قلت في الجزء الأول من هذا المقال الذي نشر فى جريدة «الصحافة» عدد الأحد 24 سبتمبر 2011م، إن واقع جنوب كردفان معقد وحساس ويتطلب مقدارا كبيرا من الحكمة والابتعاد عن الرعونة والعنتريات الجوفاء، كما يتطلب الحزم والحسم وعدم التردد فى اتخاذ وإنفاذ القرارات التي توقف التدهور وتحقق الأمن والاستقرار، انطلاقا من بعض الحقائق الأساسية، منها ان المزيد من التدهور وعدم الاستقرار فى جنوب كردفان سوف يفتح الأبواب لتدخل قوى الشر التي تريد تفكيك وتقطيع السودان، كما قلت فى نفس المقال إن أسوأ ما يمكن ان يحدث هو المماطلة والتردد?فى اتخاذ وإنفاذ القرارات التي يتوقع أن تؤدى إلى إيقاف تدهور الأمن والاستقرار فى الولاية، ويأتي فى مقدمة تلك القرارات أن يصدر الرئيس عمر البشير قرارا بتعيين حاكم عسكري للولاية لمدة لا تزيد عن ستة شهور، حتى يتاح لنا نحن أبناء الولاية التشاور والاتفاق على شخص واحد من أبناء أهلنا النوبة لنرشحه ونصوت له نحن جميعا نوبةً وعرباً وفلاتة الخ، فى انتخابات لمنصب الوالي تجرى بعد انقضاء فترة الشهور الستة. وذلك لأن واقع جنوب كردفان لا يحتمل المزيد من الاستقطاب والاصطفاف العرقي او السياسي. أمريكا على الباب: وكما يعرف القارئ الكريم لم تتخذ حكومة السودان القرارات التي يتطلبها إيقاف تدهور الأوضاع الأمنية فى جنوب كردفان، مما أدى الى فتح أبواب التدخل الخارجي فى الشأن السوداني. فقد نشرت جريدة «الصحافة» فى عددها ليوم الخميس الثالث من نوفمبر 2011م، أن الإدارة الأمريكية قد تقدمت الى حكومة السودان بمقترح يتعلق بوضع حد للحرب بولاية جنوب كردفان، ويقضى المقترح بتقسيم الولاية الى ولايتين ولاية جنوب كردفان ويكون على رأس جهازها التنفيذي والٍ تعينه الحركة الشعبية، وولاية أخرى باسم ولاية غرب كردفان تقوم الحكومة المركزية بتعيين?من ترى ليكون واليا عليها. وقد جاء فى الأخبار أن حكومة السودان قد رفضت المقترح لأنه غير موضوعي ويرمى إلى تمزيق السودان. ويبدو لي أن موقف حكومة السودان اقرب الى التمنع منه الى الرفض الصريح. وقد ترضخ حكومة السودان للمقترح الأمريكي لأنه ينسجم مع الشعار الذي رفعه حزب المؤتمر الوطني ومرشحه لمنصب والى الولاية أحمد محمد هارون بإعادة ولاية غرب كردفان فى حالة فوزه بمنصب والي الولاية. كما أن حكومة السودان قد اعتادت كلما تقدمت إليها الإدارة الأمريكية بمقترح أن ترد أولاً بالتمنع ثم تستسلم لاحقاً. ولكن ما هى فرص نجاح ذ?ك المقترح وما هي مآلاته السياسية؟ اقتراح ساذج وبائس: أعتقد أن اقتراح الإدارة الأمريكية بتقسيم ولاية جنوب كردفان لإنهاء الصراع والاقتتال فى الولاية اقتراح ساذج وبائس، انه اقتراح ساذج لأنه يقفز فوق الكثير من الحقائق الموضوعية الأساسية، وبائس لأنه لن يقود إلى حل المشكلة. الاقتراح ساذج للأسباب الآتية: أولاً: يقوم الاقتراح على افتراض ضمني بأن سكان غرب كردفان وهم أهلي المسيرية يدينون بالولاء للمؤتمر الوطني، وان سكان بقية الولاية يدينون بالولاء للحركة الشعبية. وهذا افتراض خاطئ تماماً، وذلك لأن الولاء السياسي لسكان الولاية موزع بين عدد كبير من الأحزاب، كما ان وقوف اغلبية القبائل العربية فى الولاية الى جانب المؤتمر الوطني فى الانتخابات التى جرت فى عام 2010م، جاء بسبب خذلان قيادة حزب الأمة لجماهير الأنصار وحزب الأمة فى جنوب كردفان بالانسحاب من معركة الانتخابات، مما ترك أمام تلك الجماهير خياراً واحداً للحيلول? دون فوز الحركة الشعبية الكاسح، وذلك الخيار هو التصويت للمؤتمر الوطني. وقد يعرف القارئ أن عداء أغلبية العنصر العربي فى جنوب كردفان للحركة الشعبية ليس بسبب التركيب العرقي للحركة الشعبية، بل يعود إلى تصرفات الحركة قبل اتفاقية السلام فى 2005م بالاستيلاء بقوة السلاح على أموال الناس من مواشٍ ومحاصيل زراعية بغرض الحصول على الغذاء والمال، ولوجود أصوات متطرفة داخل الحركة تقول بأنه لا مكان للعرب في ولاية جنوب كردفان. وهنالك اعتقاد قوي وسط العرب من سكان جنوب كردفان بأن السيد عبد العزيز الحلو يقف على رأس تلك القوى ال?تطرفة، وينسب إليه انه قد اجتمع مع أبناء الفلاتة بجنوب كردفان وطلب منهم التحالف مع الحركة الشعبية ضد العرب. وثانياً: الاقتراح الأمريكي لا يتناول الأسباب الرئيسية لمشكلة جنوب كردفان من إحساس عميق بالتهميش والظلم وسط كل سكان الولاية من نوبة وعرب وفلاتة وهوسة الخ، ولكن بدرجة أعلى وسط أبناء النوبة، ووجود استقطاب سياسي وعرقي حاد، ووجود كراهية عنصريه. كما أن ولاية جنوب كردفان وبحكم موقعها ومواردها قد صارت عنصراً رئيسياً فى معادلة التوتر والصراع بين شمال السودان وجنوب السودان، وانه من الصعب تصور إيجاد أمن واستقرار فى جنوب كردفان بدون إزالة التوتر والصراع بين دولة جنوب السودان ودولة شماله. وثالثا: كيف يجوز عقلا أن تقوم الإدارة الأمريكية بتوزيع الولاء السياسي لسكان جنوب كردفان وتبعيتهم بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وكأن سكان ولاية جنوب كردفان قطيع من الغنم. والاقتراح الأمريكي بائس ولا يتوقع أن يقود الى حل، لأنه يتجاهل الأمور الأساسية التى أشرت إليها في ثانياً أعلاه. وهي الإحساس بالظلم والتهميش والاستقطاب والاصطفاف السياسي الحاد والتوتر والصراع بين شمال السودان وجنوب السودان.. إذن ما هو الحل؟ إن الخطوة الأولى باتجاه الحل هي أن يدرك حكام الخرطوم وعمر البشير بالتحديد، أن حياة أغلبية سكان جنوب كردفان قد تحولت الى شبه جحيم، ولا يوجد أمن، ويتم اصطياد الناس مثل الأرانب، وصار الاعتداء على الأموال حدثاً يومياً، وهنالك هجرة من مدن وقرى الولاية إلى غيرها من الولايات خاصة شمال كردفان والخرطوم. وهذا الواقع يتطلب من عمر البشير شخصياً قرارات سريعة تتجاوز صراعات اجنحة حزبه التى يسمع بها الناس من جناح لزيد وجناح لعبيد، وغيرهم من الذين ليس لاى منهم فى جنوب كردفان أب أو أم ولا خال ولا خالة ولا عم ولا عمة ولا أخ ?لا أخت، ولا زرع ولا بقرة. والخطوة الثانية هي أن يدرك عمر البشير أن تمسكه بالسيد أحمد محمد هارون والياً لجنوب كردفان سوف يؤدى إلى تأزيم الموقف وتصعيد الحرب وتعميق جراح الناس. فالسيد هارون يتحدث بلغة واحدة وهى لغة الرصاص. وهذه اللغة وأعني الحرب والمزيد من الحرب، لن تؤدى إلى حل، ولا يتوقع أن تحقق الحكومة انتصارا كاملا. وسوف تؤدى الحرب إلى المزيد من الموت والدمار كما حدث في جنوب السودان القديم. والخطوة الثالثة هى أن يدرك عمر البشير والذين حوله أن الانتخابات التي تقوم على التنافس المفتوح الذي فيه منتصر ومهزوم، ليست دائماً الحل الأمثل لحسم النزاع السياسي على الكراسي، خاصة فى حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي له أبعاد دينية أو عرقية. ويفضل فى مثل تلك الحالة البحث عن حلول تقوم على التوافق وتحقيق الانتصار للجميع والهزيمة لأسباب الفرقة والدمار. والخطوة الرابعة هي أن يدرك الرئيس عمر البشير والذين حوله، أن تمنعهم لن يحول دون تدخل الإدارة الأمريكية فى الشأن السوداني، وان الوسيلة الوحيدة لمنع ذلك التدخل هى وضع حد ونهاية للاحتراب فى جنوب كردفان وتحقيق الأمن والاستقرار، ويتطلب ذلك قرارات يصدرها عمر البشير اليوم وليس غداً. فما هي عناصر تلك القرارات؟ أولاً: إعلان حالة الطوارئ فى جنوب كردفان. ثانياً: تعيين حاكم عسكري لولاية جنوب كردفان لمدة لا تزيد عن ستة شهور. ثالثاً: أن يقوم الحاكم العسكري بتكوين حكومة للولاية تحتل الحركة الشعبية نصف مقاعدها «50%». رابعاً: دعوة المجلس التشريعي للولاية الى الاجتماع، على أن تتقاسم الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني رئاسة المجلس واللجان بالتساوي، أى 50% لكل منهما. خامساً: دعوة أبناء الولاية ممثلين فى أحزابهم وتنظيماتهم الأخرى إلى النقاش والتفاكر والاتفاق على شخص واحد من أبناء الولاية ومن أهلنا النوبة، ليتم التصويت له فى انتخابات لمنصب والى الولاية تجرى بعد ستة شهور. وأنا اعتقد أن هذه مسألة مهمة جدا لتفادي المزيد من الاستقطاب والاصطفاف العرقي والسياسي. فمن المهم جدا الاتفاق على شخص يكون على درجة عالية من الجدارة المهنية والنزاهة، ويتمتع فى نفس الوقت بروح التسامح والاعتدال، ويؤمن بحقوق كل سكان الولاية من نوبة وعرب وفلاتة وغيرهم، ويكون ولاؤه للولاية وسكانها الذين انتخ?وه وليس لسلفا كير أو عمر البشير. سادساً: إجراء تحقيق عادل ونزيه فى أحداث السادس من يونيو 2011م لتحديد الطرف الذي بادر بالاعتداء المسلح. وسوف تتيح تهدئة الأوضاع فى الولاية الفرصة لأبنائها للتصدي للاستقطاب والكراهية العنصرية، وتوجيه طاقاتهم للمطالبة بحقوقهم كاملة وللسلام والتنمية في الولاية.