هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأديب الأريب بشرى السيد أمين وشيء من تاريخ آبائه الميامين
نشر في الصحافة يوم 28 - 05 - 2011

وبشرى هذا هو الابن الوحيد الذي عاش للسيد أمين السيد حامد شقيق الإمام المهدي الاكبر منه مباشرة، والذي استشهد في واقعة الشلالي في جبل قدير بجبال النوبة في عام 2881م، فجر الثورة المهدية دفاعاً عن العقيدة والوطن مخلفاً اطفالا صغارا، محمدا وعبد الله وأمينا تكبرهم شقيقتهم آمنة من زوجته الاولى زينب بنت حاج شرفي، ومن زوجته حواء الثانية خلّف الشهيد السيد حامد بنته مياسة وترك في أحشاء أمها جنينا عندما وضع بعد استشهاد ابيه، سمى باسمه كعادة السودانيين، فصار يعرف بالسيد حامد السيد حامد.
السيد أمين والد أديبنا الأريب بشرى المسمى على عمه بشرى ابن الإمام المهدي، وقيل ان أمينا هذا كان عند غزو كتشنر بجيوشه الانجليزية والمصرية للسودان وبعد واقعة كرري الفاصلة عام8981م كان قد وجد أمينا مقيدا الى شعبة من شعب جامع الامام المهدي «جامع الخليفة الآن» والمثير ان تعرف ان الذي قيده كان هو البشرى ابن عمه الامام المهدي حصرا ليحفظ القرآن، لأن أمين كان طفلا ذكياً مشاغباً لا يستقر على حال لحيوية طبعه ولكثير تطلعاته، وقد افادني شقيقي الاكبر محمد المهدي السيد عبد الله الهاشمي نديد أخيه بشرى وزميل دراسته قائلاً: انتم تقولون إن بشرى ذكي ومتحدث لبق، لكنه لا يساوي عشر معشار والده السيد أمين في الذكاء وفي سرد وقائع التاريخ.
عندما غزت جيوش الاستعمار السودان واستولت عليه عام 8981م كان في رفقتها سلاطين باشا النمساوي الاصل اسير المهدي السابق الذي اظهر اسلامه وقرّبه الخليفة الى ان هرب وجاء في رفقة الجيش الغازي مستشارا ضمن من جاءوا اعوانا ومخبرين، وبعد استشارة سلاطين صنف الغزاة ابناء المهدي وابناء خلفائه وابناء اخوانه وابناء كبار اركان الدولة المهدية المنتهية ايامها - صنفوهم الى فئات متفاوتة للتحكم في مصائرهم حتى لا تقوى شوكة احدهم وتلتف من حوله جماعة من الانصار تدفعهم الاشواق لماضيهم التليد، فيشكلون لحكومة الاستعمار بؤرة عصيان يصعب اخمادها. فأرسل بعضهم لمعتقل «رشيد» في مصر الذي شيدته الحكومة البريطانية وهو بمثابة معتقل غوانتنامو في كوبا الذي تمتلكه الولايات المتحدة الاميركية، وترسل اليه من يعاديها ويعاندها من ابناء الشعوب الاخرى، فتخرجهم عن دائرة القانون وتفعل بهم ما تشاء، لتنتزع منهم اعترافات لصالح سياستها الرامية للهيمنة على العالم، والتحكم في مصائر شعوبه. ومازال المعتقل اللاقانوني، واللاأخلاقي قائماً بالرغم من وعود رئيس الولايات المتحدة الحالي -اوباما- في حملته الانتخابية باغلاقه. اما الفئة الثانية من أبناء رجال الدولة المهدية الذين رؤى ان خطرهم اقل لكنه خطر على كل حال فقد حجزوا في «المخاليف» معسكر اقيم لهم قرب بلدة الجبلين بالنيل الابيض، وطلب منهم فيه فلاحة الارض لاعاشة انفسهم، وهو اشبه بمعسكرات اللاجئين اليوم بدارفور الآن، لكن لم تكن هناك منظمات عون انسانية تمدهم بطعام او نحوه. وكان السيد أمين بن السيد حامد والد بشرى من بين هذه الفئة المحصورة المحددة إقامتهم، ولا يسمح لهم بالخروج والاختلاط بسكان القرى المجاورة الا في اضيق الحدود لسويعات في يوم السوق بالجبلين. وبعد مرور زمن ليس بالقصير، وعندما جاء السيد محمد صالح الشنقيطي مأمورا في الجبلين أفرج عن السيد أمين ضمن آخرين، فالتحق بشقيقه الاكبر السيد عبد الله الهاشمي في قرية «القفيل»- من قرى المناقل، وتزوج فيها زوجته من أصهار اخيه، آل ود الضيف قبيلة المسلمية فانجبت له ابنه عبد الله الذي توفي رضيعاً مبكياً عليه.. وفي لاحق من الايام رحل السيد أمين شمالاً الى ديار الميرفاب، وتزوج من علية القوم منهم الوالدة آمنة بنت علي أم بشرانا الذي نحن بصدده، ولا يفوتنا ان نذكر ان شقيق كل من عبد الله وأمين واخيهما لابيهما حامد هو السيد محمد الذي يكبرهم سناً، والذي كان ضمن فلول مجاهدي جيش المهدية بعد معركة كرري 8981 التي واجه ويلاتها بكل شجاعة قومه الاسطورية التي قال عنها العدو نفسه بقلم تشرشل في كتابه «حرب النهر»، وهو ذاته محمد ود السيد حامد الذي ناصبته حكومة انجليز الحكم الثنائي العداء وتوجست منه خيفة وضيّقت عليه واخذت تلاحقه بجواسيسها وبادارييها من مكان لآخر منذ وقت اقامته في امنتجو «وناوا» التي لجأ اليها وتزوج فيها زوجته الاولى الوالدة فاطمة من آل سنجراب ام بنته الوحيدة البتول التي بقيت من بعده يحمل نسلها اسمه. ولما عُثر عليه جُددت اقامته لفترة من الزمن في حلفا قبل أن ينتقل الى سنجة، وتنتقل معه معاناته ويُبث من حوله المخبرون، وتحبس أنفاسه ويراقب كل من يتصل به خاصة القادمين من غرب السودان الذين كانت تحدوهم العقيدة وأشواق دولتهم التي أفلت، وكان هو ابن شقيق مهدي الله والاقرب الى خليفته والاكبر سناً من ابناء جيله الاقربين للامام المهدي.
ولما ما فتئ يلاقي السيد محمد من تضييق الحكام عليه لدرجة ان ضاقت نفسه بارض السودان وطنه بكل ما رحبت، خرج قاصداً مريدين له في ارض الحبشة. وقبل أن يجتاز الحدود ومعه نفر من رجاله الذين آثروا الهجرة معه لحق به قائد الجند الانجليزي «بيل» في كتيبة مسلحة ليرجعه الى بيت طاعتهم قهراً في سنجة.. فلما اصر الثائر محمد ود السيد حامد على المضي الى غايته نازله القائد المستعمر بجنده الكثيف المدرب، وبسلاحه الحديث واجهوا به نفرا قليلا اسلحتهم محلية الصنع بيضاء الا القليل من بنادق عتيقة هي للصيد لا أكثر. لكنهم مؤمنون ظلموا وجير عليهم، فدارت المعركة غير المتكافئة، فقتل من قتل من جند الحكومة، واستشهد من استشهد من رجال السيد محمد المخلصين، وجيء بالسيد محمد أسيراً مكبلاً بالقيود وبمن بقي معه على قيد الحياة من اعوانه تتبعه زوجه الثانية الشجاعة المخلصة دار السلام جار النبي الكنانية.
وأُعدم الثائر البطل محمد ود السيد حامد وبعضا من رجاله الابطال شنقاً بعد محاكمة صورية سريعة لم تتجاوز مدتها الاسبوع الواحد، ولم يعين محامٍ يدافع عنه كما تقتضي قوانين الحرب والسلم، ولم يسمح لأسرته باستلام جثته ودفنه، كما حصل لاسامة بن لادن في عصرنا هذا، لأن فصيلة الظلم واحدة ولو تغير الظلمة، لكنه لم يُرم في البحر كما رمى اخوة له.
ولم تكن ثورة ود السيد حامد في سنجة ضد الحكم الثاني عام 9191م هي الهبة الوحيدة من هبات وثورات ذلك الزمان الذي كان يتنفس انفاس الثورة المهدية ويحملها في وجدانه، فهناك كانت ثورة عبد القادر ود حبوبة الأنصاري في الجزيرة منطقة الحلاوين، وهناك ثورة السحيني في دارفور، وثورة المك عجبنا في جبال النوبة، وثورة النوير في الجنوب، وغيرها من ثورات في شرق البلاد وشمالها، وإن اختلفت أسبابها فمضمونها واحد هو رفض المستعمر.
لكن ثورة السيد محمد ود السيد حامد كانت هي الاكبر، ومع ذلك قل من يذكرها للتعتيم الصارم الذي ضربه المستعمر عليها، ليخفي جرمه الفظيع الذي اقترفه في حق قائدها ورفاقه، وهم الانجليز الذين يدعون الحضارة.
وكتب عن ثورة السيد محمد ود السيد حامد كتاب قليلون لندرة المراجع، لكن حتى الآن لم يتصد لها مؤرخ متخصص ذو علم بتدوين التاريخ وتحليل مخرجاته، ويؤلف لنا كتاباً مفصلاً عن هذا الثائر الذي ظلمه التاريخ.
واليكم ما كتب عنه بمحدودية تستوجب المراجعة والتأصيل:
1- كتب عنه ابن اخيه بشرى أمين في جريدة يومية لعلها «الثورة» ايام حكم الرئيس عبود مستقياً مصادره من روايات شفاهية من الأسرة.
2- وكتب عنه المؤلف والكاتب الصحافي الاستاذ حسن نجيلة، وهو من مواطني مدينة سنجة، وقد شهدت طفولته أحداث ثورة السيد محمد حتى لحظة اعدامه الذي هُرع الناس في سنجة إليه ليخافوا من مغبة الخروج على الحكم الطاغية.. وقد كتب نجيلة في جريدة الثورة 8591م حكومة عبود.
3- وكتب عنه ابن اخيه الطبيب المؤرخ بروفيسور موسى عبد الله حامد في جريدة «الصحافة» واعيد نشر مقاله في دورية من دوريات شعبة التاريخ في جامعة الخرطوم، ومصادر بروفيسور موسى زادت على مصادرنا من روايات شفهية عن كبار اسرتنا بما فيهم الوالدة دار السلام جار النبي أرملة الشهيد الثائر السيد محمد، وزاد الدكتور موسى بما عثر عليه في ارشيف جامعة درم، إذ عثر على التقرير المتحامل الذي اعده قائد الحملة التي حاربته الى لحظة اعدامه في سنجة، وهو ذاته قاضي الزور الذي حاكمه، فلا يتوقع منه غير أن يظلمه ميتاً كما ظلمه حياً.
4- وكتب عنه صاحب هذا القلم اكثر من مرة، مسترشداً بإفادات مباشرة من أرملته الوالدة دار السلام، ومن ابن اخيه محمد المهدي السيد عبد الله زوج بنته البتول، وممن التحقوا بالوالد السيد عبد الله من رجال الشهيد خاصة الأخ عمر عبد الله الذي ارسله السيد محمد خصيصاً لأخيه كما دأب عندما حاق به الخطر يبعد من كانوا من حوله يخدمونه خاصة صغار السن منهم، امثال اخي عمر ابي سليمان يرحمه الله. وآخر ما كتبت مقالاً هو شبه نداء عنوانه: من يؤرخ لثائر سنجة؟ نشرته لي جريدة «الأيام» مشكورة، واودعت نسخة منه في دار الوثائق القومية بالخرطوم تحت الرمز 1/871/2352 بتاريخ 62/2/0102م ليته يكون مؤشراً لمؤرخ كفؤ يكتب عن ثورة ود السيد حامد في سنجة ليكمل التوثيق له من مختلف دور الوثائق والمكتبات في داخل بلادنا وخارجها، خاصة في بريطانيا ومصر دولتي الحكم الثنائي.
وأراني أبحرت بكم كثيراً في تاريخ آباء الأديب بشرى السيد أمين، لتقفوا على خلفية المناخ الاسري الذي نشأ فيه، والذي لا بد ان يشكل جزءاً من تكوينه الفكري والنفسي، وبقي علىّ أن أسرد عليكم لمحات من مسيرة حياته الحافلة بكل معاني القيم، والعصامية، والذكاء، مع العمل الجاد لبلوغ الغايات النبيلة، فأنا اعرفه بحق، فهو أخي وابن عمي يكبرني بنحو عقد ونيف من الزمان، لكن ذلك العقد من الزمان بيننا لم يجعله اخي بشرى حاجزاً يحول دون ارسال الدعابة وحلو الحديث الذي يجري بين الاخوة والاصدقاء الانداء بدون تحفظ. فكثيراً ما كنا نضحك معه ويضحكنا وهو يروي قصصه الشيقة التي يؤلفها ويضفي عليها من فيض الخاطر الملح النادرة ويصوّر شخوصها بملكة القاص المبدع ذي الخيال الخصب الذي يدني اليك شخوص روايته حتى تكاد أن تسمع تنهداتهم او وقع خطواتهم، او ان تمد يدك لتصافحهم ان كانوا أخياراً، او لتبعدهم عنك ان كانوا أغياراً.
وهاكم واحدة من نوادره التي جاءت بداهة فيض الخاطر، ضحكنا لها جميعاً لأنها أضحكت ابانا عمه السيد عبد الله الهاشمي الذي كان غضبان ساعة ان زاره في داره ابنه بشرى، فأراد ان يسليه فقال: يا سيدي وكلنا نتادي أعمامنا: يا سيدي تأدباً معهم يا سيدي مرتي عائشة اغضبتني غضباً شديداً ما بقى لي الا ان اضربها او.. أمس كتبت خطاباً ولما جئت اوقع عليه نسيت اسمي فقلت لها انا اسمي منو يا مرة، فقالت لي: ما ابو الفاروق! قلت لها الفاروق خليه.. انا اسمي منو؟ قالت استغفر الله، ما قلت ليك: ابو الفاروق: بالله يا عمي دي مرة يعيش الزول معاها؟ كلما اكرر السؤال تعيد نفس الاجابة ما ابو الفاروق، ما ابو الفاروق.. فما كان من الوالد عليه وعلى ابنه بشرى الرحمة الا وان انفرجت اسارير وجهه وضحك لادعاء ابنه بشرى المستحيل، فكيف ينسى الانسان اسمه وهو بكامل عقله؟ واما مسألة الا تنطق الزوجة باسم زوجها فهذه عادة كانت متعارفة الى عهد قريب، فهو ابو فلان او فلانة، او ابونا، او ود فلان، واذكر حتى في الاسر الكبيرة الاكثر وعياً وحضارة كان هناك في منزل السيد عبد الرحمن عامل ينادونه بود آدم يسقطون اسمه الاول وهو يدعى عبد الرحمن آدم.. ونوادر بشرى وحكاويه مع عمه السيد عبد الله كثيرة كقصة دجاجته الشرسة التي تطير هاجمة عليه وتصفعه بجناحيها كلما ساقته قدماه ولو بالخطأ للاقتراب من افراخها، ولما قال له عمه لماذا تحتفظ بها؟ اذبحها وكلها وارح نفسك منها: فرد بشرى: لا استطيع يا سيدي فهي تبيض في اليوم الواحد بيضتين توفر لي افطاري..! وهناك قصة قلمه «التروبن» مع عمه، وقصص اخرى، اما قصصه ذات الحبك البديع معنا نحن واخوانه كباراً وصغاراً التي يحملنا فيها على ان نضحك حتى على انفسنا فهي قصص ليست للبوح!!
كان بشرى السيد أمين رباً واباً لاسرة ممتدة من ثلاث زوجات استطاع ان يجعل منهن اخوات يعشن معاً في بيت صغير واحد، ويطعمن من «حلة ملاح واحدة يتناوبن في انضاجها بوفاق وتراضٍ، وهو «بشرى» اب لاولاد وبنات اكبر الاولاد فاروق ثم حامد والصديق وطارق وعبد الملك وعلي واصغرهم عادل. وبناته كبراهن زينب فأم الحسن وآمنة ونفيسة وابتسام واصغرهن اميرة.. ولكهن تزوجن وانجبن خير الابناء، كما انجب ابناؤه البررة احفاداً له شقوا طريقهم بعزم في معترك الحياة.
الأديب بشرى السيد أمين أكمل تعليمه الاولى في مدرسة الجزيرة ابا الاولية بتفوق، وصار فيما بعد صديقاً حميماً لناظرها الذي درّسه فيها، اعني به الوالد المربي الشيخ رحمة الله أحمد، وصار يجالسه ويمازحه مزاح الند لنده، الشيء كان يعجب منه اخوه وزميله في المدرسة شقيقنا الاكبر محمد المهدي السيد عبد الله الذي كان كلما التقى بأستاذه شيخ رحمة الا وتمثلت له حال صباه الباكر امامه وانتابته رهبة كامنة في نفسه وخاطبه بادب جم، وافسح له المكان ليجلسه في أحسنه تأدباً لا يخلو من خوف كان من عصا الناظر، تلك التي كانت تلهب الكف.
ومن الغريب أن بشرى مع تحصيله الوافر من علوم اللغة والشعر وهو القاريء النهم، لم تفتح له بخت الرضا ابوابها عندما سعى اليها لينال تدريباً في «البدادوجا» يؤهله لمهنة التدريس كزميليه وصديقيه الشيخ حامد ضو البيت والشيخ صديق مهاجر اللذين امتهنا التدريس عن طريق بوابة مدرسة العرفاء قبل ان تنشأ بخت الرضا، وتعقد «كورساتها» التجديدية لكبار المشائخ من المعلمين.. صدت بخت الرضا بشرى عن الالتحاق بها ليس لكبر سنه فقط، بل ايضاً لعدم حوزته على شهادة ورقية، وهي تعلم «بخت الرضا» أن كثيرا من العلماء الذين غيروا مسار التاريخ لم يكونوا قد تحصلوا على شهادات ورقية.. وهي بخت الرضا نفسها التي لم تكن تمنح خريجيها شهادات من اي نوع!
بشرى الأديب المجود والشاعر الفحل عاش عصر التيجاني يوسف بشير ومحمد عشري الصديق، وكان صديقا لمبارك ابراهيم الأديب والمذيع السوداني المعروف، وكتب بشرى نثراً وشعراً جيداً في الصحف والمجلات السودانية والمصرية، وكان يحرص على حضور الليالي الادبية والمحاضرات عندما يحل زائراً للعاصمة القومية. وعندما زار العالم اللغوي الجليل الشيخ الطيب السراج الامام عبد الرحمن المهدي في الجزيرة ابا والتقى به بشرى، اعجب ببشرى كثيراً. وكانت لهما جلسات ادب ومطارحات شعر جعلت الشيخ السراج يقول عن بشرى: لو اعطاني السيد عبد الرحمن هذا الشاب لخلقت منه أديبا وشاعرا يشار اليه بالبنان. وحضرت انا وحضر اخي عبد الملك طرفا من لقاءات الشيخ السراج ببشرى في داره الملاصقة لدارنا التي كانت جزءاً من دارنا اسكن فيها والدنا ابنه بشرى كما سبق ان اسكن اخاه السيد أمين داخل حوشه ريثما يتسنى له بناء دار له خاصة شرقي منزلنا عبر الشارع الرئيسي في الجزيرة ابا.
بشرى الأديب الذي لم يشكل ادبه وشعره مصدراً لرزقه. وهل يعيش الأدب والشعر اذا كان صادراً من الوجدان احداً؟ واضطر بشرى لتعلم المحاسبة واجادتها، فصار محاسبا مرموقا في دائرة المهدي بالجزيرة ابا والخرطوم، وتخرج على يديه محاسبون أكفاء، وفي ذات الوقت كان هو الأديب والشاعر المنتج، ولو كان تفرغ لمجاله في الادب لكان له شأن آخر في خارطة الادب السوداني، ومع شظف العيش والمعاناة استطاع أن يؤلف ويطبع كتاباً نقدياً في الشعر السوداني فات على اسمه، والف روايتين تاريخيتين هما: «ودارت الرحى» و «سقاة الأرض» تتحدثان عن تحرير الخرطوم على يد الامام المهدي، وعن معركة كرري وزوال الدولة المهدية آخر أيام الخليفة عبد الله، وله كتاب آخر لم يطبع بعد، بمسمى «رجال حول الامام المهدي» على نهج كتاب «رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم» لمؤلفه خالد محمد خالد. واضنى بشرى في جمع مادته نفسه، وجمع سيرة اغلب من كانوا حول الامام المهدي من ابكار الانصار الذين آزروا الامام ونصروا الثورة المهدية بقبائلهم بسيوفها وبايمانهم الذي لم تزعزعه اهوال المعارك الضارية.
قال لي اخي بشرى انه عندما كان يعمل محاسباً في المطبعة التي كان يمتلكها اخوه السيد احمد المهدي، سلمه الكتاب المذكور ليتكفل بطباعته في مطبعته خدمة لتاريخ المهدية التليد في جانب من جوانبه. ووعده السيد احمد خيرا، لكنه لم يتسن له ذلك، ولعل نسخة اخرى بخط اليد تكون الآن عند احد احفاد الكاتب المؤلف بشرى أمين، ولعل حفيده يسعى مجدا ويعرضها على دور النشر لطباعها باية شروط مقبولة تحقق للدار ربحاً. كما ان الامل معقود ان تتولى وزارة الثقافة والاعلام طباعة هذا السفر القيم حفظا لتراث الوطن، لأن من جاءت سيرتهم على قلم الكاتب المحقق بشرى أمين هم الآن في ذمة التاريخ، وقد اجتازوا محيطهم الطائفي الى رحاب الوطن بأكمله، وبهم جميعنا نفاخر بوصفنا سودانيين، وله كتاب تم نشره «مع شعرائنا القوميين».
وبشرى الأستاذ الضليع في شعره وأدبه، هو ايضاً التلميذ المجتهد في تعليمه، فعندما نقلته دائرة المهدي محاسباً في مكاتبها بالخرطوم لم تقعد به همته وطموحه دون الاستزادة من العلم، ولأشواقه الى دراسة الادب الغربي من مصادره تطلع لدراسة اللغة الانجليزية، فالتحق بمدرسة «سوميت» في الموردة التي الحق بها ابنه حامداً، اما ابنه «الفاروق» الاكبر فقد قاده ذكاؤه الى المدارس الحكومية، ولا اعرف الى اي مستوى من تحصيل اللغة الانجليزية وصل بشرى قبل ان تجرفه مشكلات الحياة وضنك العيش وهو رب الاسرة الكبيرة ذو الدخل المحدود جداً. فترك «سوميت» ورطانتها الانجليزية ليعمل اعمالا اضافية في المساء عند المراجعين القانونيين ارباب الشهادات يجري لهم المراجعات يوقعون عليها هم ويتقاضون عليها اجورا كبيرة ولا يعطونه منها الا النذر اليسير يأخذه مضطراًَ لأنه لا يحمل شهادات، الشهادات الورقية وعدمها الذي لاحقه منذ ان قدم لبخت الرضا في شبابه الى ان سخره المحاسبون القانونيون والمراجعون في شيخوخيته. يا له من ظلم حاق بك اخي بشرى وانت صابر تكدح من أجل لقمة العيش لك ولعيالك زغب الحواصل.
وبشرى أمين الأديب الشاعر والناقد الفطن الذواقة بسليقة نفسه والمحاسب البارع، لم تكن تهزمه الاحداث او ترعبه المواقف الحرجة، فقد ساقته الاقدار الى ان يشهد احداث «جودة» الشهيرة، اذ كان محاسبا في المشروع الذي كان مديره بريطانياً اماً وأباً، والمشروع قطاع خاص. وظل بشرى يؤدي عمله المحاسبي بمهنية، وكانت صلته بالمزارعين جيدة، ولا يتهمونه بشيء بل يحترمونه لمعرفتهم انه من اهل عقيدتهم الانصار، ومن آل المهدي. وبعدما حل بهم كان حزن بشرى عليهم عظيماً وفوق طاقته، ومزارعو جودة البسطاء عندما ثاروا وتظاهروا ورفضوا تسليم محصولهم لظلم حاق بهم، جاءت الحكومة وحاصرتهم واعتقلت العشرات منهم وساقتهم الى كوستي فحشرتهم في مخزن للسلاح عديم التهوية إلا من منافذ صغيرة قرب السقف للإضاءة الخافتة، وأغلقت عليهم الشرطة باب المخزن وتركتهم يتكدسون فوق بعضهم البعض، وقد بلغ بهم الأعياء مبلغه، واخذ العرق يتصبب من اجسامهم والسوائل تجري من مناخيرهم، ولا يسمع حارس شرطي لصيحاتهم «والفصل صيف» فمات المزارعون الابرياء اختناقاً، فيا له من جرم لم يشهده التاريخ، ولم تستقل الحكومة التي في عهدها قتل مزارعو جودة، ولا حتى وزير داخليتها الذي فعلت شرطته ذلك الجرم استقال أو أقيل، وصرنا لا نذكر عنهم «مزارعو جودة» الا شعراً لشاعر يساري يقول:
وعادت أرواح جودة تحيا في الجزيرة
هل صحيح أن أرواحهم حييت في الجزيرة؟! وزال الظلم عن مزارعي الجزيرة التي كانت خضراء فيبست. ام هي وعود تتلوها وعود الانصاف للمزارعين الذين اعطوا الوطن كل شيء ولم ينالوا من حقوقهم أي شيء.
بشرى السيد أمين ذاك، وسيم الصورة حسن السيرة والسريرة، الذي فارق دنيانا في بيت صغير من بيوت الصحافة، فقيراً معوزاً لكنه غني النفس عامر قلبه بالايمان، ولم يكف عن العمل والتكسب بمهنته المحاسبة حتى افقده كبر السن القدرة على المشي ولو بثالثة يتوكأ عليها.
ألا رحم الله بشرى السيد أمين السيد حامد واسكنه فسيح جناته.
* معلم متقاعد
بحري/ حلة حمد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.