التاريخ يبدأ بأحداث يصنعها الانسان ويلعب دوراً كبيراً فى تسلسل فرضياتها، وتصبح هذه الاحداث تأريخاً يسطر ويسجل تلك الفترة بكل سلبياتها وايجابياتها، فيها احداث مؤلمة يتجرعها الفكر الإنسانى بمرارة يصعب على الانسان فهم احداثها، وتبدو وكأنها حلم لازم صاحبه بعد نوم عميق، التاسع من يوليو حلم رواد الساسة لفترات طويلة أدى فى نهاية المطاف لتقسيم السودان لدولتين متناحرتين، فمن البداية انعدمت الثقة بينهم وتوافرت كل بذور الفتنه والشقاق رغم حديث الود والتسامح الذى يعبر عنه بعض الساسة فى الدولتين، وبنظرة سريعة لحكومات الشمال نجد أن كل هذه الحكومات لم تهتم بأمر الجنوب، بل اتخذت منه محلاً لاثارة الفتن بين القبائل الجنوبية وموالاة بعضها ضد البعض الآخر بهدف زعزعة الجنوب والاستفاده من كل ذلك فى تهدئة الحرب بين الشمال والجنوب، فهذه النظرة السياسية الضيقة اصبحت ملازمة لكل السياسات الشمالية ضد الجنوب، وطبيعى أن تنعدم الثقة بينهم، وطبيعى أن يأتى يوم يطالب فيه الجنوبيون بالانفصال، وطبيعى أن نقول لمنقو زمبيرى جاء من يفصلنا. وملاحظة اخرى، فقد نال السودان استقلاله منذ اكثر من نصف قرن، ووقتها كان جنوب السودان حالماً وادعاً مسالماً يحتاج لجهد دعوى منظم لنشر الاسلام فى منطقة ظلت محمية بقانون المناطق المقفولة طيلة فترة الاستعمار الانجليزى على البلاد. والجهد المبذول من هذه الناحية كان ضعيفاً لعدة اسباب، أهمها ان كل الحكومات كانت تعمل لتثبيت دعامة حكمها بكل الوسائل، ولم تكن الدعوة من صميم عمل هذه الحكومات بما فيها التى ساعدت وشجعت على الانفصال. وكان من المفترض ان تبذل الحكومة جهداً يدعو للوحدة بصورة عملية، وان تتنازل عن بعض حقوقها لدعم الوحدة حتى تساعد فى درء خطر الانفصال. والنتيجة كانت عكس ذلك، فبعد نيفاشا تفرغت الحكومة للصراعات والمهاترات مع افرادها المنشقين ومع المعارضين، وأضاعت الزمن في ما لا يفيد، واقتربت الساعة ساعة الانفصال، وبدأت فى لحظات حرجة صيحات ذات صوت خافت تعمل لدرء الخطر، ولكن دون جدوى، ولم تستطع الحكومة مجاراة الاحداث المتسارعة التى عجلت بالنهاية المؤلمة والمحزنة التى أدت الى تمزيق شمل البلاد. انها نيفاشا التى سطرها ساسة الشمال دون علم بمخاطرها، ودون ادراك ببنودها، واصبحت فرضاً لازماً لكل أطراف النزاع شمالى وجنوبى. واصبحت نتيجتها ايجابية للجنوب وسلبية للشمال، وتعالت صيحات التسامح والوفاق تخرج من حناجر الساسة بميلاد دولتين سوف يكون التسامح والتعاون ميثاقاً رسمياً بينهما، غير أن الواقع عكس ذلك، فقد بدأت الخلافات بينهما، وظهرت منطقة أبيي النفطية بداية للخلاف والنزاع والصراع، واشتعلت الحرب بينهما، وتدخلت المنظمات للتنديد بمخاطر كل ذلك على اتفاقية نيفاشا التى ما يهم الغرب فيها هو تأكيد انفصال دولة الجنوب، وبدأت كل المنظمات تعمل على تهدئة الجو لحين تكملة اجراءات الانفصال. ثم فتحت نوافذ اخرى جنوب كردفان وعبد العزيز الحلو والنيل الأزرق، وظلت نافذة دارفور مفتوحة فى قطر دون الوصول لما يساعد على وحدة الاقليم. وهذا يعنى ان الشمال يعيش وضعاً مضطرباً غير مستقر اطلاقاً، بل ظهرت الخلافات والتضارب فى القرارات بين الساسة داخل حكومة الشمال، تصريحات الرئيس واتفاقية اديس ابابا، وهذا يعنى أن كل عوامل الاتفاق داخل البيت الشمالى بدأت تفرز خلافات سوف يكون لها أثر سلبي على حكومة الشمال، بل سوف يظل هذا الخلاف عنصراً مفيداً لتحديد مسار حكومة الجنوب من نقاط الخلاف بينها وبين حكومة الشمال، والصورة العامة تبدو أكثر غرابة، والتاسع من يوليو يسير سيراً حثيثاً ليسجل ميلاد دولة ويسجل تمزيق دولة المليون ميل. وهنالك من يؤيد ومن يرفض، ورغم ذلك سوف يتم الاعلان لقيام الدولة فى الجنوب، أنها السياسة الضيقة ذات الابعاد المحدودة الفكر، فنيفاشا كانت وبالاً على السودان، رسمت بدقة ونفذت بعناية فائقة، وقتل زعيمها الوحدوى، وتوزعت الادوار السياسية التى تخدم الانفصال، وانتهت اللعبة. وعلينا أن نعى الدرس جيداً. وجاءت الاتفاقية بالانفصال الذى سوف يعلن عنه فى التاسع من يوليو «اليوم» والذى يعتبره البعض تشاؤماً وليس تفاؤلاً، والسبب أن كل الفرضيات التى لازمت الانفصال كانت نذير خلاف وفتن وصراع بين ابناء القطر الواحد والمقدمات تحدد النهايات. واصبح مصير البلاد فى خطر، وابتعدت الحلول وخاب صوت العقل، وارتفع صوت السلاح معلناً الحرب، واصبح كل طرف يتربص بالآخر الدوائر، والمواطن فى الشمال والجنوب يعانى ويلات المرض والفقر والجوع والغلاء الذى يرتفع ميزانه يوماً بعد يوم. والجنوب والشمال جمعيهما فى تدهور الخدمات سواء، والقمة فى كل تتصارع من اجل المنصب والوزارة، ولا نعلم كيف يكون المصير، فالصورة مقلوبة قمة سياسية تتحدث عن التنمية ومحاربة الفقر والغلاء فى الورق فى الصحف، وفى لقاءات سياسية ابتعد عنها المواطن واصبحت محل تندر وسخرية لا يهمه تصريح سياسى ولا قرار سياسى مادام لا يحقق له العيش اليسير ، والقاعدة مهمومة بالمعيشة وتعليم الابناء وارتفاع السوق والغلاء، واصبحت غير مهتمة بأحداث البلاد السياسية. ورغم ذلك التاسع من يوليو يمثل ميلاد دولة رصيدها من الشمال القهر والظلم والتسلط، وكل هذه المعطيات لا تساعد ولا تشجع على الوحدة والوفاق بين الدولتيين، وعلينا فى الشمال أن نجمع شملنا، وأن نوحد أمرنا، وأن ننظر للمستقبل بعين العقل، وأن نتنازل عن كل ما يضر بمصلحة البلاد، وان ننبذ الحزبية، وان نحارب الفساد الذى اصبح ينخر فى احشاء الدولة فى كل مناحيها، وعلينا أن ننظر للمواطن المقهور المظلوم الذى تحمل كل ويلات الحكومات من غلاء وفساد ادراى ومالى، حتى نستطيع أن نقف ونستعد للمخاطر القادمة التى لا تترك احدا الا اخذته بنارها ولهيبها، فالعدو واحد يصالح لمصلحته ويحارب كل من يقف ضدها، فجميعنا مستهدفون ومخطئ من يعتقد أنه ناج من القادم، لذلك الامر عظيم والخطب جلل والتحلى بالحكمة والعقل مطلوب، وحكومة الجنوب قادمة، وعلينا ان نبنى جسور التسامح معها حتى نفوت الفرصة على الذين يريدون النيل منا، وهم كثر جمعيهم ناقمون على الشمال لاسباب كثيرة يعلمها كل سودانى شمالى وجنوبى، والخاسر فى النهاية المواطن السودانى الذى لم ينعم بالراحة والاستقرار منذ فترة طويلة. وأخيراً أخى منقو زمبيرى لا عاش من يفصلنا.