طلبت من الدكتور عبد الله علي إبراهيم المفكر السوداني والكاتب الصحافي المرموق، ان اجري معه حوارا خارج المألوف، نتناول من خلاله قضايا غير تلك التي عرف بها، وهو عائد من امريكا مقر إقامته، وتسعى العديد وسائط الاعلام لاستنطاقه في الكثير من الهموم الثقافية والسياسية التي تحيط بالوطن، وقد وافق مشكوراً على الحديث عن الحيشان الثلاثة الإذاعة والتلفزيون والمسرح، ورغم غيابه عن الوطن فقد قدم لنا إفادات مهمة نقف عندها عبر هذه المساحة. ٭ تفتحت عيوننا على عوالم إبراهيم عوض وأحمد المصطفى: عن الغناء والفن يقول الدكتورعبد الله «لقد تفتحت اعيننا ونحن صغار على عوالم إبراهيم عوض وأحمد المصطفى ومحمد وردي لاحقا، كذلك عثمان حسين. وهؤلاء كانوا يعلمون الناس المعاني السامية والراقية، بل كانت اغانيهم تحمل في طياتها نوعاً من التربية للإنسان، فقد كانت وستظل الأغنية السودانية الأولى في سباق الثقافة السودانية، بل هي المدخل الأول للجمال من حيث الكلمات والألحان والأداء، وقد كنت استمع بشغف شديد لبرنامج «أشكال وألوان» الذي كان يقدمه الراحل أحمد الزبير، وكان هذا البرنامج من البرامج ذات الالهام لنا في تلك المرحل?، وهو أنموذج للتجريب والاقتحام ومدخل لبوابة التذوق، والأغنية السودانية هي أوسع الأبواب إلى الثقافة السودانية، ولا توجد لدينا ثقافة روائية أو مسرحية، لأن الرواية في حدوثها النادر مصرية، لذا فالأغنية السودانية مازالت تشكل الوجدان، وهي تربية جمالية ولوحة زاهية الظلال لا تبدلها الأيام ابداً أو تغير ألوانها، ولكن رغم ذلك فهنالك مشكلة عدم وجود دارس للأغنية السودانية أو نقد قائم على العلمية والغوص في اعماقها تحليلاً وتشخيصاً، انظر إلى ثورة اكتوبر المجيدة لم يبق منها إلا أناشيدها أو أغنياتها التي خلدتها من محمد ور?ي ومحمد الأمين، أي أن الأغنية هي التي تعرف الأجيال الحالية بأكتوبر، وهذا يعضد قولي عن رسوخ الأغنية السودانية في كل المراحل والعهود، كذلك مؤتمر الخريجين مازالت تخلده انشودة «صه يا كنار»، وهكذا هي الأغنية السودانية». ٭ الإذاعة السودانية عاصمة الأذن والذوق: وعن هنا أم درمان يقول: «الإذاعة السودانية هي عاصمة الأذن والذوق، وهي كتاب كبير حصته الفن والذوق والجمال، وهي سجل كبير وزاخر، وفتحت للناس أبواباً للثقافة والمعرفة، ورغم أنها بدأت استعمارية لنقل أخبار الحرب لكنها صمدت وثابرت وأخذت تشكل الوجدان وتثري العقول وتعلم الأجيال من خلال دورانها الذي لا يهدأ، فكانت هنا أم درمان وحدها في الساحة هي التي علمت الشعب السوداني الكثير والكثير، انظر وتأمل ربوع السودان وحقيبة الفن وتفسير القرآن الكريم، وهذه وغيرها مداخل للمعرفة الحقة والتربية الخالصة، والآن المكتبة الصوتية بها?هي مخزون لإبداع الشعب السوداني عبر الحقب والأزمان، واقول لك في ظل الظروف الحالية والانفتاح الأثيري الذي أراه من محطات ال «إف إم» الذي وجدته في السودان ستظل الإذاعة القومية تحتفظ بمكانها دون منازع، وأعتقد أنها لن تنساق ويجب عليها ألا تخضع لمنطق السوق رغم أن السوق الآن اتسع، ولكن في ذات الوقت يجب أن تمنح الإذاعة السودانية المزيد من الحريات، وأن تصبح جهازاً قومياً، وهذا المطلب ننادي به منذ أيام أكتوبر، وهذا يعطيها فتحاً في التعبير أكثر وفي البرامج المباشرة. ولا بد لي أن أبدي سعادتي بإذاعة البيت السوداني التي?تدافع بشرفٍ للحفاظ على الهوية، وأعتقد أنها نجحت تماماً في ذلك». ٭ أبو الفنون كان حاضراً في المواسم المسرحية: وعن أبو الفنون المسرح يقول: «المسرح القومي يحمد له أنه ثبت حقيقة كلمة مسرح تماماً من خلال حقبة طويلة، مضت باعتماده على المواسم المسرحية التي كانت تعج بالأعمال المسرحية الرائعة لنجومه الأوائل ومن تبعهم حتى الآن، ونذكر هنا أبو قبورة وتحية زروق ومكي سنادة وغيرهم، وكذلك الفرق والجماعات المسرحية مثل الأصدقاء. ولكن يجب أن يدخل القطاع الخاص الراشد إلى المسرح، فالقبضة الحكومية على المسرح لا تفيده، ومشكلة المؤسسات الثقافية عندنا أنها مؤسسات تعاني اليتم أي أنها يتيمة». ٭ تلفزيون السودان نافذة محترمة على العالم: وعن رؤيته لشاشة تلفزيون السودان يقول: «التلفزيون القومي نافذة محترمة جداً على العالم العربي، وأري أن هنالك جهوداً كبيرة تبذل من خلال متابعتي له وأنا خارج الوطن، وهذه حقيقة يجب ان تقال، ولكن يجب أن يقوم إعداد البرامج على البحث باعتباره مرتكزاً مهماً لا غنى عنه، ويجب أن تكون هنالك جهة بحثية في التلفزيون هي المرجع لإجازة البرامج، واللجان وحدها لا تكفي، ويجب استخدام البحوث والمكتبة والاحصاءات في العمل البرامجي حتى يخرج للناس مبرأً، وكذلك مثله مثل الإذاعة لا بد من قوميته ليكتسب المزيد من الجرأة واستخدام مزيد من?الحريات لاقتحام ساحات ومجالات لم تتهيأ له من قبل. وهذه هي نصيحتي للقائمين عليه». ٭ ليس لدينا سينما بالمعنى المعروف: وعن تجارب السينما السودانية يقول: «باختصار أقول أنه لا توجد لدينا سينما سودانية بالمعنى المعروف، لأسباب أهمها عدم امكانية المنافسة في سوق السينما الحالي، خاصة السينما العربية وعلي وجه الخصوص السينما المصرية، فإنت تعمل سينما سودانية ليس للتوزيع المحلي بل للتسويق الخارجي بالطبع، وهنا نلاحظ ارتفاع تكاليف الإنتاج السينمائي عموما، ويجب ألا نصنع سينما سودانية لإرضاء شغفنا الوطني فقط، ولكن إذا أردنا فعلاً أن نجبر الناس على ارتياد دور السينما كما كان في الماضي، فأقول إن الإقبال سيكون كبيراً جداً إذا نجح القطاع الخ?ص في تشييد دور سينمائية بمواصفات ممتازة، وأعتقد أن النجاح التجاري فيها سيكون كبيراً جداً». ٭ توقيع أخير: ختاماً شكري وتقديري للدكتور عبد الله علي إبراهيم على هذه الإفادات المهمة حول المؤسسات التي كانت مدار الحوار، والآراء الجريئة التي ذكرها في معرض إجاباته، وأعتقد أننا أحوج للمزيد من الآراء لتطوير وتنمية الوسائط التي تؤدي إلى تطور وازدهار الثقافة السودانية.