إن الحديث لم ينته ولكنَّ الوقت قد فات.. فالآن أرجو الإنصات عندما أروي لكم القصة عن ذكراه: كان جمال محمد أحمد نسيج وحده، ولد وقضى مطلع الصبا في بيئة «سرَّة شرق» من ريف وادي حلفا الشمالي، وهناك تربى على الثقة في النفس والاعتداد بها وعلى قوة الشخصية وذلك من خلال تراث والدته (ست فاطمة) التي كانت أكثر شهرة وأعلى مقاماً من الرجال حيث عُرفت بالكرم وقوة الشخصية. ومن بيئته الريفية البسيطة عرف جمال النظافة نظافة البدن ونقاء الخُلُق. وكانت المحطة الثانية التي أثرت فيه هي رحلته من «سرَّة شرق» إلى أكسفورد إحدى قلاع الإنجليز التقليدية في اللغة والآداب والمعارف وأسس الحكم، أما المحطة الثالثة فكانت بيروت الست?نيات، مورد الثقافة العربية وحرية الفكر وموئل الشعراء والكتَّاب ومقهى الجمال والأناقة. ولا غرو أن جمالاً أصبح عنصراً مهماً في الجماعة الأدبية البيروتية ورقماً يُشار إليه حتى في غيابه حينما وصفته إحدى الأديبات الشهيرات بأنه «كان أجمل الرجال حتى وكأنه تمثالٌ فرعونيٌّ وُضع في واجهة المتاحف». في أديس أبابا عاصمة إفريقيا الجديدة وفي ستينيات القرن الماضي حين وُضع أساس منظمة الوحدة الإفريقية التي أنهت صراع الثقافتين الفرانكفونية والآنجلوفونية وحيث نما الأمل في إفريقيا المتحدة القوية: أديس أبابا التي كانت في كنف الإمبراطور هيلاسيلاسي حيث كانت الطقوس القديمة تمازج الحداثة وحيث الثقافة الإنسانية بدأت تنتعش وتشهد قاعة الجامعة ومقرها القصر الإمبراطوري تمثيل مسرحية الكاتب المسرحي تينيسي وليامز (معرض الوحوش الزجاجي) Glass Menagerie أنصف جمال محمد أحمد الإمبراطور هيلاسيلاسي في تقييمه الذي قال فيه إن نخب أديس أبابا وإفريقيا لم تنصف رجلاً تبنى تعليم الصفوة في بلاده تلك الصفوة التي تحدث التغيير وتبني الدولة ( وللأسف لم ينصفه السودانيون كذلك). لقد كان الإمبراطور بصنيعه التعليمي يردُّ على الفاشست موسوليني الذي ادعى في عصبة الأمم أن سبب احتلاله لإثيوبيا كان هو الجهل والأمية التي تغوص فيهما البلاد. عندما تبوأ جمال الإدارة كان متعدد الاهتمامات إذ نهل من كل نبعٍ قطرة وأخذ من كلِّ حديقةٍ زهرة، وكان يرى في إتقان العمل سداً ضد انحراف الساسة وجهله?، فهو لم يخرج من عباءة الطائفية ولا من التبعية العقائدية الآيديولوجية. فجمال محمد أحمد سبر أغوار المجتمع الإنجليزي بالاختلاط في حياته الاجتماعية والأدبية وتعرَّف على قادة الفكر والرأي والمؤسسات التابعة التي أصبحت فيما بعد عوناً له ولأصدقائه وللمؤسسات السودانية التي خدمها. وكان يرى أنَّ على قادة الخدمة المدنية أن يتأهلوا لبناء الدولة وذلك كما ذكرنا ببناء القدرات ورفع الكفاءات، كما كان يرى في وكيل الوزارة القائد والمرشد وعليه ألا ينفذ قرارات الوزير إذا كانت خاطئة. وقد أعطى جمال المثال باستقالته عندما ا?تلف مع أحد الوزراء القياديين والذي كان معروفاً بالحدّة في الرأي وإطلاق الأحكام جزافاً مما جعل مجلس الوزراء يتدخل ويحسم المشكلة بمناصرة رأي جمال محمد أحمد. ولكن للأسف أن تكريس القيادة الصلبة من أمثال جمال محمد أحمد في الحقل الوظيفي لم يمنع السياسيين من الانحراف كما أنهم لم يتأهلوا لبناء الدولة، وكانت قدراتهم السياسية موجهة نحو إتقان اللعبة السياسية، الشيء الذي أودى بجهود الخدمة العامة وتقاليدها التي أرساها جمال محمد أحمد وصحبه. والمعلوم أن المثقفين قد ساندوا كل أهل الحكم في السودان مدنيين أو عسكريين ونسوا أ? قيم الخدمة العامة مستمدة أساساً من الحرية الأعم والأشمل وليس من الحرية الانتخابية وحدها إذ كان أول ضحايا غياب الحريات هي الخدمة المدنية، فبسبب جنوح الساسة تم تشريد حوالى مائة ألف من الموارد البشرية المدربة والمؤهلة في مختلف فترات الحكم الوطني منذ الاستقلال وقُضي على مؤسسات الخدمة المدنية الراسخة. ورغم كل هذه العقبات فإن معين جمال لم ينضب، ففي مجال السفارة ترك أثراً لمن بعده، فالذي يطلع على مهمته التي كلفه بها رئيس الوزراء آنذاك المرحوم محمد أحمد محجوب للفاتيكان «بشأن موضوع الجنوب» سيجد وصفاً غنياً بالإيحا?ات منذ أن وطئت قدمه عتبة الفاتيكان ومقابلته للسكرتير العام للفاتيكان. فإذا اطلعنا على وصفه وإيحاءاته بما بدر من سكرتير الفاتيكان لسَبَرْنا غور ما حدث وما سيحدث بالنسبة للجنوب. كان جمال عندما يكتب تقريراً تجده يتصف بالشمولية مما يجعلك أن تجد فيه ما يعنيك حتى ولو كان في مجالٍ في غاية الاختصاص كمجال العمل والإنتاجية. نعم، لقد أتى جمال في فترة كان فيها المثقف متعدد الاهتمامات، وواحدة من اهتمامات جمال تركزت في الأدب الذي من خلاله تعرَّف على قضايا الشعوب وتاريخها وتطوراتها الحضارية خاصة الأدب الكلاسيكي الذي يعتب? مرآة هذه الشعوب، لذا كان جمال ينصح الدبلوماسيين بالاطلاع على آداب الشعوب قبل الاطلاع على قوانينها ومعاييرها الدولية التي تحكمها. كان يرى في وحدة السودان قوة وفي وحدة إفريقيا قوة، ولم يكن يبني ذلك على ثقافة بعينها وإنما على مصادر القوة انطلاقاً من الحكمة البسيطة (القوة في الوحدة). وعلى هذا الأساس كتب جمال عن «وحدة إفريقيا» وعن «وحدة دول حوض النيل» كما سبق أن كتب عن «الدولة وأركانها الفكرية» وهذا شيء مهم لأن كثيراً من المثقفين السودانيين لا يفرِّقون حتى الآن بين الدولة والحكومة. رغم كل هذه الاهتمامات المتعددة لم يغفل جمال تأديب أسرته فأخذ أفراد أسرته من معينه الثر فتشكلت منهم باقة رائعة من الأدب والاحترام والإنجاز إذ أصبح كثيرٌ منهم يتبوأون مواقع مرموقة في امكنة عالية في الداخل والخارج. ألا رحم الله جمال فقد كان من أصحاب العقول القلائل الذين تطيب بهم المجالس وتلذ في ناديهم المحادثة وكأنه واحدٌ من الذين عناهم الشاعر حين قال: فما بقيتْ من اللذات إلا محادثة الرجال ذوي العقولِ وقد كنا نعدّهُمُ قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليلِ * الوكيل الأسبق لوزارة العمل والخدمة المدنية والخبير الاستشاري لمنظمة العمل الدولية ومديرها (سابقاً)