بعد شهر او ما يزيد عن الشهر من رحيل إدوارد سعيد، كانت الصور التوثيقية التي صادف ان رأيتها له قد التقطت حديثاً، وتبدو مألوفة بالنسبة لي، لم تضف هذه الصور شيئاً الى الصور الموجودة اصلاً في مخيلتي: إدوارد سعيد يجلس الى طاولة مكتبه، يتفحص ما حوله من خلال نظارته، يبدو مستغرقاً في التفكير وصارماً.. يبدو لاهياً وجزلاً، كان ملتحياً ونحيلا وغائر العينين ويبدو مثل حكيم انهكه صيام طويل، كان أمرد ويبدو أكثر صحة ونشاطاً، فقط كان تعبا بعض الشيء، كان سعيد في معظم هذه الصور يرتدي سترة وربطة عنق «صورة المثقف» وهو يرفل في ك?مل حلله تلبية للقاءات لا تنقطع مع الجمهور.. حتى صورة ذلك «الطفل» الذي كانه إدوارد التي تزين غلاف كتابه «خارج المكان» وتظهره منزوياً ووقوراً وتخالجه الأفكار على نحو مستمر، كانت تبدو مألوفة بالنسبة لي. لذا فإن ما اتحدث عنه ليس باية حال من الاحوال الانتقال من ملمح الى آخر بفعل مرور الزمن، وبعدها وفي ذات يوم شاهدت فيلماً قصيراً يظهر إدوارد سعيد وسلمان رشدي وآخرين في مناظرة بجامعة كولومبيا، على ما اعتقد لم تكن اللقطات المجمعة بذلك القدم، واظن انها تنتمي الى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. لكن إدوارد كان يبدو في هذه اللقطات كمن يحتضر في شبابه، الأمر الذي اوقعني في ارتباك كلي وورطة يائسة، كان يبدو كما لو كان يموت ميتة ثانية. ماذا حدث وما الذي دفعني للقول: «بأنه يحتضر في شبابه»؟ اظن أن هناك عناصر متعددة ومختلفة بعض الشيء قد بدأت بالانخراط في لعبة، احد الاسباب التي دفعتني لهذا القول هو أنه رغم تفكيري المستمر في إدوارد طيلة تلك الاشهر والاشهر التي اعقبتها منذ تعرفي اليه في عام 4691م قبل اربعين عاما تقريباً، كان إدوارد يعني بالنسبة لي صوتاً وحضوراً جسدياً ومصدر طاقة وصداقة وافكاراً اكثر مما هو صورة مرئية. كنت أحسه واسمعه اكثر مما أراه، او ربما كنت اراه لكنني كنت أرى فيه تلك الذات الخفية اليانعة التي ننسبها لأناس نتعرف عليهم ونحبهم ونحن نخطو في دروب العمر. ثمة سبب آخر يشكل عنصراً هو الوسائط التي تنقل لنا تلك الافلام والصور الفوتوغرافية الافلام، فكلاهما شكل من اشكال الذاكرة لكنهما لا يمتلكان اللطف والاستمرارية اللتين يتمتع بها الاسلوب الذهني المحض، انهما يستحضران على نحو قاس معالم اللحظة وطريقة اللباس والايماءات واتخاذ الوضعية، وما سماه لويس بانيول ب «الجغرافيا الطبيعية للوجوه». إنهما يؤرخان للتفاصيل كما لو كانا وكالتي تسجيل تعملان لصالح الزمن، ان الصور والافلام لا تقول فقط «لقد حدث هذا» كما يقول رولان بارط عن الصور ولا يقولان فقط هذا الشخص قد كان هناك بل يقولان «هذا الشخص وفي هذه البرهة بالذات هو الشخص ذاته ولا احد سواه». لكننا ربما نحتاج بعد ذلك الى ان نميز ايضا بين الصور الثابتة والصور المتحركة. الصورة الفوتوغرافية هي تذكرة بالموت، كما يقول رولان بارط، وتكمن رسالتها في أن هذا الشخص الذي وقع فريسة لبرهة التصوير لن يعود اطلاقا الى هذه البرهة، وفي يوم ما سيموت، الصورة السينمائية تمنح ذات الرسالة ولكن بطريقة اخرى مثيرة للشفقة «الحركة هي جوهر الحياة»، كما أعلن بوليستين ماري، رغم انه كان في تلك الاثناء منهمكا في محاولات دؤوبة لتجميد الحركة حتى يتسنى له ان يراها كيف تعمل. ولأن الصورة السينمائية تتحرك، فإنها تؤكد على الوجود الفعال للحياة فضلاً عن الوجود الإنساني المحض الذي يستمر في العيش على نحو قدري ومفع? بالحياة وغير آبه بالموت. ومن هنا يتضح أن الأفلام تبدو وكأنها خلود مقدس وموكب ذوات عاشت في السابق وليس بامكانها ان تموت. لكن لا يوجد شيء في كل هذا يقودنا الى ما وراء حقيقة الفيلم الذي يظهر سعيد وسلمان رشدي. هذا جزء من الصدمة التي أعانيها، وهناك المزيد مما شاهدته في ذلك الفيلم، وما تسنى لي ان اشاهده في صور أخرى تمثل جوانب عديدة من مراحل حياة إدوارد سعيد. وما شاهدته أخيراً من مجموعة افلام حديثة وقديمة صورت في مناسبات تذكارية متعددة لم يكن ببساطة هو «الماضي» ولا هو أمثلة من حياة إدوارد المتغيرة ولا هو شيء يذكرني بالزمن، فأنا لم انس الزمن وما يحدثه من تغيير، ربما اكون فقط قد نسيت التفاصيل.. ما رأيته في ذلك الفيلم هو أشكال بشرية ?تحرك في ملتقى مليء بكل ما هو خفي، بيد أن الحدس البشري بإمكانه أن يلتقط كل هذا الخفاء واللحظة التاريخية لتكثيفه، ويلتقط منه ايضا ما اتى بإدوارد وسلمان رشدي سويا من مصر والهند واميركا وانجلترا، كما يمكن للحدس البشري ان يلتقط ما يفرق بينهما. الماضي يركض نحو الحاضر ويرتمي في احضانه، لكن الصورة السينمائية كانت مليئة بما لم يحدث حتى الآن، او ربما حجبها عن مرأى ذلك الكائن الذي عرفت ما سيحدث له. لم يكن كل ما حدث أخيراً لإدوارد يتسم بالفظاعة، لكن بعضه كان كذلك، لقد عانى إدوارد من بعض تلك الفظاعة سياسياً وشخصياً. كان التاريخ يمضي في تراكمه منذ أن التقطت صور ذلك الفيلم، أعتقد أن ذلك ما عنيته عندما قلت: «كان إدوارد يبدو كمن يحتضر في شبابه»، لم يكن يحتضر!! وفي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن إدوارد شابا على الاطلاق، بل كان يعيش في عالم آخر، العالم الذي كان عالمه وعالمنا ذات مرة. كان ذلك عالما مليئة خزائنه بامكانيات مستقبلية ليست سرمدية لكنها لم تكتب في سجل ما هو فانٍ ومحدود، امكانيات، تبدو ?ثل شرخ الشباب بحيث يمكن استعادتها في كل لحظة. هذه الامكانيات سواء أكانت ماثلة للعيان او خافية فإنها لا تنفك أن تكون مثل شرخ الشباب، ما يحتضر او ما سيحتضر، اذا لم نستطع ان نخرج انفسنا من هذه الحالة النفسية، هو فقدان هذه الإمكانيات او اعتقادنا بأن الآخرين لا يقتفون خطاها. هذا هو المكان الذي نحتاج الى ان نضع فيه صدماتنا وأحزاننا، لكي نعمل لا لكي نحتمل الأحزان. كان إدوارد ولعاً بالاقتباس من موضوعات ثيودور أدورنو التي تدور حول الموسيقى الحديثة. كان يقتبس مقطعاً مثل: «إن رسالة اليأس المتشبث بالحياة عادة ما تنبعث من حطام السفن» لقد شهد إدوارد حطام سفن عدة، خاصة السياسية منها، واعترف بلسطة يأس ادورنو الخاص، لكنه اعترف به لكي يمضي قدماً. إن اعمال إدوارد سعيد وحياته تدعوانا في المقام الأول لكي نفكر لا في الشباب المضاع ولا في الامكانيات المتلاشية، انما في الاصرار على التمسك بالأمل رغم حلكة الأزمنة، سنحتضر حقيقة ونشيخ عندما نفقد الأمل. كلنا يفعل ذلك في بعض الأحيان، لكننا عندما نفقد فكرة الأمل فإننا نفقد فرصة إرجاعه. ٭ استاذ جامعي وناقد اميركي