ان لتقسيم ساعات اليوم مزايا وخصائص تميز كل ساعة عن أخرى وتبعا لذلك يكون وقعها على نفوس الناس فللصباح ألقه وللنهار بواعثه وللأصيل ابداعاته وللغروب عِبراته وعَبراته وللمساء هدوئه وسكونه فغدا كل توقيت من اليوم باعثا وملهما لقرائح الشعراء وقدرة فائقة في اجترار الذكرى حتى في الساعات التي يفترض فيها خلود الناس للنوم وليس «في عز الليل ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وتنوم أنا مساهر» ببعيدة عن الآذان قصية عن الوجدان. ولعل للغروب ما يميزه عن سائر ساعات اليوم الذي ينقسم بين النهار والليل لما يجسده الغروب من قنطرة أو محطة للتسليم والتسلم بين النهار والليل فتودع الشمس الأرض وتطوي أشعتها لتتوارى في حياء وهدوء فلكأن بها تصيح لليل أن أقبل فقد أدبر النهار، فعند الغروب تأوي الطيور الى أوكارها وتقصد العصافير أعشاشها وفيه يضع الانسان عناء النهار الذي أثقل كاهله فيجهز نفسه حسيا ومعنويا للخلود للراحة وطلب الاستجمام كما أن لمنظر الغروب وقعه الخاص في النفوس فهناك من يرتبط عنده بالرهبة جراء دنو مقدم الليل الذي يستره الظلام فينقاد اليه الهدوء دون كبير عناء فمع الغروب تفور القرى وتزدحم المدن جراء تسابق الكل الى مخدعه بقية الوصول الى مضجعه حتى أن أسراب الطيور في الفضاء تلحظها تضرب أكبادها فكأنها تعلن للملأ أن حان وقت الرجوع وتوقف عجلة الرزق الذي تمتد رحلته مع شرق والشمس وتنتهي بغروبها وفي الريف يتسابق الزراع والرعاة في العودة الى منازلهم بعد يوم من العمل الشاق في الخلاء والحقول فتسمع أصوات المواشي تملأ أرجاء القرية والزراع بدوابهم التي قوامها الحمير وعربات الكارو يزخمون الشوارع هكذا صورة يرسمها الغروب على صعيد الحياة المادية والمعيشة اليومية بيد أن لمنظره والشمس تغير لون أشعتها فتضاهي التبر اصفرارا في لحظاته الأولى والنحاس احمرارا بعد تغلغله حتى شبه بعض الشعراء لون أشعة الشمس عنده بالكرز كما أنه وما يستدعيه من تهيوء لولوج الليل ومنظره البديع يسد الأفق مقدرة على استدعاء الذكريات واتخاذ العبر وذرف الدموع والعبرات لمن أرهف حسه وأمعن بصره واتقدت بصيرته ، ولعل خليل مطران قد اقتصر الطريق لكل متابع لمناقب ومتاعب الغروب المعنوية والحسية بنظمه البديع واعلانه للاندهاش والانبهار في حضرة الغروب بقوله : يَا لَلْغُرُوبِ وَمَا بهِ مِنْ عِبْرَةٍ لِلْمُسْتَهَامِ ! وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي أَوَلَيْسَ نَزْعَاً لِلنَّهَارِ ، وَصَرْعَةً لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ ؟ أَوَلَيْسَ طَمْسَاً لِلْيَقِينِ ، وَمَبْعَثَاً لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائِلِ الظّلْمَاءِ ؟ أَوَلَيْسَ مَحْوَاً لِلوُجُودِ الَى مَدَىً ، وَاِبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ ؟ حَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيدَاً لَهَا ، وَيَكُونَ شِبْهَ البَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِ فهل وقفت عزيزي القاريء عند الغروب وبلادنا تزخر بالموارد الطبيعية ومفاتن الجمال ويا جمال النيل والخرطوم بالليل أم أن مشاغل الحياة جرفتنا فأنستنا الكثير ؟