تلعب الفنون الموسيقية بانواعها بوجه عام دوراً اساسياً في تهذيب النفس البشرية ورفع مستوى التذوق والانتقاء الى درجات اعلى من الثقافة العامة ورفاهية الحسن. ولا شيء يدل على حضارة الشعوب قدر انتاجاها الفني والثقافي والادبي والتربوي والاجتماعي والديني. فالفن الذي يقف وراء الناس لن يتقدم ابداً، والذي يقف الى جوارهم في استطاعته التقدم الى الامام. فالتذوق الموسيقي في السودان بكل اجزائه لا يتعارض مع انواع الموسيقى بانواعها الدينية والشعبية والشرقية وبالاخص العربية، ولكنها لا تصل الى درجة الاستمتاع بها بقدر موسيقانا السودانية السمحة، فالموسيقى السودانية لغة يفهمها السودانيون جميعا حسب تباين لهجاتهم واختلاف عاداتهم وتقاليدهم رغم تعددهم القبلي، فهي تمثل عندهم الحياة الناهضة السمحة والبسمة والروح الطيبة والروابط القبلية والوحدة الوطنية تحت ظل السلام والاسلام دين الغالبية الذي يحمل في داخله الشعائر والدعوات والصلوات التي اهتم بها الفنيون، خاصة في تلاوة القرآن الكريم والمدائح النبوية بنوعيها الحر والموزون. ومن هنا اصبح علينا بصفتنا موسيقيين أن نثبت أعمالنا الفنية فيها بدقة واهتمام، ولا يغيب عنا ما للموسيقى السودانية من منزلة عظيمة، وعلى أن نعمل في مجالها بالعمل الفني الجاد، والنهوض بروابط العلاقات الاخوية في كل اجزاء السودان شمالاً وجنوبا وشرقاً وغرباً ووسطاً. ويكفينا بعداً أن ماضينا هو التمسك بأساسياتها التي يرجع تاريخها الى الروابط الموسيقية الشعبية التي كانت تحت سيطرة الممالك الإثيوبية القديمة التي كانت تجمع شرق السودان من الحدود النيلية شرقاً حتى المحيط الهندي، وكانت تجمع دول اريتريا والصومال وجيبوتي والحبشة وشرق موريتانيا. وذلك في عهود ممالك وسلطنات إثيوبية انتهت بعد هجرة العرب إلى وسط السودان من الاراضي الحجازية. فقد كانت ثقافتها الموسيقية مرتبطة بالغناء والرقص الشعبي والنغمات الخماسية، فارتبطت ثقافتنا الموسيقية بها حتى الوقت الحاضر، فظهرت منها معالم السلالم الخماسية وآلات النفخ القصبية والايقاعات الثلاثية البسيطة والمركبة التي جاء بعضها مبنياً على الكلمات الشعبية وكرير الحناجر ورقصات الفتيات وما يعرف منها برقصة الرقبة. فهي موروثات شعبية إفريقية طبيعية بالرغم من انتماء وسط السودان الثقافي ووجدانه السياسي الى الامة العربية التي تستخدم المقامات والسلالم السباعية ذات الأجناس المتعددة. كما أحدثت الشمولية في الوقت الحاضر هجرات بعض الاسر والافراد الاثيوبيين الى السودان، واصبح استقرارهم واعمالهم اكثر فعالية في العاصمة المثلثة التي تجمع الخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري، وهم غير ملامين باعتبارهم من دول الجوار التي تربطنا بها العلاقات الاخوية الوثيقة والفنون الثقافية. أما ما يحدث الآن من ظواهر العولمة الجديدة التي انتشرت في العاصمة السودانية، ومصدرها شركات من بعض الدول العربية التي احتضنت نشر بعض ألوان الغناء الاثيوبي الممزوج برقص الفتيات مع الشبان في نماذج غنائية راقصة ممسوخة وممزوجة ببعض الاغاني الحضرية ذات الكلمات المبتذلة الخليعة المبنية على عروض الحب والعاطفة في اسطوانات «الفيديو كليب» التي تباع بارخص الاثمان في مظلات شوارع الأسواق في العاصمة المثلثة واماكن بيع الاسطوانات واشرطة اكاسيت في الاسواق الشعبية، فبالرغم من تطور وتقدم حضارتنا السودانية عبر التاريخ الطويل، فقد ابتلينا من مفاهيم العولمة بالغناء الهابط في السودان، بالرغم من حرص إعلامنا على عدم انزلاقنا في المكايد الفاضحة. ولعل أخطرها مفهوم بعض الأغاني والرقصات التي يؤديها بعض الشبان والشابات الاثيوبيون التي لا تتناسب مع واقعنا الاجتماعي والأخلاقي في الوقت الحاضر، الأمر الذي ساعد على التأثر بها بعض الشيء في المناسبات الخاصة. وهذا أمر لا بد أن تتابعه السلطات الثقافية والإعلامية بوصفها العين الساهرة على راحة الشعب السوداني، خاصة أننا قد اخمدنا ثورة الغناء الهابط الذي فرض علينا وشجعها الاستعمار الانجليزي في زمن سابق قبل الاستقلال، وبعده بفترة تغير فيها نظام الحكم في السودان، وكان ذلك لصرف النشاط الفني عن الغناء الوطني، فهذه الظاهرة الجديدة هي ابتلاء للموسيقى السودانية وتحديا لمجوداتنا الفنية، وبذلك بدأت تظهر في الأفق الاجتهادات الأجنبية التي جعلتنا في عالم يترنح مع الفساد الأخلاقي والاجتماعي لتغيير طابعنا السوداني دون تحفظ، في وقت نعتز فيه بطابعنا الغنائي بكامل قوالبه الشعبية والدينية والدنيوية، وفي وقت لا تقبله الأغنية السودانية في هذا العصر المزدحم ب «فيروس» العولمة الخبيثة المتدنسة على أرض السودان الطاهر. فنحن بصفتنا سودانيين لن نقبل ابداً اي تغيير لواقعنا وحضارتنا الفنية المتوارثة التي تمثل طابعنا السوداني الاصيل الذي نعتز به دوام حياتنا، فذلك استرخاص واستباحة لفنوننا الموسيقية، الأمر الذي جعل تجار الغناء الهابط يسلكون هذا المعبر الضيق دون أية رقابة فنية. فحكومة الشعب السوداني وعلى رأسها السيد عمر البشير، تحترم فنونه الشعبية والوطنية، وتتعامل بروح وطنية خالصة في كل موقع يجمع المواطن الصالح، احتراما لضروب ايقاعاتها الوطنية المبنية على الكلمة الوطنية الصادقة. ومن هنا أرجو رجاءً خاصاً من أجهزتنا الثقافية والاعلامية الناجحة محاربة الذين يسعون الى استرخاص تراثنا الشعبي الاصيل، ومحاربة الذين يسلكون هذا الطريق دون رقابة فنية، انقاذاً لشبابنا السوداني الناضج مما يحاط به من هبوط فني، حفاظاً على سلامتهم الوطنية الصادقة الأبية، وفنوننا الموسيقية ذات الطابع السوداني الصميم التي نعتز بها دائماً وأبداً.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.