سيصبح الجنوب يوم التاسع من يوليو دولة جديدة تقبع على حدودنا الجنوبية، وسيصبح الجنوبيون الذين كانوا جزءا من شعب السودان شعبا صديقا وجارا، على كل فرد فيه ان يعّدل كل أوراقه الثبوتية ويعيد تعريف نفسه من جديد حسبما أراد وهوى، وبناءً على ما قرر واتخذ من خيار في الاستفتاء. لكن تبقى ذكريات حميمة لعلاقات وصداقات وأيام ستظل رصيداً ومحفزاً لعلاقات طيبة متى ما تغلب الخير على الشر، واستبانت الدولة الوليدة أن مصالحها مع الشمال وليس مع مجموعات الضغط الغربية التي تحركها أهواء ومصالح ليست بالضرورة ذات صلة بالمصلحة الوطنية العليا، ولا يبرر العداء او معارضة النظام مناصرتها والانسياق الأعمى لها. صديقي مهندس الصوت الجنوبي المهذب ألير الذي كان يزاملنا ممثلا للحركة الشعبية في استديو إذاعة المعارضة في إريتريا قبيل التوقيع على مقررات أسمرا المصيرية، كان صفحة من هذه الصفحات الأخوية المشرقة التي ضمتنا مع الإخوة الجنوبيين في سياق معارضة النظام في قراءته الأولى، وهي أخوة امتدت بين عواصم العالم وشراكات نضالية تلاقت في مناطق الشدة. كانت مجموعة إذاعة المعارضة التي تبث برامجها من أسمرة حينذاك تضمنا جميعا ألير، ياسر عرمان، الموسيقار عبد الرحمن عبد الله، ومحمد عثمان وشخصي، حيث كان بيت الإذاعة في أسمرا ملتقى للحوارات والنقاشات المسائية حول هموم الوطن، فتتباين الرؤى وتلتقى على هدف استعادة الحرية والديمقراطية وإقامة دولة المواطنة. والحركة الشعبية في تلك الأيام كانت تنام وتصحو على شعارات قرنق الوحدوية، بينما كان الأخ ياسر عرمان ورفاقه من الوحدويين بوصفهم رهبان الثورة، لا يفترون عن الترويج لشعارات ومقولات قرنق ورؤيته للسودان الجديد، تراهم مفتونين به منصتين له في حالة جيفارية خالصة. لكنها هي للأسف ذات الشعارات التي تبخرت عند إعلان نتيجة الاستفتاء، وستتلاشى رسميا بشهود محليين ودوليين في التاسع من هذا الشهر الجاري. لكن من المثير للانتباه أن معظم قيادات الحركة الذين كانوا من المتحمسين للوحدة في حياة قرنق مثل باقان أموم ودينق ألور وإدوارد لينو ونيال دينق وحتى سلفا كير، أصبحوا بعد رحيل قرنق من أكثر المتحمسين للانفصال والدعوة له، باستثناء لام أكول ورياك مشار اللذين كانا يدعوان للانفصال منذ البداية دون مواربة، تحت لواء جبهة استقلال جنوب السودان. بل أصبح باقان الأكثر تحريضاً على الانفصال في الجنوب، حتى أن الحركة لم تكن في حاجة بعد أن التقت أهواء الانفصاليين، إلى عقد مجلس التحرير لإعلان موقفها إزاء مؤيديها بين خياري الوحدة أو الانفصال، حسبما التزمت في اتفاق نيفاشا وقبله في إعلان أسمرا. بل تعجل سلفا كير ليعلن الرغبة في الانفصال من نيويورك، قبل أن يخاطب الجنوبيين بقوله «إذا كنتم تريدون أن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية صوتوا للوحدة، وإذا كنتم تريدون أن تصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى فصوتوا للانفصال». قضي الأمر إذن وذهب الجنوبيون إلى حيث اختيارهم برضاء الشماليين، رغم ثمن القبول الاقتصادي والمعنوي، إلا أن الجنوب سيبقى على حدود الشمال الجنوبية أقرب إلى الخرطوم من واشنطن ولندن وغيرها. وهي الحقائق التي لا بد أن يعمل من أجل إيصالها نشطاء الحركة الجنوبية في الشمال إلى رفاقهم السابقين في الدولة الجديدة، وليكن في ذلك عزاؤهم عن وحدة شتتها الأهواء والمصالح ولم تدم حلما بعد رحيل داعيتها. لكن تظل العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الشمال والجنوب، هي الحقيقة الماثلة والحاضرة عبر أطول حدود بين الشمال والجنوب، وهي الحقيقة التي تلقي على كاهل الشماليين والجنوبيين معاً عبئاً إضافياً لرعايتها ودعمها، لإفشال كل مخططات دعاة زعزعة الاستقرار، سواء من الداخل أو الخارج. نعم.. ثمة من يدعون في جنوب السودان لأسباب أمنية يعتقدون بضرورتها لدولتهم الجديدة، إلى إقامة جنوب جديد ملتهب في الشمال يمتد بين ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، مستفيدين في ذلك من العلاقة العضوية بين عناصر الجيش الشعبي والحركة الشعبية في تلك المناطق، وهو ما تجلى أخيراً في أحداث جنوب كردفان، إلا أنها رؤية إستراتيجية قاصرة لن تضعف الشمال أو تشله، ولن توفر الحلول أو الاستقرار لدولة الجنوب. ورغم سعي الحكومة أخيراً في أديس أبابا لاحتواء الموقف في جنوب كردفان ومعالجة الوضع الأمني في النيل الأزرق عبر اتفاق ثنائي، إلا أن هذه الثنائية ستجدد المأساة من جديد، ما لم يُنظر إلى الحلول في إطار قومي يمنع الاستقطاب بين القوى السياسية ويجدد الأمل في إطفاء بؤر النيران في دارفور ومناطق التماس مع الجنوب، دون إفراط أو تفريط، وهو ما يحتم على الحكومة مراجعة حقيقية لسياساتها الأحادية لبناء دستور ديمقراطي ووطن يتسع لجميع أهله، وأن يحّول البشير تصريحاته بهذا الشأن إلى قرارات عملية على الأرض ليست للاستهلاك. وختاماً بعد إدلاء أكثر من ثمانية وتسعين في المئة من الجنوبيين لصالح الانفصال على مقربة من ضريح قرنق، ورغم وعود الحركة في أسمرا وغيرها من العواصم التي خدَّرت بها التجمع الوطني وقادته سنين عدداً بالوقوف إلى جانب الوحدة، لتفاجئهم باختيار الانفصال وتوزع لهم الدعوات لحضور حفل اقتطاع جزء من الوطن ورفع علم جديد في سمائه، لم يتبق إلا أن أقول إلى صديقي ألير ورفاقه وداعاً أيها الأصدقاء، وحظاً سعيداً عسى أن يبقى الود والإخاء بيننا .