٭ قبل أن أبدأ في تسجيل هذه الخواطر اللاحقة، أود ان ارد على كل من يريد أن يتساءل عن ما دفع بي لكتابة هذه الخواطر، وأقول لهم إني من رحم هذه المنطقة، شببت فوق هضابها وتعلمت فيها الكتابة، ولعبت على رمالها «شلق بلغ وشليل» و«لقطت الحارة» وفوق وذلك ذاك إنني ابن المؤرخ محمد احمد المك وحفيد الملك صبير والمك مدني، ولاهل هذه المنطقة علىَّ دين مستحق، وفوق كل ذلك لهذه المنطقة وقع خاص في دواخلي ودمعة سخينة على صدري لظلم أهلها في ظل هذا الحراك الحامي وطيسه والتهافت على المناصب دون تفريق بين الواقع المزري والممكن المجهول.. هذه المنطقة التي لا زال يشم عبير مسك دماء أبطالها فوق رمال كورتي، وهذه المنطقة التي كانت وصية الأمس على كل مجهول ومغلوب على أمره، أصبحت يتيمة اليوم، هذه المنطقة التي افرزت من رحمها افذاذ رجال وأنبل رجال وأشرف رجال قديماً وحديثاً.. هذه المنطقة التي افرزت الملك جاويش وهو يحمل راية الشرف والدفاع، وعن يمينه الملك صبير وعن يساره الملك حمد.. هذه المنطقة التي توجت كدنقة في مضيق كجبي.. هذه المنطقة التي جهزت جيشها بقيادة ابنها البار عون بن شايك لطرد فلول الفونج، ولها ما ارادت.. هذه المنطقة التي بسطت قبضتها من منطقة ابو حراز الى حدود الدر.. هذه المنطقة التي صهلت خيولها في رمال كورتي لملاقاة الغزو المصري دفاعاً عن شمال السودان كله، تلك المعركة التي دارت رحاها بين السيف والقرنيب.. تلك المعركة التي كان سياج عودها ملك جاويش الذي يحمل راية الشرف والكرامة، وفي الميمنة صبير، وفي الميسرة حمد.. هذه المعركة التي أبرزت قدرات الشايقية في فن القتال مما حدا بمستر مايكل عام 9391م والحرب الثانية على الابواب، وفي مشهد من تجمع السودانيين الذين توافدوا في الجبل الاصفر، رغبة في التعيين العسكري. ولقد فعل هذا الخواجة وقال بالصوت العالي شايقي يتقدم لأن له تاريخا عسكريا، ولقد قصدت في هذه الإطالة التي اتمنى ألا تكون مملة تقديراً مني لجيل السبعينيات، هذا الجيل المغلوب على أمره الذي ضيقت عليه حكومات الشمولية حلقات المعرفة والإطلاع، وبعد ما تقدم من سرد وتبيان، اقول لمن يريد ان يتقدم لتمثيل هذه المنطقة ونيل ثقة جماهيرها وولاء أهلها، ان تكون قامته في هذا المقام مطابقة اوصافها وملامحها وممزوجة بعطاء هذه المنطقة ورجالها وجماهيرها قديماً وحديثاً، وأن يكون قد عايش أحزانها وآلامها من غرق المراكب وكوارث (88)، وأجد إلزاماً علىَّ أن أربط، وأن افرز أسماء الرجال المتميزين حديثاً.. هذه المنطقة التي أنجبت من رحمها رجالا كانوا ولا زال الأحياء منهم في مقام التضحية والثبات والحفاظ على قيمها وموروثاتها في مختلف مناحي الحياة.. هذه المنطقة التي انجبت قديماً اولاد عبود أحمد وعكود واختهم مهيرة قائدة جيلها وود أبو شام وكمبال زينة أبناء عون وفرسان الحلبة في كورتي.. هذه المنطقة التي انجبت من رحم الشايقية نعمان الفريد مخترق القيقر.. هذه المنطقة التي انجبت حديثاً من انجب ابو رنات مجدد القوانين في عهد الانجليز.. هذه المنطقة التي انجبت أحمد خير عريس جمعية ود مدني ورأس حربة مؤتمر الخريجين دون منازع، وشقيقته والدة المناضل المميز والقائد الفذ الشريف حسين الهندي.. هذه المنطقة التي انجبت والدة المعلم والملهم عبد الخالق محجوب فريد عصره الذي حينما سُئل وهو يتبختر قاصداً المقصلة في لحظاته الأخيرة، قال كلمته الخالدة في وجدان المناضلين، لقد قدمت الوعي.. هذه المنطقة التي أنجبت محمد صالح الجاز الذي واجه صلف المفتش الانجليزي وتغوله على حقوق المواطنين في مركز مروي.. هذه المنطقة التي انجبت محمد صالح الكاروري الأخ المسلم المميز.. هذه المنطقة التي انجبت خلف الله الرشيد.. هذه المنطقة التي انجبت البروف حسين محمد أحمد العالم الفذ.. فمعذرة للافذاذ الذين لم تذكر أسماؤهم وهي تترى، والعقد يطول، فلهم مني العتبى حتى يرضوا.. وبعد هذا كله أود أن اقول لمن يتشبثون بانجازات السد، نعم إن التاريخ يتجدد والأزمان لها حكمها وانتقالها من واقع لواقع، ولكن التاريخ لا يلغي ولا يموت ولا جديده ناسف لقديمه، بل بينهم عري التواصل. وهذه طبيعة الأشياء وحكم الديالكتيك، فقيام السد ملحمة حضارية وعطاء غير منكور. ولكن من يريد أن يتوهم بأن السد يلغي ملامح الاشتراكية الفطرية في هذه المنطقة يكون محدود المعرفة وعميان البصيرة.. إن ادبيات هذه المنطقة في التراحم الاجتماعي والتواصل المسؤول والعطاء اللا محدود والذي يرسي استمراريته في الفزع وتايات العروسات والطهاير وتتك النفساء (الجخس) وبقانة القادة، وقطع الحطب المشاع، ورأس الضواقة للمحروم والضعيف، ومشاعة تمر الهبوب، وتمر الوقف، وحوض العالم، وحوض البصير، وحوض الحداد وحوض المأذون. وأخيراً اطلقها داوية للذين يتوقون لتمثيل هذه المنطقة، ان يتبينوا وأن يراجعوا مواقفهم عبر تاريخ حياتهم العملية، فأين موقهم من هذه المآثر التي ذكرت آنفاً، وأين سهمهم مع عطاء هذه الأسماء السابقة واللاحقة، إن كانوا هم كذلك فلهم منا التجليات ومرحباً بهم، وإن كانوا غير ذلك (فيصعب على المرء ان يتمطق مذاق الملوخية مع اللبن). وتحياتي وتقديري واعترافي كله أسوقه الى جماهير هذه المنطقة، والى شهدائها وأعلامها.. ولهم مني الشكر والامتنان. أتبرة