القرار الأخير لمجلس الأمن بالرقم (2003) الخاص بتمديد عمر البعثة المشتركة بين الاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة بدارفور لمدة عام آخر وتوسيع مهامها لتشمل كل السودان على عكس ما هو متفق عليه مع الحكومة بحصر عمل البعثة المشتركة في دارفور فقط، له دلالات كثيرة ومؤشرات خطيرة تستوجب التوقف عندها بحذر ودراستها بتأني وروية. الدلالة الأولى: إلغاء سيادة الدول - فرض الوصاية المتتبع للأمور يلحظ أن هناك متغيرات كثيرة جرت على الساحة الدولية منذ انهيار ما كان يعرف سابقا ب «المعسكر الشرقي». فمنذ ذلك الحين غابت الحروب بالوكالة بين الدول لتحل ملحها الحروب الأهلية أو ما يعرف في علم السياسة اليوم ب»الحروب الجديدة». كما ارتفع عدد القرارات الصادرة عن مجلس الأمن لتفوق عشرات المرات عدد القرارات التي تم اتخاذها قبل عام 1991م، وهذا دليل واضح على خلو الساحة لعدد من الدول لتستغل آلية مجلس الأمن لتحقيق أغراضها الخاصة بشكل شرعي. وسنتناول في موضوع آخر إن شاء الله التجاوزات التي ارتكبتها الدول الكبرى ومخالفتها للقوانين التي سنتها هي بنفسها وفرضتها على الآخرين. ومنذ العام 1991م أصدر مجلس الأمن العديد من القوانين التي تمس سيادة الدول، وهو أمر لم يحدث ولا مرة واحدة خلال فترة وجود قطبين متنافسين في العالم. الأمثلة هنا كثيرة ومتعددة ولكننا احتراما لوقت القارئ نحصر نفسنا في بعض ما يتصل بالسودان- مثل تحويل ملف دارفور إلى الجنائية رغم أن الأممالمتحدة نفسها التي يتبع لها مجلس الأمن أعلنت عن عدم وجود جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية هناك، ولكن ولأن الولاياتالمتحدة تريد ذلك تم تمرير الملف إلى الجنائية رغم أن السودان ليس عضوا فيها ولم يصادق على نظامها الأساسي، ولكنها كما قلنا المصلحة الخاصة بالدول الكبرى التي تجيز سن وإصدار ما تشاء من قوانين وقرارات في سبيل حماية مصالحها وتطويع كل دولة تريد أن تقول (لا للجبروت - لا للظلم - نعم للحق - نعم للعدالة). الحكومة السودانية كانت قد وافقت طواعية على قبول القوات المشتركة في دارفور «اليوناميد» بعد أن أملت شروطها على القرار الأممي، ولكن كيف يستوي الأمر إن كان الذئب هو راعي الأغنام، وكيف يؤمن من لا عهد له ولا ذمة، فما أن انتهت فترة البعثة المشتركة هناك حتى بادر مجلس الأمن إلى التمديد للبعثة وتوسيع تفويضها، على خلاف ما كان الاتفاق عليه بالقرار رقم 1769، وذلك دون موافقة الحكومة. . الجدير بالذكر أن الحكومة السودانية موافقة من حيث المبدأ على التمديد للبعثة المشتركة ولكن في إطار تفويضها السابق. لا نعتقد إن مجلس الأمن لا يعي تداعيات مثل هذا القرار على مختلف المستويات خاصة فيما يعرف ب «سيادة الدول»، ولعلنا بهذا القرار ندخل عهدا جديدا بإلغاء هذا المصطلح الذي كان حتى وقت قريب من مقدسات السياسة والعلاقات الدولية. وإذا صح هذا الأمر - الذي سبقته شواهد كثيرة ولو بدرجة أقل- فإن الأمر لن ولم ينحصر على السودان فقط! الدلالة الثانية: زعزعة ثقة الحكومة بنفسها لا يشك أحد على الإطلاق في مساعي الحكومة السودانية الجادة في تحقيق السلام والاستقرار ليس في السودان فحسب بل تعدى الأمر إلى الوساطة بين دول الجوار والإقليم مثل أثيوبيا واريتريا، والفرقاء في الكنغو ورواندا تونس وسوريا ومصر والصومال وغيرها من المساعي. ولا ينكر أحد الثمن الباهظ الذي دفعته الحكومة في سبيل تحقيق هدفها بإحلال السلام في السودان وذلك بإتخاذها قرارات عجزت كل الحكومات الوطنية السابقة عنها مثل الموافقة على مطلب الجنوبيين القديم قدم الصراع بين الشمال والجنوب وذلك بمنح الجنوبيين حق تقرير المصر (وليس الانفصال)، وبعدها إما وحدة طوعية أو سلام مستدام في الشمال والجنوب إن هم أرادوا الانفصال. كما بذلت الحكومة جهدها في تحقيق اتفاق سلام الشرق والذي يفضي إلى تنمية وعمران ورفاهية لكل إنسان السودان، خاصة في الشرق، وهناك اتفاق سلام دارفور الذي تم التفاوض والتوقيع عليه بمشاركة وحضور من كبريات الدول والمنظمات مثل الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي وغيرهم، وتوعد المبعوث الأمريكي حركات التمرد الرافضة للاتفاق بوضعها ضمن قائمة المجموعات الإرهابية، وصدق الناس الحديث واستبشروا خيرا ووقعوا على الاتفاقية التي قال عنها نفس المبعوث أنها كاملة وأنهم لن يغيروا فيها لا شولة ولا نقطة. ولكنهم جاءوا ونكصوا ما عاهدوا عليه وآووا إليهم من رفض التوقيع على الاتفاقية بل وقدموا كل أنواع الدعم للحركات الرافضة وقووا شوكتها مرة أخرى. وبعد أن شعروا أن القوات الحكومية كادت أن تقضي على آخر فلول التمرد بدارفور، جاء آخرون من نفس الملة (ملة الكذب والنفاق والرياء) يدعون الحكومة بالصفح عما كان والدخول مرة أخرى في مفاوضات مع الحركات الرافضة التي تجاوز عددها الثلاثين حركة جلها «حركات إلكترونية» وهمية لا وجود لها على أرض الواقع. الحكومة عندما وافقت على مواصلة التفاوض لم تكن غافلة عن ما يحاك حولها ولم تكن جاهلة بنوايا بعض من دعوها لمواصلة التفاوض، فهي لرغبتها الصادقة في تحقيق السلام والاستقرار لمواطنيها على امتداد الوطن لم تدخر جهدا ولم تغلق باباً للتفاوض وإنما كانت هي الحركات المتمردة بإيعاز من بعض الدول التي ترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات وتشترط ما هو تعجيزي بقصد إفشالها. وأخيرا وبوساطة قطرية صادقة وصابرة وصالحة وبرعاية مباشرة من فخامة أمير دولة قطر الشقيقة - له ولشعبه الكريم عبر هذه الأسطر كل التحية والتجلة والتقدير من شعب السودان - كلل الله مساعي الحكومة والصادقين من أبناء دارفور بالتوقيع على «وثيقة سلام دارفور» بالدوحة. صحيح إن الحكومة فتحت الباب لمن يرغب في الانضمام من حركات التمرد لمدة لثلاثة أشهر فقط، إلا أنني أعتقد أن الحكومة تقول - لا تضيقوا واسعا. فإن كان باب التوبة مفتوحاً للعبد مهما ارتكب من ذنب في جنب الله، فمن باب أولى أن يكون باب العودة إلى الصواب وضع السلاح والانضمام إلى ركب السلام مفتوحاً للجميع وفي أي وقت. يمكن للحكومة أن تربط بعض الإغراءات المعقولة بفترة زمنية محددة، كما يمكن لها الإصرار على عدم تعديل الوثيقة، ولكن باب التوقيع عليها - نعتقد - إنه يجب أن يكون دوما مفتوحا وللجميع. [email protected]