واقع معاش اضحى ماثلاً للعيان، وحقيقة كتبت فى صفحات التاريخ ان سودان مابعد التاسع من يوليو اصبح سودانا آخر غير الذى عرفناه وورثناه عن الأجداد تشكلت له خريطة وحدود سياسية وجغرافية لم يألفها البعض حتى الان، ولكن مايتفق عليه الجميع ان البلاد تخطو الى مرحلة جديدة من عمرها مُحاطة بتحديات عصيبة فى الوقت الذى ترنو فيه الى مستقبل مشرق لماتبقى من السودان الشمالى المحتقن بالصراعات والنزيف فى دارفور وجنوب كردفان بجانب استحقاقات اخرى تبقت من اتفاقية السلام التى لم تكتمل حلقاتها فى أبيى والنيل الأزرق وقضايا الحدود مع دولة جنوب السودان الوليدة، مستقبل مازال فى غيب التكهنات ومعالم لم تتضح ليوم غد مشحونة بالآمال والمخاوف لبناء وطن يسع الجميع تتوافق مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية للخروج من رحم المعاناة الى بر الأمان. حيث حاول عدد من من الخبراء والسياسيين قراءة مستقبل السودان فى ضوء انفصال الجنوب فى ندوة نظمها مركز دراسات الشرق الأوسط وافريقيا امس بمركز الشهيد الزبير للمؤتمرات حمل عنوانها ذات المعنى، كشفوا فيها النقاب عن جملة من التحديات الراهنة والمستقبلية، وفى بداية الندوة تحدث القيادى بالمؤتمر الوطنى الدكتور فاروق أحمد عن ضرورة ترتيب البيت السودانى من الداخل تمشياً مع المرحلة التى يعيشها السودان والتى تحتاج الى تكاتف جميع القوى السياسية والتعامل مع القضايا العالقة ببعدها القومى باعتبارها تمس جميع الأطراف، وقال أحمد ان انفصال الجنوب طرح كثيرا من التحديات للشمال والجنوب معاً على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى والعسكرى، لافتاً الى ان محتويات ومعطيات العلاقات الدولية بين الدولتين مطروحة للنظر فى ظل تعقيدات حية ليست حكراً على حزب معين او حكومة، وانما هى تحدى لاهل السودان جميعاً وجوداً واستقراراً، وشدد أحمد ان الاهتمام بهذه القضايا يجب ان يكون قومياً لانها مصيرية ووطنية من الدرجة الأولى، واوضح ان هناك نقاطا يمكن ان تشكل مرتكزات لقضايا مستقبل السودان اهمها الدستور، وقال ظل السودان منذ استقلاله فى العام 1956 وحتى الأن يعيش فى مرحلة انتقالية رغم الجهود المختلفة، ورغماً عن ذلك لم تبلغ البلاد مرحلة يتراضى فيها اهل السودان حول دستور دائم برغم المجهودات التى تمت فى هذا المجال، واضاف علينا ان نقول ان اتفاقية السلام وضعت اللبنات الأولى لأرضية مشتركة تمكن لأسس الحكم ،وكانت تنشد الوحدة ولكنا اليوم امام دولتين فى حاجة الى اعادة التنظيم، وعلينا ان نعمل على هذا التحدى الكبير آخذين فى الاعتبار ان هناك حكومتين شرعيتين منتخبتين فى الشمال والجنوب ، ولكن علينا ان ندرك ايضاً اننا فى مرحلة تحتاج الى ترتيب الأوضاع من جديد، غير متناسين الوضع الذى تمر به البلاد وبؤر الصراعات التى تحتاج الى رؤية وطنية صادقة وشاملة تلبى طموحات اهل السودان، وتأسف أحمد على ان معظم القضايا التى تهدد البلاد انحصرت فى شريط السافنا الفاصل بين الشمال والجنوب والذى يشكل منطقة غنية جداً بالموارد ونقطة مهمة جداً للتمازج والتداخل بين البلدين من المفترض ان تقود الى الاستقرار وتبادل المنافع وتغليب المصالح المشتركة بين الشعبين. وتحدث أحمد عن تحدى دارفور ووصف القضية بالشائكة والمختلفة عن الأخريات نسبة لتدخل ايادى المجتمع الدولى، واعتبر اتفاق الدوحة الاطارى من اهم انجازات المرحلة الراهنة وهو رهان جديد يتوقف على التنفيذ يمكن ان يحل المشكلة نهائياً ولكن اذا لم تعالج الأوضاع بصورة جيدة فانها ستفتح الباب واسعاً لفرض الوصايا الدولية على دارفور، وقال «الكورة الأن بملعبنا والخيار بأيدينا مثلما كانت نيفاشا التى افضت الى هذا الواقع»، واقر أحمد ان الارادة الوطنية فشلت فى تغليب خيار الوحدة ، ونوه الى ان ذات الخيار ورتق النسيج الاجتماعى نقف عنده الأن ويجب ان نحسن ادارته حتى نضمن استقرار ماتبقى من السودان، وقال الخارج الأن ينظر الينا ويراهن على فشلنا ولكن مازلت هناك فرصة حقيقية لتخييب ظنه، ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هل الارادة الوطنية لأهل دارفور والسودان جميعاً قادرين على تجاوز التحديات. وتحدث القيادى بالحزب الاتحادى الديموقراطى صديق الهندى عن أزمة الدستور والتراضى الوطنى باعتباره المخرج لأزمات البلاد، وقال الهندى ان الدستور تحول من قضية الى عقدة، وكأنه وصفة سحرية لحل جميع مشاكل البلاد ونقله من التخلف الى مصاف التقدم، وشدد ان الأزمة الحقيقية ليست أزمة دستور بل هى أزمة معيشة وتسيير الحياة اليومية والدستور اطار ليس الا ، يحتاج الى تفعيل القوانين والا سيصبح مجرد نصوص، وقال الهندى ان نيفاشا كانت مخيبة للآمال وتوهم البعض انها نهاية لمشاكل جميع السودان وانها ستصبح النموذج الامثل لحل قضايا افريقيا وقال انها مليئة بالوهم والترضيات طوال ست سنوات يجب الوقوف عندها، ونوه الى ان نموذج نيفاشا قابل للتكرار فى دارفور ايضاً، وحمل الهندى مسؤولية الانفصال الى المؤتمر الوطنى، وقال نعم المسؤولية متدرجة ونسبية ولكن الحزب الحاكم يتحمل الوزر الأكبر لانفصال الجنوب، لافتاً الى ان هناك اخطاء عديدة لم تتجاوز محطتها من بينها التعداد السكانى وتوزيع الدوائر الجغرافية وقانون الانتخابات ووصفها بالقنابل الزمنية الموقوتة، وانها قضايا غير متفق عليها من القوى السياسية حتى الآن، وتشكل تحدى فى المرحلة القادمة ايضاً يجب الانتباه اليها، وطالب الهندى بالتعامل مع الدستور بمسؤولية من كل الأحزاب ومراجعة عدد من القوانين المقيدة للحريات، وتحدث عن واقع الحكم الفدرالى والمحلى فى الدستور السابق ووصفه بالشكلى وغير الموجود وانه لم يأت بجديد وكرس لسلطات الوالى لهيمنة المركز، وكان من المفترض ان ينقل الحكم الى الولايات والمحليات ولكنه نقل المركز اليها. وقال الخبير الاستراتيجى الدكتور محمد حسين ابو صالح ان المشكلة الأساسية فى الثقافة السودانية تجنح الى الاستعجال للمستقبل الذى يحتاج الى سنين طويلة من غير تخطيط، ووصف ما يتم من حلول انه يخاطب ظواهر المشاكل وليس جذورها، ونوه الى التعامل باستراتيجية واضحة مع مصالح الدول الخارجية الطامعة فى السودان، ونوه الى ان دول الاستعمار رسمت الحدود بين الدول لتقسم مصالحها فيما بينها كل ومكتسباته، وانتقد ابو صالح غياب التفكير الاستراتيجى لأبسط القضايا مثل استراتيجة بناء الروح والمشاعر الوطنية والانتماء للدولة وليس الحكومة، وادارة التنوع وقال نحن فى قلب صراع المصالح العالمى العنيف ولاندرى ذلك، واوضح ان المخرج لبناء مستقبل واعد للسودان حوار سياسى وطنى استراتيجى عن الدولة السودانية وليس الحكومة وعلينا ان نفصل بين مفهوم «الدولة والحكومة» واضاف اذا لم نتمكن من ذلك فاننا سنظل نطفئ فى الأزمات الى ماشاء الله حسب قوله. وتحدث عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعى السودانى المهندس صديق يوسف ابراهيم عن ضرورة صياغة دستور قومى حقيقى بمشاركة جميع القوى السياسية المختلفة والمجتمع المدنى والأهلى لرسم ملامح السودان يسع الجميع بمختلف مكوناته وتنوعه والذى مازال البعض ينظر اليه البعض باستخفاف يلقى وجود الاخر خاصة بعد انفصال الجنوب، وقال يوسف مازلنا نناضل من الأربعينيات لقيام دولة سودانية تحترم حقوق المواطن وحرياته، ونوه الى ان استمرار النظام الحالى بنفس مفاهيمه وعزله للآخر سيقود البلاد الى مستقبل مظلم لأنه منذ اتى لم يجلب لأهل السودان غير البؤس والشقاء وتضييق الحريات واخرها كان مصادرة ست صحف، ويرى يوسف ان المخرج لأزمات البلاد ان تجلس جميع القوى السياسية مع بعضها لبناء دستور يحافظ على دولة مدنية ديمقراطية تبدأ بتكوين حكومة قومية عريضة تشمل الجميع لا يعزل فيها احد تتبنى برنامجا محددا جداً تستمر لعامين تجرى بعده انتخابات حرة ونزيهة ليختار الشعب من يحكمه، ونادى يوسف بتعقد مؤتمر لكل اهل السودان تتم فيه مناقشة قضايا البلاد، ومن ثم النظر فى آليات لمعالجة الأوضاع الاقتصادية الحرجة بصورة اسعافية، بجانب حل القضايا الملحة وايقاف النزيف والحرب فى دارفور وجنوب كردفان، وشدد يوسف ان يجاز الدستور من هيئة قومية حقيقية ومن ثم يطرح لنقاشات طويلة جداً الى ان تتوافق عليه جميع الأطراف . وحمل أمين عام حزب الأمة القومى الفريق صديق اسماعيل مسؤولية الانفصال الى المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية ، وقال انه أتى نتيجة لممارسة حزبين صغيرين حديثى العهد والتجربة السياسية قادا البلاد الى الوضع الراهن،واضاف ان المؤتمر الوطنى كان يعتقد بأنه قادر على التأثير على بعض عناصر الحركة الشعبية لبناء الوحدة تحت غطاء «الوحدة الجاذبة» وان الحركة الشعبية تعاملت بمكر مع القضية وكانت تبيت النية للانفصال، واوضح اسماعيل ان الدولة السودانية الحالية لديها مقومات الاستقرار ولكنها تواجه تحديات كبيرة علينا تتداركها بمسؤولية وطنية وتجاوز مرارات الماضى من كل القوى السياسية، وعلينا ان نعى ان السودان مستهدف من الخارج وهو تحدى كبير يحتاج الى رؤية مشتركة لمجابهة الأطماع الخارجية وفق استراتيجية واضحة، ودعا اسماعيل الى ترسيخ العلاقة بين الشمال والجنوب لمصلحة الشعبين.