تعددت الوفيات بين شريحة المتشردين، وبلغ عدد الضحايا «67» فردا بينهم فتاة واحدة، وهو أكبر عدد من الموتى بين المتشردين .. وهو الحادث الذي هز المدينة واحدث حالة من الذعر والهلع في اوساط «الشماشة» في انحاء العاصمة، خاصة ان السبب هو التسمم الناجم عن استخدام بعض المواد الطيارة التي استخدمها الضحايا، وسبب حالة الذعر التي عمت مجموعات المتشردين هو ان غالبيتهم يتعاطون تلك المواد. «الصحافة» سعت للاستماع لهذه الشريحة الاجتماعية، وكانت الساعات القليلة التي اعقبت الحادثة قد شهدت اختفاء غريبا لمجموعات المتشردين الذين كانت تعج بهم صالات السوق العربي الخرطوم، وبالقرب من موقف جبرة سابقا وهو مكان وجودهم واسرهم، الا ان اللافت هو غيابهم تماما في تلك الاماكن، خاصة انهم يقضون فيها معظم اوقاتهم. وجبنا المواقع جيئةً وذهابا، وسألنا الذين يجاورونهم من اصحاب المحال التجارية، وقال هؤلاء إن شريحة المتشردين كانت تمكث بجوارهم وحول المسجد وعمارة ابو علاء، غير انهم ومنذ ثلاثة شهور اقتادتهم الجهات المسؤولة الي المعسكرات، الا انهم هربوا وعادوا لذات المواقع التي يفضلونها. وأضاف بعض اصحاب المحلات التجارية أن شريحة المتشردين من الشرائح التي افتقدوها، اذ كانوا يلطفون الاجواء بفرحتهم، وقال عبد الكريم احمد ان المتشردين كانوا يقضون جل وقتهم بموقف جبرة، غير ان تسمم عدد منهم بذر فيهم الخوف، مؤكدا اختفاءهم من الموقف. ولاحظ عبد الكريم إن المتشردين في الآونة الاخيرة باتوا يتعاطون مادتي السلسيون والسبرتو الذي يستخدم في تخفيف المواد الزيتية بكميات كبيرة، مما ادى الى تسمم عدد كبير منهم. وحذَّر عبد الكريم الجهات التي تقوم باعطائهم هذه المواد لأنها تؤدي الى الوفاة مثل التي حدثت ... وغادرنا موقف جبرة وذهبنا الى احد محلات العطور للتعرف على مادة الاسبرت التي تناولها الضحايا. سعد الطيب تاجر عطور تحدث مشيرا الى ان المادة التي استخدمها المتشردون هي مادة الاسبرت التي تستعمل في تحليل الخامات الزيتية، وتعتبر من المواد المسكرة، ويلجأ اليها المتشرد بغرض السكر، اذ توضع في اناء به ماء ويمكن اضافتها إلى العصائر الطبيعية، واضاف سعيد الطيب: تعتبر مادة الاسبرت من المواد القوية والحارقة للكبد. وعن اماكن هذه المادة قال ان المتشردين ربما يجلبونها من سوق امدرمان حوش الريحة، اذ يتم بيعها بكميات كبيرة، مؤكدا ان عددا من الموطنين يقومون باحضار هذه المواد الى المتشردين بغرض الربح، ويشترونها باسعار زهيدة. واشار إلى انه بصفته تاجراً لا يقوم ببيعها الى المتشرين نسبة لمعرفته بالضرر الذي يلحق بمن يتناولها . وبالقرب من كلية كمبوني التقينا بأحد المتشردين الذي يدعي «دينق قرنق» وكان راقداً تحت احدى الاشجار، وتحدث الينا بعد مشاجرة مع زميله الذي لا يرغب في الحديث الينا، وقال دينق إن مادة الاسبرت ادت الي وفاة كثير من اصدقائه، وحتى ابن خالته لم يسلم هو الآخر من الموت بسبب تلك المادة السامة. وأضاف دينق بأنه كان من المدمنين لمادة السلسيون و«العرقي» الذي يأتون به من السوق الشعبي الخرطوم، غير أن السلطات اكتشفت اماكن بيعه، فبات عليهم التوجه الى سوق ام درمان لشراء الاسبرت. واضاف دينق انهم في الآونة الاخيرة يقومون بشرائها من تجار السلسيون باسعار زهيدة. وعن السبب الذي دفعه لمغادرة منزله قال بأنه يتيم الام، وان عمته لا تعامله معاملة طيبة، الامر الذي دفعه للخروج من المنزل ليلتحق بالعمل باحد المطاعم بهدف جلب المال الى اخوته الصغار، غير ان عمته كانت تفاجئه بالمعاملة السيئة مرة اخرى مما دفعه الى الخروج النهائي. ويمضي دينق في القول الى انه يسكن الآن باحدى الحفر بالقرب من مستشفى الخرطوم. وعن اسماء اصحابة المتوفين قال إنهم اربعة، منهم حسين ذو الرجلين المبتورتين، وابن خالته دينق الذي توفي هو وزوجته وابناؤه. مصدر بمستشفى امدرمان التعليمي قال ان الحالات التي جاءت الى المستشفى كانت متباينة ما بين متوفية واخرى في المرحلة النهائية. واضاف المصدر ان الضحايا تعاطوا الاسبرت الذي يعتبر من انواع الكحول، وان العلاج شمل الفلويد والمحاليل الوريدية التي تعوض الجفاف بالجسم، اضافة الى امتصاص السموم. واشار المصدر الى وجود بعض الحالات المستقرة، علما بأن عدد الحالات المتوفية خمس حالات تراوحت اعمارهم بين «17 28»، وعن المناطق التي تم احضارهم منها، قال إنهم أحضروا من منطقة الصناعات، وعدد آخر من شوارع مختلفة في امدرمان. الاختصاصية الاجتماعية حنان الجاك قالت: ان احساس الضحايا بالحياة ضعيف جدا، اذ يفتقدون للأمن النفسي لعدم وجود الجو الحميمي الاسري، وعدم توفر مقومات الحياة بالنسبة لهم. وايضا من الاسباب التي ادت الى تشردهم هناك اسباب اقتصادية، وعدم وجود الايواء الذي يوفر لهم لقمة العيش، وبذلك تصبح مهنتهم التسكع في الشوارع وعدم الاحساس بالمسؤولية، وهذا ناتج من عدم الارتباط الاسري في طفولتهم، وعدم الأمان لديهم، وهم يدمنون لعدم توفر احتياجاتهم اليومية، وبهذا يلجأون الى تناول مثل هذه المواد التي تبعدهم عن الواقع المأساوي المعيش في عالم المتشردين الى عالم اللاوعي، هروباً من فداحة المشهد، وهم يشاهدون الأطفال المراهقين في اعمارهم يتمتعون بكل الميزات، بينما لا يجدون سوى العدم، مما يؤثر على تركيبتهم النفسية، لأنهم يفتقدون البناء النفسي السليم.