تعتبر الاستراتيجية القومية ربع القرنية «2007 2032» امتدادا للاستراتيجية القومية الشاملة «1992 2002م». وتكاد تتشابه في المحاور والأهداف والإطار القانوني والمرجعية التخطيطية والمرتكزات. والاثنتان قد تكونان منسوختين من التجربة الماليزية «طبعاً» في إطارها النظري. المهم تستند استراتيجيتنا القومية ربع القرنية الموقرة الى رؤية واضحة تقول فيها «أمة سودانية آمنة موحدة تدير شؤونها على قواعد التعددية السياسية والفيدرالية والتنوع الثقافي والتداول السلمي للسلطة، وتؤسس للاستقرار السياسي بالسلام والوفاق والوحدة الوطنية وكفالة حقوق المواطنة والمساواة للجميع أمام القانون». يا سلام..... يا سلام.... كلام منمق وجزل ولكنه مجرد كلام. هذه الرؤية مقتبسة من الاستراتيجية الشاملة. ورغم أن مخرجات أولاهما لم تحقق سلما ولا أمنا ولا حريات، يصر المخططون الإستراتيجيون في السودان على تبني هذه الرؤية التي لم ولن تتحقق، وذلك لاختلاف نية التبني ونية التنفيذ إن جاز لي التعبير فقهاً. فهذه الرؤية كتبت قبل انفصال الجنوب، ولا أدري ماذا يقصد منظرو الاستراتيجية بأمة سودانية آمنة موحدة إن لم يكن هنالك سوء نية «مبيتة» لفصل الجنوب. قلنا إن هنالك اختلافاً في نية التنظير ونية التنفيذ، أو قل صراحة يقولون ما لا يريدون فعله، وكبر مقتا عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون. والجزئية الثانية في الرؤية تقول وتهتم بقواعد الحريات والتعددية السياسية والفيدرالية والتنوع الثقافي، وهذه الجزئية لا تحتاج الى كثير جهد، فالانتخابات كانت نزيهة ومزورة في آن واحد كما قال ساخر بجاوي يؤيد النظام بعد أن وُجه بفيديو خج الصناديق. فكيف يمكن تبنى فيدرالية مع إحصاء سكاني مزور خاصة في ولاية البحر الأحمر كان حالة تندر ومادة كاركتير دسمة. أما الجزئية الثالثة تقول: «التداول السلمي للسلطة وتأسيس الاستقرار بالسلام والوفاق وكفالة حقوق المواطنة والمساواة للجميع أمام القانون»، وهذه قفزة تناقضية مهولة بين التخطيط وتنفيذ التخطيط، طبعا «دي ما دايرة درس عصر» كما قال السيد الصادق المهدي. وكما للاستراتيجية رؤية لم يذق طعمها الشعب السوداني ولم يسلم من نيرانها، فلاستراتيجيتنا الموقرة مرتكزات لا نحس بصدق ارتكازها، وسوف نتذاكرها مرتكزا تلو الآخر تبيانا للتناقض بين التخطيط وتنفيذ التخطيط. مرتكزات رسالة الاستراتيجية: تستند الاستراتيجية الموقرة إلى تسع مرتكزات غاية في الروعة من حيث جزالة الألفاظ وتناسق المفردات، وهي تعكس ما ينبغي أن تكون عليه الأوضاع في مستقبل تخطيطنا، من حيث الحريات والأمن القومي والتعايش السلمي وتكامل الثقافات واحترام الحقوق وتحقيق التسامح والتضامن لجعل الوحدة جاذبة وحماية موارد البلاد البشرية والطبيعية وتطوير دعائم الاستقرار واستكمال بناء قوات دفاعية وأمنية عالية الكفاءة، بجانب انتهاج سياسة خارجية راشدة. وعموما أدناه المرتكزات كما جاءت في الاستراتيجية القومية ربع القرنية الموقرة. الحفاظ على الأمن القومي السوداني وحماية موارد البلاد البشرية والطبيعية وتطوير دعائم استقرارها السياسي وأمنها الاجتماعي. احترام الحقوق والحريات الأساسية والتفاهم المشترك، والتسامح والتضامن لجعل الوحدة خيارا طوعيا جاذبا. استكمال بناء قوات دفاعية وأمنية عالية الكفاءة ترسخ المسؤولية الجماعية للأمن وتتوافق مع مقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. انتهاج سياسة خارجية تقوم على مبدأ المصالح المشتركة مع شعوب العالم كافة، تعضيدا لقضايا السلام والتنمية. إرساء دعائم التعايش والتسامح الديني، وتوظيف النظام الأهلي في رتق النسج الاجتماعي، وترسيخ قيم الحوار بين الجماعات والقبائل، ورعاية أعراف «الجودية» وفلسفة الصلح. تعزيز مبدأ الحوار وبث ثقافة السلام والتعايش والتفاعل الإيجابي مع الثقافات المتنوعة وانتقاء ما هو خير وصالح من التجارب الإنسانية في إطار الممارسة الديمقراطية الناضجة. إرساء دعائم نظام إعلام واتصالات حر، مقتدر ومتفاعل. درء المخاطر الأمنية، ومكافحة مظاهر التفلت الاجتماعي والثقافي، ومحاولات طمس الهوية، والتحسب للمهددات الناجمة عن العولمة والمواقف الدولية المعادية. حماية الموارد الطبيعية والمحافظة علي البيئة، ونقد مرتكزات الاستراتيجية ربع القرنية :- أول مرتكز يتحدث عن الامن القومي السوداني والحفاظ على موارد الوطن واستقرار الأمن الاجتماعي، ولكن الواقع يقول غير ذلك، فالأمن القومي السوداني أصبح مهددا والتدخل الاجنبي أصبح سافرا، وأصبح القرار الوطني مرتهناً، وموارد البلاد من البترول أصبحت مرتهنة بعد انفصال الجنوب. ولم يتحقق الأمن الاجتماعي، وامتدت الحروب الى غرب السودان في جنوب دارفور واجزاء من جنوب كردفان وشمال دارفور وولاية النيل الأزرق في الطريق، وأبيي ولعت وفي الشرق تحاك المؤامرات على نارٍ هادئة. والاستراتيجية لم تنجح في هذا المرتكز الاساسي ولم تحافظ على موارد السودان القومية، ولم تحدث استقراراً سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياً. وفي المرتكز الثاني تتحدث الاستراتيجية عن احترام الحقوق والحريات الأساسية والتفاهم المشترك، والتسامح والتضامن لجعل الوحدة خياراً طوعياً جاذباً. وهذا المرتكز لا يحتاج الى كثير فهمٍ أو تأويل، فالوحدة لم تتحقق لأننا لم نمارس سياسات تجعل الوحدة جاذبة، ويبدو أن هذه النقطة مجرد أدبيات تنمق الاطار النظري للاستراتيجية، وخطورة هذا الأمر أن أطراف السودان كلها متحفزة للوثوب خارج إطار الوحدة الوطنية، الوحدة التي يستمتع بثرواتها وسلطاتها المركز دون شرق السودان وغربه وشماله الجغرافي، أقصد بذكري الشمال الجغرافي أن شمال السودان هو صاحب السلطة والثروة الأوفر من بين إثنيات السودان الأخرى .أما الحريات واحترام الحقوق والتسامح والتضامن فلم تكن واقعا نعيشه، بل الواقع يشير الى تململ الشرق واشتعال دارفور وجنوب كردفان وأبيي. أما المرتكز الثالث فيقول باستكمال بناء قوات دفاعية وأمنية عالية الكفاءة ترسخ المسؤولية الجماعية للأمن، وتتوافق مع مقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. والنتائج في هذا المرتكز لا تشير الى النجاح في تخطيطنا لبناء قوات دفاعية وأمنية ذات كفاءة عالية، والشاهد الضربات الجوية الإسرائيلية المتواصلة في عمق البلاد. وللأسف هذه التقنيات الدفاعية المتوافرة موجهة لصدور الشعب السوداني. والمرتكز الرابع يتحدث عن انتهاج سياسة خارجية تقوم على مبدأ المصالح المشتركة مع شعوب العالم كافة، تعضيدا لقضايا السلام والتنمية. ولكن نتاج سياساتنا الخارجية كان فشلاً كبيراً، وليست هنالك مصالح مشتركة بل هي إملاءات من طرف واحد، وزيادة الوجود الأجنبي بسبب الغباء السياسي، وهذه الاملاءات ساهمت في اشعال الحروب في أطراف السودان، وعزلت السودان في المحافل الدولية. وهذا المرتكز لم يحقق أو يعضد السلام والتنمية في السودان. والمرتكز الخامس يقول بإرساء دعائم التعايش والتسامح الديني وتوظيف النظام الأهلي في رتق النسيج الاجتماعي، وترسيخ قيم الحوار بين الجماعات والقبائل، ورعاية أعراف «الجودية» وفلسفة الصلح. وفشل هذا المرتكز لا يحتاج الى مختبرات معملية، فالجهوية والقبلية أصبحت أقوى وأمتن مما كانت عليه في كل العهود السابقة. أما المرتكزات السادس والسابع والثامن والتاسع، فهي عبارة عن تكرار لنفس المرتكزات السابقة بحروف ومصطلحات أخرى لا جديد فيها غير الصياغة. هذه هي الرؤية والمرتكزات التي تستند عليها رسالة الاستراتيجية القومية ربع القرنية، وتلكم هي المخرجات والواقع المرير بدون حريات وبدون رؤية واضحة في ما يحدث في حلايب والفشقة وباقي السودان.