بخلاف ما يروج أغلب المناوئين للتجربة الإسلامية من لبراليين ويساريين من افتقار الإسلاميين للبرنامج السياسي والاقتصادي واضح المعالم تبدو الحركات الإسلامية ذات مقدرة فائقة على النشاط والتفاعل الجماهيري والتعاطي الحصيف المستوعب لمقتضيات اللعبة السياسية ومناوراتها مع التمسك بالمشروع الحضاري الكبير المقتدر إن أحسنوا الاختيار لمن يملك القدرة والإرادة على معالجة معضلات التخلف العلمي والتكنولوجي وإنهاء عهود الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتهميش الاقتصادي مع القضاء على التبعية الفكرية والسياسية والاستلاب الثقافي . ولا شك أن لخروج الحركات الإسلامية من رحم الثورات الشعبية المتوافقة على صيانة الحريات الأساسية والمتمسكة بآليات التحوّل الديمقراطي وبناء دولة المؤسسات المدنية يشكل ضمانة لجميع المتخوفين من تجربة الإسلام السياسي ويطمئن المتوجسين من قيام الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي تحكم باسم «الحق الإلهي» المتوهم في نظر البعض عن الإسلام وهو منه على نقيض بيّن لعدم اعترافه بسلطة رجال الدين بالمفهوم الكهنوتي المتعارف عليه في الغرب إبان العصور الوسطى، وليس في الإسلام سلطة لرجال الدين أصلاً تهيمن على ضمائر الناس وتهضم حقوقهم . وبتقدم المشروع الإسلامي في شمال أفريقيا خاصة بعد الانتخابات البرلمانية في كل من تونس والمغرب ومصر ينتظر من الحكومات الجديدة والقوى السياسية وفعاليات المجتمع المدني النافذة في هذه الدول إحياء مشروع التكامل الاقتصادي العربي خاصة بين السودان ومصر وليبيا الذي سبق طرحه في فترة المد القومي لبلورة نموذج للوحدة العربية من خلال «الجمهوريات العربية المتحدة» في بداية السبعينيات من القرن الماضي قبل أن يدب الخلاف بين العقيد المخلوع معمر القذافي والرئيسين الراحلين أنور السادات وجعفر نميري اللذان أكملا مشروع التكامل بين بلديهما بصيغة فوقية بين أجهزة الدولة البيروقراطية دون أن ينزل التكامل إلى المستوى الشعبي الذي يعضد من أواصر التعاون والتضامن خاصة في مجالات الاستثمار الاقتصادي المشترك وبناء مصالح شعبية متشابكة تتجاوز أكليشيهات التصريحات الصحافية الممجوجة وتعبيراتها الرتيبة المتداولة عن أزلية العلاقة بين الشعبين وروابط «الماء والهواء والطين» !! .... وفي تقديري أن الحكم على التجربة الإسلامية من خلال النموذج السوداني أو الطالباني فيه كثير من التعسف وعدم الموضوعية وذلك لضعف استناد التجربتين على رؤية منهجية ومعرفية واضحة المعالم وافتقارهما للتجربة والدربة السابقة، ورغم ذلك شهدت التجربة السودانية تطوراً ملحوظاً نحو التحوّل الديمقراطي والاعتراف بالآخر بعيداً عما كان عليه حال النسخة الأولى من سلطة انقلاب الإنقاذ القابضة . . وتبدو حركة النهضة التونسية أكثر اعتدالاً وأقل استفزازاً للخصوم لتماهيها مع مقتضيات الحداثة، كما يجنح الإخوان المسلمون في مصر نحو تيار الوسطية ويرغبون في تقديم نموذج مختلف للصحوة الإسلامية هذا إن سلموا من مزايدة السلفيين وتطرف العلمانيين، وهكذا ستبرز للساحة أطياف متنوعة في التعبير عن الإسلام السياسي باختلاف المذاهب الفقهية وتباين البيئات والمشارب الثقافية كما هو الحال في الثورة الإيرانية والنموذجين التركي والماليزي فلكل تجربة ظروفها وتحدياتها وطموحاتها غير القابلة للاستنساخ والتنميط .