أحزاب المعارضة التي تدخرها الشعوب بديلاً للحكومات التي تعجز عن انجاز مهامها وواجباتها تجاه خدمة مختلف قضايا مواطنيها، يفتقر الشعب السوداني لمثل ذلك البديل، لأن أحزابنا التي تسمى نفسها معارضة، قد تخلت غالبيتها عن وظيفتها الأساسية بوصفها معارضة تسعى بالطرق الديمقراطية للوصول إلى السلطة، بعد أن تقنع المواطنين بفشل الحكومة، وكفاءتها هي وإمكانية نجاحها في ما فشلت فيه الحكومة لتصبح بديلا لها، وبالطبع على أن يتم كل ذلك عبر صندوق الانتخابات. لكن أحزاب المعارضة السودانية، أذهلت المواطن بتأرجحها بين موقعها في المعار?ة والبحث عن موقع في الحكومة. الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وبعد أن أضاع من الوقت ما أضاع، في مفاوضاته مع المؤتمر الوطني حول إمكانية مشاركته في الحكومة إياها، ظل متأرجحاً بين القبول والرفض، الأمر الذى ما عاد من بين اهتمامات المواطنين، اشترك الحزب أم امتنع. ولكن الذى أهم المواطن وأزعجه إعلان الحزب بأنه، لا يقف مع الحكومة ولا مع المعارضة، يعنى لا حنظلة ولا بطيخة. ويعلن عن ذلك الموقف العجيب، بعد أن اشترطت عليه قيادة المؤتمر الوطني أن يلجم بعض كوادره، وبالاسم، لتكف عن الحديث في أمر إسقاط النظام، ليصبح ذلك جواز مروره لمقاعد الحكومة المز?ومة. وبالطبع من حق المؤتمر الوطني صاحب اليد العليا، أن يملي من الشروط على أصحاب اليد السفلى كما يريد. وما دام الحزب الاتحادي سيصبح مشاركاً في الحكومة، فيصبح من غير المعقول مشاركته أيضاً في الدعوة لإسقاطها. غير أن إعلان قيادة المؤتمر الوطني لذلك الشرط وبتلك الصيغة، يكفي للكشف عن مستوى الهوان الذى لحق بأحزاب المعارضة لدى حزب المؤتمر الوطني، ومازال بعضها يلهث للمشاركة في حكومته. حزب الأمة القومي، استطاع أن يتخارج من ورطة المشاركة المشروطة، في حكومة لا ناقة له في برامجها وخططها ولا جمل، فرفض أن يصبح ديكوراً لها ومن ثم أغلق باب المشاركة نهائيا، أو هكذا تبدى لنا. غير أن الصحف تتحدث عن حزب الأمة وكأنما قد خرج من المشاركة بالباب، ولكنه سيدخلها عبر النافذة، هذا بالطبع أن صحت تنبؤات بعض الصحف. فقد رشح بأن نجل رئيس الحزب، عبد الرحمن الصادق المهدي، ربما يتم تعيينه مساعداً للرئيس بالقصر الجمهوري، وفى قولة أخرى وزير دولة بوزارة الدفاع. وتضيف بعض صحف يوم الأحد 20 سبتمبر، أن كريمة الإمام، الدك?ورة مريم الصادق، سيشملها التعيين أيضا، فإن تم قبول أي من هذه المناصب من جانب أبناء الإمام، لا يمكن تبرير ذلك القبول بما أعلنه الإمام الصادق من قبل، بأن التحاق أبناؤه بالقوات النظامية لذات السلطة التي يعارضها، لا يرى ما يمنعه، فذلك من حقهم بصفتهم مواطنين سودانيين أن يعملوا بأى من مؤسسات الدولة السودانية. ونوافقه على ذلك الرأي تماما، رغم التمييز الذى تم به تعيين أبنائه بما لم يتحقق لأمثالهم من أبناء المواطنين الآخرين. إلا أن التعيين السياسي لا يمكن أن يندرج تحت إطار ذلك التبرير، حيث يستلزم بداية، الولاء للسل?ة الحاكمة التي منحت فرصة التعيين. فكيف لرئاسة حزب معارض للسلطة، أن يوالى أبناؤها ذات السلطة التي يعارضها؟ وبعدين، وبهذه المناسبة لا بد من أن نسأل عن قصة مساعدي الرئيس، باعتبار ذلك مواقع دستورية كثرت الاستفادة منها أو بها أخيراً، عن ماذا تعنى؟ فالسيد مناوي مثلا، تم تعيينه كبير مساعدي الرئيس بالقصر، فقبع بالموقع سنين عددا، ولما لم تطلب مساعدته في أي أمر كان، حمل نفسه وعاد لمربع الحرب مرة أخرى، حيث يرى انه الأفضل من «قعاد ساكت». فهل هنالك توصيف وظيفي لمثل هذه المقاعد الدستورية أم أنها مجرد أسماء ومكاسب لمن يق?ل بها. أما الأحزاب الأخرى التي اختصرت طريقها إلى السلطة، بأن انشقت من أحزابها الأم، ومن بعد التحقت بالمؤتمر الوطني، وحتى إن أبقت على أسمائها التي أطلقتها على نفسها بعد مغادرة أصولها، فهي تعتبر أحزاباً من الدرجة الثانية في نظر حزب المؤتمر الوطني، كما تعتبر كوادرها هي الأخرى، كوادر من الدرجة الثانية بين كوادر المؤتمر الوطني. ومن ثم أصبحت هذه الأحزاب أبعد ما تكون عن أحزاب معارضة، واقرب ما تكون الى الموالاة للحزب الحاكم. وعليه لم تبق في الساحة أحزاب معارضة وملتزمة بموقفها هذا، إلا حزبا المؤتمر الشعبي والشيوعي، اللذان?صمدا أمام قرارهما برفض الدعوة للمفاوضات مع المؤتمر الوطني، ومن بعد المشاركة في حكومته القادمة. ونسأل الله أن يمكنهما من الصمود حتى نهاية الشوط، فما عاد المواطن يثق في هذا ولا ذاك، في ظل فهلوة المؤتمر الوطني. غير أن الشقة بين هذين الحزبين المعارضين والأحزاب العريقة الأخرى، كالاتحادي الديمقراطي الأصل والأمة القومي، قد تباعدت تماماً. خاصة الرؤية للكيفية التي تُعالج بها أزمة الحكم الحالي وآثارها المدمرة على الوطن والمواطن. ففي الوقت الذى يرفع فيه الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي، شعار اقتلاع النظام من جذوره، يتبنى حزب الأمة القومي فكرة الجهاد المدني أو الجهاد الناعم الذى لن يخدش سلطة الحكومة المحصنة لمثل ذلك تماما، وبأي مقدار كان، بينما يقف الاتحادي الديمقراطي الأصل موقفه المحير ذاك، إذ لا إلى الحكومة ينتمي ولا إلى ا?معارضة أيضاً، كما أسلفنا. ولعل هذا الموقف المجهجه لأحزاب المعارضة هو الذي جعل د. نافع يصفها بالشيخوخة، رغم أن من بين هذه الأحزاب حزب المؤتمر الشعبي النصف الآخر للمؤتمر الوطني، فإن هو شاخ فحزبهم شاخ أيضاً. ود. نافع الذى ما وجد فرصة للكيل للمعارضة من مختلف مفردات الردح السياسي إلا وأوفى الكيل لها. فهو يرى أن جماهير الأحزاب بدأت تتململ من قياداتها التي تتردد في أمر المشاركة مع المؤتمر الوطني وبطريقته طبعا، في حكومته المقبلة، يقول ذلك في حين أن تململ تلك الجماهير كان بسبب مللها من سياسات المؤتمر الوطني وتسيده على أحزابها، وهى الأكثر رفضاً وإصراراً على عدم المشاركة بمثل تلك الصورة المهينة. ولعل في معركة جماهير الاتحادي الديمقراطي الأصل ومحاصرتها قياداتها لمنعها من مجرد التفكير في المشاركة مع المؤتمر الوطني، أبلغ?دليل على ما وصل إليه رأي الجماهير في حزب السيد نافع. بعدين ما دامت أحزاب المعارضة بمثل ذلك السوء، لم يلهث المؤتمر الوطني خلفها ليجرها إلى شباكه؟ أتركوا أحزاب المعارضة وجماهيرها في حالها، وأوفوا بعهدكم لجماهيركم، بإعلان حكومتكم التي أعيتكم الحيل في كيفية إخراجها. فالشعب السوداني غير معني بأى نوع أو شكل ستصبح عليه الحكومة القادمة، لكنه ينتظر أن تكف أي من حكومات المؤتمر الوطني عن إهماله والانشغال بسلطتها. فلعلكم تذكرون عندما تفاقمت مشكلة الأسعار وأعلنت جمعية حماية المستهلك شعارها الشهير، بترك كل ما هو غالٍ بدءاً باللحوم، استمعنا لهوجة المجلس الوطني وتصريحاته النارية، بأنه سينزل إلى الأسواق لكبح جماح الأسعار، وتأديب المتلاعبين بقوت الشعب من التجار الجشعين، وبعد أن أبدى تأييده التام لفكرة مقاطعة المواطن لشراء اللحوم حتى تعود إلى صوابها. وما أن هدأت العاصفة، ومن بعد عادت حليمة لعادتها القديمة، من الاستمرار في تصاعد الأسعار، التي تصدرتها هذه المرة، الأدوية، والتي قد يقود العجز عن شرائها إلى فقدان المواطن للحياة?ذاتها، جلس ذات المجلس بعد تلك الوقفة مع غلاء الأسعار، تعبيراً عن وقوفه مع المواطنين، لينهض أحد قياداته، وهو رئيس اللجنة الاقتصادية، ليفجر أكبر قنبلة اقتصادية ستقضى على أخضر ويابس اقتصاد المواطن، الذى ادعى المجلس انه يقف معه ويناصره. فقد صرح رئيس اللجنة الاقتصادية، ودون أن يرمش له جفن، بأنه يؤيد رفع الدعم عن المحروقات، ولم يكن ذلك التأييد وليد يومه، ولكنه مختمر برأسه منذ وقت مضى، حيث برر سيادته ضرورة رفع الدعم بأن الحكومة ظلت تدعم جالون البنزين بمبلغ 4.8 جنيهات، والمدهش أن سعر البيع الحالي للبنزين ومع الدعم بمثله 8.5 جنيهات، بينما كان في وقت ما مقداره 5.5 جنيهات. لم يعلم المواطن بزيادة سعره إلا عبر التصريحات الأخيرة. مما يعنى أن هنالك زيادة في سعر البنزين قد تمت «تحت تحت» ومن خلف ظهر المواطن، فقد تفاجأ الكثير من المواطنين بأن المبلغ ال?ى ظلوا يشترون به من قبل، لم يعد يوفر لهم ذات الكمية التي اعتادوا على شرائها من البنزين سابقا. وهذه واحدة من بين طرق استهانة الحكومة بالمواطن، ورئيس اللجنة الاقتصادية ربما أراد ان يبرر تلك الزيادة غير المعلنة، فأوضح أن الحكومة ظلت تشترى جالون البنزين بمبلغ 13.3 جنيهات، وتبيعه بمبلغ 8.5 جنيهات، ولذا يقترح سيادته، ليست رفع الدعم عن البنزين فقط، ولكن أن يتم دعم الحكومة بأن يصبح سعر بيع الجالون للمواطن ما بين 15 و 20 جنيها، لأن « الحايمين بعرباتهم، وطبعا مالين الشوارع، يستطيعون أن يدفعوا» ورئيس اللجنة الاقتصادية المحترم باقتراح التسعيرة الجديدة للبنزين، يقصد رفع المعاناة عن الحكومة بتخلصها من دعم البنزين، ومن بعد الاتجار فيه بقصد الربح. وليته كان ربحا معقولا. فالبيع بمبلغ 20 جنيها بدلا من 13.3 جنيهات، تعنى، أن تربح الحكومة 6.7 جنيهات في كل جالون اى بنسبة 50% تقريباً، وذلك ربح لا يرضاه الله ولا واقع المواطن الذى هدته أثقال الحياة الاقتصادية التي لا يحتمل اى مزيد منها. وبالطبع فإن رفع الدعم عن المحروقات سيرتفع بأسعار كل السلع الأخرى، وهى غير ناقصة. ورغم أن الحكومة قد نفت مثل ذلك الاتجاه، ومن ?بلها قام بنفيه رئيس البرلمان، الذى حذر نوابه ورؤساء اللجان وغيرهم من الأعضاء، من التصريح باسم البرلمان في شأن لم يتم حسمه بعد، إلا أنه من تجارب المواطن مع الحكومة، أنها يمكن أن تقول ما لا تفعل، وأحيانا تفعل دون أن تقول، مثل زيادة البنزين السابقة، ولذلك مازال متوجساً خوفاً مما قيل وما تم نفيه، بعد أن انعدمت الثقة بينه وبين الحكومة. أما أعذار الحكومة، وهي أقبح من الذنب وتعكسها تبريراتها تجاه رفع الدعم عن بعض السلع، فهي ترى أن دعم بعض السلع جعلها أرخص مما هي عليه ببعض دول الجوار، الأمر الذى يساعد على تهريبها إلى تلك الدول. وذلك منطق لم نسمع به في أي من النظريات الاقتصادية. فالمعلوم أن هنالك بعض السلع التي تقل أسعارها كثيراً عنها بدول أخرى، فينشط بعض المواطنين السودانيين في جلبها من بلادها إلى السودان، ودون أن نسمع بأن حكومات تلك الدول ستعمل على رفع أسعارها حتى لا تخرج لبلاد أخرى. ثم هل فكرت الحكومة في نسبة الدعم المرفوع لدخل المواطن ال?وداني، وهو الشيء الوحيد الثابت في عرفها؟ على كلٍ فقد تعودنا على نفي الحكومة الذي سريعاً ما يكذبه الواقع. ففي كل مرة تريد الحكومة أن ترفع فيها سعر سلعة، فإنها ترسل بالونات اختبارها لجس نبض الشارع، حيث تقوم بوضع السعر الذى تريد، ومن بعد ترتفع به فوق المعقول، كما فعل رئيس لجنة الاقتصادية، ومتى ضج المواطنون تقوم بتخفيضه إلى الحد الذى حددته بداية. وأخيراً خرجت علينا الحكومة ببدعة جديدة، وهى أن تعلن عن زيادة أسعار مجموعة من السلع، بينما هي تهدف لرفعها لسلعة واحدة، وهنا أيضا ما أن يكثر تذمر المواطنين حتى تخرج عليهم بأنها لن ترفع السعر إلا لسلعة واحدة، و?مامكم سلعة السكر التي أطلقت شائعة زيادة سعرها بجانب المحروقات، فتم نفي الأخيرة وازداد سعر السكر. وبعد شوية، إما أن يجد المواطن أن المبلغ الذى يدفعه لجالون البنزين لم يوفر ذات الكمية السابقة، كما حصل سابقاً، أو أن تتوكل الحكومة وتعلن الزيادة وتستعد لتبعاتها.