مشاهدة مباراة لكرة القدم فرصة مواتية للتخلي عن اهتمامنا بأمور الحياة المعتادة وهمومنا ولو مؤقتا لمتابعتها... وكرة القدم هي اللعبة الشعبية الأولى في الكرة الأرضية التي تحظى باهتمام واسع كانت وماتزال محل بحث من جانب علماء النفس والاجتماع لمعرفة أسرار تأثيرها الساحر على هذه القطاعات العريضة من الناس من مختلف المجتمعات الفقيرة والغنية على حد سواء ما جعلها ليست مجرد لعبة تتم ممارستها في الملاعب كنوع من الرياضة البدنية ولكنها تتعدى ذلك إلى آفاق أخرى أكبر. مشاهدة المباريات ومتابعتها والاستمتاع بذلك فن لا يجيده الكثيرون منا، ونقول إنها مناسبة جيدة لتحقيق ترويح ذي فائدة كبيرة فنحن علي موعد لننسى همومنا مع هذه المباريات ولنخرج من قلقنا المعتاد واهتماماتنا التقليدية لنعيش أجواء المنافسة والاستماع بها، ولامانع أيضا من توجيه النقد والتعبير عن الرأي في كل ما نشاهده، وهذا التعبير وسيلة لتأكيد الذات وحرية الانفعال، ويساعد ذلك في تعميم هذا الاتجاه في مواقف الحياة الأخرى، حيث يمكن التخلص من الخجل والمخاوف الاجتماعية والانطواء والتعود على التفاعل مع الأحداث. وهذه من الأشياء المهمة لكل منا حتى يجدد النشاط ويبعث في جسده ونفسه الطاقة والحيوية ليعود إلى مواصلة العمل، وقد يفهم بعض منا الراحة على أنها الخلود إلى الهدوء والكسل، غير أن مفهوما آخر للراحة يجعلها قضاء الوقت بصورة أكثر إيجابية وفاعلية بعيدا عن أجواء المسؤولية والعمل ولكن في إثارة ونشاط بدني وذهني بناء. كرة القدم لعبة جماعية من حارس المرمى وحتى آخر المهاجمين عبر خطوط مختلفة يبنى كل واحد منها على ما يقوم به الآخر ومدى تماسكه في أداء المهمة. هي مثال المجتمع الذي نريده في أنقى وأصفى صورة. والمجتمع في أنقى وأصفى صورة يقوم على: الخلق الثابت الرفيع، الثابت الذي لا يتقلب، والرفيع الذي لا يتدنى.. وليست العقيدة ولا العمل ولا العبادة ولا القضاء.. و.. و إلا طرائق وذرائع ومعارج متعددة متنوعة إلى الخلق الثابت الرفيع.. مثلا: بين المسلمين وبين رمضان الذي انقضى أيام معدودة. وما إن يهل هلاله حتى يصومه المسلمون.. فما الحكمة العليا من الصيام؟.. هي الخلق السامي.. «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». «ليس الصيام عن الأكل والشرب. إنما الصيام عن اللغو، والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم». لهذا، يلزم أن تكون قضية الخلق حاضرة في كل شأن ذي علاقة بالإنسان، ذلك ان مثل هذه الشؤون حين تناقش بمعزل عن الخلق، تبدو وكأنها تستدبر الهدف. وتطرح الغاية وراء ظهرها، وتجرد الموضوع من معناه خسر الهلال مباراتيه أمام القطن الكاميروني وإنيمبا في كرة القدم وخرج قبله نده نادي المريخ من البطولة الأفريقية وبدلا من أن تبحث الأطراف المختلفة الأسباب الحقيقية للخسارة او الخروج ويتناصحوا، لجؤوا للشماتة والتشفي من بعضهم بعضا. بداية: الشماتة ليست تفسيرا سليما، ولا سلوكا أخلاقيا قويما تجاه تلك الهزائم. .ان الأصل هو محبة الخير والسعادة للناس: جميع الناس، وإلا لما تنزلت الكتب، وبعثت الرسل.. ان الدين هو لخير الناس وسعادتهم ورحمتهم وإزالة الشقاوة عنهم.. ومما لا ريب فيه ان الشماتة بهم: لكرب نزل بهم، سلوك متناقض مع هذا الأصل أو المقصد الديني العظيم. كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل يومه بهذا الدعاء: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك».. إن النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي اتسع قلبه للبشرية كلها: يشكر ربه بالنيابة عن كل الناس وكل مخلوق على كل نعمة أسبغها الله على كل انسان، وكل مخلوق.. فإن تعبير (أو بأحد من خلقك): ينتظم جميع الناس، وهم المقصود الأول.. نعم جميع الناس ، فالله رب الناس أجمعين، لا رب الهلالاب وحدهم ولا رب المريخاب وحدهم... والنبي هو ابلغ البلغاء، بلا ريب، وحين يقول (أو بأحد من خلقك)، فإنه يقصد المفهوم الإنساني العام بالضبط والتحديد.. وشكرا لله على النعم الذي يزجيها للناس كافة.. والنبي الذي يشكر الله على كل نعمة نالها إنسان: أتراه يشمت بمن نزل به ضر وكرب من الناس؟.. لا..مليون لا.. فقلب: هذا صفاؤه، وهذه رحمته لا يتسع للتشفي والشماتة.. ان الفرحة بكل نعمة يسبغها الله على أي انسان يقابلها كراهية ان يحيق بالناس كرب أو بلاء أو تعاسة، وليست تجتمع الرحمة الغامرة، والقسوة الشامتة في قلب واحد. نعلم من القرآن: ان الشماتة او الفرحة بمصائب الآخرين هي من اخلاق غير الاسوياء: أولئك الذين اعتلت نفوسهم واختلت مقاييسهم فطفقوا يحترفون الابتهاج بمصائب الآخرين: «ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها». فكيف يكون الأشخاص الأسوياء ارقى اخلاقيا من غير الاسوياء هؤلاء اذا هم قلدوهم في هذا الشعور الغريب المعيب: شعور الفرحة بهزيمة الهلال .. (المريخ)؟.. وشعور الاكتئاب بسبب نعمة انتصار اسداه الله الى المريخ .. (الهلال)؟ في الشماتة معنى خبيث من معاني الحسد.. يقول ابو حامد الغزالي: (وهذا أشد أبواب الحسد، فان من خالفه شخص في غرض بوجه من الوجوه: أبغضه قلبه، وغضب عليه، ورسخ في نفسه الحقد.. والحقد يقتضى التشفي والانتقام، فان عجز عن ان يتشفى بنفسه أحب ان يتشفى منه الزمان... ، فمهما اصابت عدوه بلّية فرح بها، وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه، وانها لأجله، ومهما اصابته نعمة ساءه ذلك لانه ضد مراده). ومن المعلوم في دين الاسلام بالضرورة ان الحسد محرم ولو لم يكن في الشماتة الا معنى الحسد: لوجب على المرء التطهر منها فورا. أُمر المسلمون بالخطاب الجميل الحسن الى الآخرين: (وقل لعبادي يقولوا التي هي احسن). (ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). (وقولوا للناس حسنا). وللخطاب الجميل مداخل ومفاتح نفسية وخلقية، في مقدمتها: اللين واللطف والشعور الانساني النبيل الراقي، والكلمة المبشرة الواعدة، والتبسم، والبشاشة، ودفء العاطفة، والاكتراث الجم بهموم الناس ومشكلاتهم والتفاعل الصادق معها.. والشامت محروم قطعا من هذه المحامد والمكارم والمراقي. وأخيرا: من أرقى مقامات التوحيد: اثنان: عبادة الله وحده لا شريك له.. والإحسان إلى خلقه.. والمقامان وردا في سياق حديث نبوي واحد حيث اقترنت التقوى «اتق الله حيثما كنت »، بالإحسان إلى الناس «وخالق الناس بخلق حسن». والشماتة ليست إحسانا إلى الخلق، بل هي إساءة إليهم، فهي من ثم سقوط شنيع عن مقام عال من مقامات التوحيد والايمان. نسأل الله لنا ولكم أن نكون في أعلى مقامات التوحيد والإيمان.