يتحدد تطور وتقدم المجتمعات بقوة دفعها الثقافي من حيث القدرة المستدامة لقابلبات الإبداع والخلق التي تحملها ، وحيوية أنساقها في التفاعل والاستيعاب والتكامل لصنع الثقافة الإستراتجية الضامنة لمراحل تقدم وتنمية المجتمع ، والمحددة لطبيعة مهامه عبر التاريخ . ومن ثم فان أي تغير في الثقافة يتضمن فعلياً تغيراً في المجتمع من حيث أهدافه ورؤاه التنموية ... وعلية فان أي فعل تغييري حقيقي يبدأ من الثقافة ومكوناتها أن أراد أن يكتب له النجاح والاستمرارية .... هذا الفعل يجب إن تتكثف رؤاه عبر جدال فكري عميق يستشرف المستقبل ويتجاوز الماضي بأدوات نقد بمقتربات تمتلك صلاحية ملامسة واقع تاريخي متعين قصد إنتاج اسئله الحاضر للإجابة علي قضاياه الإنسانية المستقبلية . المتطلبات التواثقية هي عناصر إستراتجية ترد باعتبارها غايات (كلية) لمجمل أهداف المشروع الثقافي التي يستعان علي بلوغها بسياسات (مرحلية) وذلك قصد تنبيه النظر البحثي لاستكمالها الفاحص بالهدف النهائي الراشد والخطة التفصيلية المُحكمة نحو مجالات ينبغي أن يكون فيها علي الأقل ملامح أولية لمقولات محورية بحسبانها عوامل انطلاق ثقافي لتحرير بنية المجتمع والدولة ومحيطهما من الكوابح التي تعيق نهوضهما لصالح التمييز بين علاقة أهداف الإستراتجية الثقافية بالسياسة الثقافية وارتباطهما بالبيئة الثقافية المحلية والخارجية ووسائطهما: المعرفية (= التي يتحدد بها الفهم الاستراتيجي ويرسم علي ضوئه الخيار) والإعلامية (= التي تنجز بها السياسات الثقافية بآليات تربوية وتوعويه). فالخيار الإستراتيجي الثقافي قد يكون مثلاً مع ثقافة إنسانية عالمية واحدة ومع الانفتاح الثقافي العالمي ولكن الآلية السياسية الثقافية قد تمر عبر ثقافة إنسانية انتقائية وانفتاح ممنهج يراعي الخصوصية المجتمعية وصولاً لمرمي هذه الحتمية النبيلة . وعلي شاكلة هذه المثال ترد مستويات شتي لقضايا اشتباك ثقافي بالمجتمعي ينبغي فضها بإيضاح ما يقع منها في إطار المشروع الثقافي التواثقي ضمن ماهو رؤيا استراتيجيه يطمح الوصول إلي أشواطها وماهو إمكانية سياسية يعتمد سبيل المضي بمناهجها علي متطلبات تنبع من الذات بالدرجة الأولي , ومتجاوزة للذات في كيانات ماقبل الدولة (أسرة ،قبيلة ،طائفة) او كيان الدولة ومؤسساتها المختلفة بالدرجة الثانية.إذا ما أردنا شهادة انبعاث مدني (ديمقراطي) مستدام غير مفروض بصناعة بنية سياسية (فوقية) لا تسندها قاعدة معرفية اجتماعية لإنتاج طبيعي لأنموذج مشاركة شعبية حرة ينبثق عنه نظام سياسي غير مشوه : 1. فعلي مستوي الذات الإنسانية الفردية، فان المتطلب الاستراتيجي ينبغي أن يصوب نحو خلق شروط الوعي الثقافي بمفاهيم : الحرية الإنسانية الاعتقادية والإبداعية والحرمة الإنسانية والديمقراطية والمشاركة الإنسانية بتجذير أفكار (الحرية ، الحرمة ، المشاركة) ليس في إطارها الأخلاقي والقانوني فقط بل بمحتواها الثقافي باعتبارها حقوقاً ثقافية (مطلقة) غير قابلة للتصرف في المقام الأول . 2. وعلي المستوي المتجاوز للذات، فان المتطلبات الإستراتيجية للمشروع ينبغي لها أن تأخذ بعين اعتبارها تعميق مضامين لايمكن إغفالها ، ولا يتصور قيام نهوض تنموي شامل دون مراعاة استحقاقاتها( اهدافاً نهائية ، وسياسات مرحلية ) : أ . الكيان الاسروي ، وحدة إنتاج ثقافي تأسيسي للقيم التثويرية كبنية مادية (فيزيقيه) تقوم علي الثنائي الزوجي الخلاق وكتوصيف بنيوي قد يعتمد علي مفهومي الأسرة النووية او الامتدادية ولكن بأفق الدعوة لتبني ثقافة اسروية قائمه علي الوعي التاريخي بتراث اسروي حواري (ديمقراطي) يعتمد أعباء الشراكة المتكافئة في الحقوق والواجبات وليس فقط علي سلطة القداسة الذكورية والابوية ( البطاريكية) . ب. التجاوز البناء للكيانات الثقافية ماقبل الدولة، فالمشروع طرح غير مساوم في نفيه للرهان القبلي والطائفي لصالح ثقافة مجتمع مدني تعمل علي المصادرة والتفكيك الثقافي لهذه الكيانات دون تكريس اوتكليس لدولة مركزية ولكن بتعامل مع الواقع المعاش بهدف إيجاد البدائل التي تحافظ علي توازن الهيكل الاجتماعي عوضاً عن تحطيم قواعده التقليدية دفعه واحدة . .3 أعادة تعريف (تقدمي ، تأسيسي) لثقافة دولة جديدة لا تكون تعزيزاً (مجانياً) لسلطة دولة (وهمية ، قامعة ، مركزية) تحت أي باب من الشعارات او العناوين، فالمشروع طرح غير مساوم في نفيه للدولة الدينية او ألائكيه(التي قد لا تعبر عنها بالضرورة حرفية الاصطلاح العلماني) فهما اختيارين ايدولوجيين غير محايدين في مقابلهما تتأكد الحاجة الموضوعية لتوسيع الفهم الثقافي لمدلول الدولة المدنية القائمة علي جذر المواطنة الإنسانية التي تؤمن بقيم الحداثة والتداول السلمي وحقوق الإنسان . 4.إعادة نظر (شاملة) في مؤسسات صناعة الثقافة التابعة للدولة الرسمية او ما يسمي (بوزارة الثقافة والإعلام وملحقاتها من التوابع الصحفية والفنية والأدبية ومراكز البحوث والتأصيل والتفقه ومن علي شاكلتها من مستحدثات أجهزة حماية ثقافة السلطة) او التابعة للمجتمع التقليدي (الشعبية والعرفية) التي أصبحت ظلاً خاضعاً لها، فلقد أضحي دورها لايكاد يبارح الترويج للسياسات الراهنة وليس النقد الاستراتيجي والتأمل المستقبلي ، فالمشروع طرح غير مساوم في التبشير بحيوية الانتقال من حراسة الثقافة إلي طلاقة الثقافة بمعني ايجابيتها وعفويتها وحراكها المجتمعي وتمنعها عن اختراقات كل الأشكال القانونية لحراسة التعبير الثقافي بسلطات غير قابلة للمراجعة او لتزوير الوعي الجماهيري بأدوات تعبير إعلامي تفتقر المصداقية .... لقد تمت هزيمة المشروع (الإسلاموي) ليس بفعل قوة الحداثة او مؤسسات التنوير بل بمؤسسات حراسة الثقافة (الخاصة) بمختلف أنماطها التي جعلت غاية طموحها الحفاظ علي المصالح غير المشروعة لفئات تحتكر فهم (متاسلم) لا يصلح إلا لتبرير أفعالها تلبيساً بعباءة تدينيه (خرقاء) او تدليساً علي عاطفة تدينيه (صادقة)وفي أحيان كثيرة تهديداً معنوياً ومادياً مباشراً باستخدام غطاء ماتملكه هذه المؤسسات من احتياطي مشروعيات (زائفة). 5. المراجعة التنويرية الجريئة والجهيرة : للانظومات التربوية والإعلامية والتوجيهية دون إبطاء لاستدراك عجزها التام عن تلبية المتطلبات الثقافية الإستراتجية ، بصورة تخرج مواطنيها عن نمط تعليم (المقهورين) بأشكال وعيه الاستلابي . ولاوعية المشاركة السياسية المدنية والتقليدية (أحزاباً وجمعيات ونقابات وكيانات أهلية) لتعبر مؤسسياً ومفاهيمياً عن مقتضي شعبيتها لا صفويتها اتساقاً مع وظيفتها الاجتماعية التاريخية ، بصورة تدخل نشطائها في دائرة الفاعلية الجماهيرية . وحتي لا تتم قراءة المشهد السياسي بصورة إعلامية مغلوطة ... فهل ما يحدث هو تحول تأريخي أم تاريخي ، تصحيح التأريخ أم صناعة التاريخ ....إننا بالقطع أمام تصحيح لخطأ تأريخي : هو المشروع التعانفي أما صناعة السلام والتحول الديمقراطي، فهما العملية التاريخية والنجاح في انجاز شروطها والوفاء بمستحقاتها هي التي يستحق أن نطلق عليها صفة التحول التاريخي . فالحركية التاريخية : هي فعل فردي وجماعي قاصد وواعي في بيئة معافاة وبآليات ومفاهيم مستدامة، فأين نحن من ذلك الذي أضحت لا تجسده إلا أطياف ذات فاعلة إنسانية فردية منهكة ومنتهكة ليس لها من ضمان أخلاقي موضوعي في ظل غياب ثقافة الحرمات الإنسانية ، وذات فاعلة إنسانية جماعية في ظل فعل مجتمعي تقعد به عوامل ذاتية وموضوعية دون القيام بمهام النهوض الاجتماعي والثقافي الذي يرزح تحت سلطان مجتمعي قامع ومستحكم تجسده ثقافة دولة قائمة فقط علي سلطتي إلا كراه المادي والمعنوي بدينامية باسطة ترغبيه وقابضة ترهبية ، فنحن مازالنا بعيدون اشواطاً مقدرة عن الدولة التعاقدية الرضائية،بل إننا نقع تحت بيئة وطنية ودولية لا تشكل القراءة العلمية لمعطياتها إننا بصدد الانخراط في إطار عملية تاريخية تقول بالدخول في حقبة سياسية محلية أو عالمية جديد تؤكد هذا الزعم ... الواقع إننا نعيش حاله تلبس ايدولوجي إعلامي وسياسي : تقوم علي محاولة إعادة تأكيد (أو فرض) حاله لا توجد الا في أذهان صانعيها وتوابعها من مؤسسات تزوير الوعي المعرفي الجماهيري ... يراد لنا أن نتعايش مع لحظاتها لا أن نعايشها،أن نتلبسها لا أن نلابسها ، فما يحدث هو الانتقال من ثقافة ديكتاتورية الشمولية الأحادية المطلقة النافية للأخر إلي ثقافة الشمولية الثنائية النسبية الموجهة للأخر في إطار حصار مجتمعي وطني يغلب عليه مشهد سياسي وإعلامي ضاغط بتداعيات تسالمية ذات نزوع استحواذي يحول أطرافها يوماً بعد يوم إلي مجرد حراس (منزوعي السلاح) لاتفاقات وترتيبات تخرجهم الا قليلاً من المسارات الموضوعية لدوائر الفاعلية الإستراتيجية ، بل أنها ما أنجزت معهم الا لكونهم قوي أمر واقع مستحكم بعسس القوة الغاشمة وبعسف الأجهزة السلطوية : صحيح إن المستوي الشكلاني والإجرائي من التحول التاريخي الوطني الراهن سيتم مع مؤسسات القمع المادي والإكراه المعنوي ولكن الرهانات الإستراتيجية المستقبلية : المفاهميمية والسياسية بمدلولاتها الثقافية المجتمعية تتم مع ولصالح قوي وتيارات (متعاظمة) بديلة لصياغة السيناريوهات المتجاوزة للمرحلة الحالية.انه المستوي الموضوعي من التحول التاريخي : الذي لن يتم الا بالقطيعة (الابستمولوجية) مع الماضي والتفكيك الهيكلي لمؤسساته ومناهجه وأدواته وهو سعي يومي دؤوب ومآل نهائي محتوم قصرت او تطاولت سنوات الانتقال إليه، فالسلام وصناعة التحول الديمقراطي ليسا هدية السماء (المجانية):أنة عبء النهوض لمواجهة تحديات بمستحقات إقليمية ودولية تدفع به وتساهم في ولادته بطموحات مشروعة وغير مشروعة ومصالح سياسية واقتصادية تشكل تداعياتها مستوي الحل وأسلوبه ودرجة استمراريته . والمساومة التاريخية بين قوي مصالح التنفذ الداخلي والخارجي قد تنجز مشروع التسوية الايدولوجية والسياسية ذات الطابع الاقتصادي والعسكري الذي يكون في أحيان كثيرة علي حساب الجماهير الشعبية التي تم خوض المعارك باسمها ولحساب قضاياها النضالية . * كاتب صحفي و باحث في مجال دراسات السلام و التنمية