الى جانب السبب الاساسي المتمثل في سوء الادارة، ادت الى الانهيار التدريجي في المشروع، وهو انهيار متراكم نخشى ان يكون قد اوصله الى مرحلة حرجة، دون ان تبذل الحكومات المتعاقبة اي جهد لتدارك العلل في بداياتها والانتباه الى مؤشرات المرض والوهن التي اصابت المشروع. أما قاصمة الظهر فقد كانت في عهد الانقاذ، وذلك عندما قررت الحكومة تقليص المساحات المزروعة قطنا وزيادة المساحات المزروعة بالقمح اعمالا لشعار «نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع»، وقد تم تنفيذ هذا القرار عملياً وبصورة ارتجالية دون دراسة جدوى او استشارة الخبراء الذين اعترض كثير منهم على هذه الخطوة في المؤتمر الاقتصادي الذي كان ضمن سلسلة المؤتمرات التي عقدتها الانقاذ عند مجيئها. ويرى هؤلاء الخبراء أن العائد النقدي الذي يجلبه فدان القطن يفوق ما يجلبه فدان القمح، ثم أن أرض الجزيرة لا تصلح أساسا لانتاج القمح بصورة مجزية، ورغم ذلك أصرت الحكومة على موقفها بالنسبة لذلك الشعار، وزادت عليه بشعار آخر قالت فيه «إنها مزقت فاتورة القمح» الذي كانت تستورده من الخارج، وذلك إمعانا في إصرارها على تلك الشعارات التي لم تكن سوى أوهام كاذبة لم يصدقها إلا الذين أطلقوها وراحوا ينساقون وراء أوهام ليس لها أي قدر من الحقيقة على أرض الواقع، إلا أن الحكومة وفي نوبة صحوة من جانبها أدركت الحقيقة التي كان لا بد لها من إدراكها، وعملت بجهد كبير لتفادي ما ينتظر البلاد من مخاطر تشبه إلى حد كبير كارثة «سنة ستة» في بداية القرن التاسع عشر، حيث كان الناس يأكلون الحيوانات النافقة وجلودها بسبب المجاعة، مما أدى إلى تناقص سكان السودان بنسبة عالية في ذلك الوقت، وتفاديا لتكرار تلك الكارثة عملت الحكومة بجهد كبير لاستخراج البترول وتصديره، وشهدت البلاد انفراجاً اقتصادياً هائلاً تناسى فيه عامة الناس الصعوبات التي كانوا يعيشونها وعاشوا في ظل البترول حالة من الرفاهية كانت تحتاج إلي قدر من الانضباط لتوظيف موارد البترول في خدمة الزراعة والانتاج. والآن وبعد مضي اكثر من عشرين عاما تريد ذات الحكومة العودة للقطن وزيادة المساحة المزروعة منه، بعد أن فشل الشعار المعتمد وصرنا نأكل مما يزرع الآخرون، ونلبس مما يصنع الآخرون، ولكن حسب المعلومات المتوفرة ان هذا التوجه نفسه سيتم العمل به دون دراسة كافية ودون توفر الإرادة السياسية القوية التي تضطلع بتوفير المال المطلوب، وهنا نشير إلى أن أحد المسؤولين بالدولة قال بإن «لا قداسة للقطن بمشروع الجزيرة»، وهنا حديث مثبط للهمم ولمعنويات المزارع المنتج وللدولة التي تريد اعادة المشروع لسابق عهده. ومن المعوقات الكبيرة التي يشكو منها المزارعون الآن قانون 2005م الذي يقولون إنه لم يسلك المسارات المعتادة والطبيعية في اصدار القوانين، حيث اجيز في أسبوع واحد في اواخر ايام المجلس الوطني الذي سبق اتفاقية نيفاشا. ورغم ذلك كله نقول ونكرر القول إنه كان من الممكن تلافي كل تلك المشكلات لو تم استغلال عائدات البترول الوفيرة في السنوات السابقة في اعادة تأهيل المشروع والنهوض بالقطاع الزراعي عموما، بحسبان أن السودان في الاساس هو دولة زراعية في وقت تتكالب فيه الاسواق العالمية على المنتجات الزراعية. ولكن للأسف أُنفقت العائدات البترولية في السلع الاستهلاكية وبناء ابراج الوحدات الحكومية التي تناطح السماء، الى جانب الإنفاق الباذخ في قطاع الاتصالات وترهل الانفاق الحكومي، الى جانب الاستمالة السياسية للاحزاب والحركات المسلحة، بالرغم من أن إنفاق الدولة لم يخلُ من الايجابيات مثل ترقية البنية التحتية من طرق وجسور وسدود، إلا أن الانفاق بشكل عام كان يفتقر الى الرشد الاقتصادي. ومثل ما فقدت البلاد عائدات القطن ولم تحصل على القمح، ها هي اليوم تفقد عائد النفط دون أن يلوح في الافق اي ضوء يشير الى تطور موارد الدولة، وعلى وجه الخصوص في القطاع الزراعي ومشروع الجزيرة بشكل خاص. وفي رأي بعض الخبراء أن الحل لأزمة المشروع يكمن في مراجعة قانون مشروع الجزيرة 2005م، مع الأخذ في الاعتبار دور المشروع الاقتصادي والاجتماعي بحسبانه اكبر المشروعات الانتاجية في البلاد واوفرها عائدا واكثرها نفعا، خاصة في ضوء فقدان عائدات الموارد البترولية، بعد الانفصال، والضرورة هنا تقتضي مراجعة ذلك القانون في ما يتعلق بالسياسة الزراعية والتركيبة المحصولية والخدمات المصاحبة التي كانت تشكل أعمدة الانتاج والانتاجية، وهنا تبرز اهمية عودة زراعة القطن والتركيز عليها، وزيادة المحصولات الغذائية كالقمح والفول، وادخال الحيوان في الدورة الزراعية، وكذلك لا بد من حسم قضية ملكية الأرض والوصول الى حلول مرضية وعادلة لأصحاب الاراضي «الملك الحر» التي تمثل 45% من مساحة المشروع، اي ما يقارب المليون فدان، إذن استمرار الوضع المتأزم الحالي بين الحكومة والملاك سيكون عقبة كبرى في سبيل تطوير المشروع ومعالجة اوضاعه المعقدة التي استمرت طويلا.. ويجب أن تمتد يد الإصلاح الى مشروعات القطاع المروي الاخرى، مثل السوكي والرهد وحلفا الجديدة والقاش، فكلها تواجه مصيراً مشابها لمشروع الجزيرة، ولا بد لها من التصدي بالمعالجة الناجعة، بالاضافة لمشاريع الاصلاح الزراعي التي آلت للولايات ثم اختفت من خارطة الانتاج الزراعي. إن أزمة مشروع الجزيرة باتت مثل مسلسلات الكوميديا السوداء، وهي للأسف لا تملك تشويق العمل الدرامي لرتابة أحداثها وبؤس حبكتها وضعف إخراجها، فلا هي تبعث على البكاء أو تصنع الضحك، بسبب ضعف التناول، لذلك نأمل في إعادة انتاج هذا المسلسل الرتيب، ونعهد به إلى الكفاءات المقتدرة على أمل الوصول به إلى نهاية سعيدة، وهو أمر ليس صعب المنال متى ما توفرت الإرادة الحسنة والنوايا الخالصة.