الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح أحمد ابراهيم و عمر مصطفي المكي وجها لوجه( الليلة الثالثة)
أوراق خضراء : الصحافة تفتح الملفات القديمة
نشر في الصحافة يوم 25 - 01 - 2012


الماركسية بحد ذاتها لا يمكن أن تلغي علم النفس
رسمت المساجلات الصحفية لنفسها طريقا فارقا في العقود الماضية من تاريخنا المهني، فقد كانت ملح الأوراق في بلاط صاحبة الجلالة الملكي، وزاد المجالس الانيقة في ارجاء البلاد، ومعين الفكر والمتعة وحسن الذوق الذي لا ينضب لجمهور القراء، والمتبتلين العاشقين لمحاسن الكلم. ولما كانت ستينيات القرن الماضي من أزهى حقب الفكر والكتابة، لانها شهدت اصطراع تيارات سياسية وفكرية وثقافية مختلفة في المشهد السوداني، فقد افرزت اقلام عملاقة وعقول حرة تحلق في السموات دون حتى قيود دنيوية. ومن اشهر تلك الاقلام التي تساجلت فكريا على صفحات جريدة « الصحافة» في اواخر الستينيات الراحلين صلاح احمد ابراهيم وعمر مصطفى المكي. وتعيد الصحيفة نشرها اثراءً للساحة الفكرية والصحفية.
«لا ليس في الاتحاد السوفيتي بغاء.. أو سرقة.. أو.. أو هذه بلاوي المجتمع الرأسمالي وحده»
وتصدق أو لا تصدق، ولكن الحقيقة تؤكد أن هذا القول هو ما كان ينبغي أن يكون لا ما هو موجود فعلاً، هذا ما تقوله الكتب لا ما هو واقع، اما انه موجود بصورة ميكروسكوبيه، أو لماذا هو موجود رغم تحقيق الاشتراكية، فيأتي تابعاً لذكر هذه الحقيقة، على مراراتها أن عيب قصة الدكتور زيفاجو ليس في أنها أوردت أحداثاً لم تقع قط.
«في الواقع إنني لا أشك في صدق وأمانة مؤلفها» ولكن لأنها كانت جد فتوغرافية في تصويرها لبعض الأحداث، ولأن الكاتب التزم بالحقيقة الصغيرة متناسياً الحقيقة الكبرى وسلط ضوءه من زاوية خاصة لا تعطي الصورة المطابقة أو النموذجية أو تنصف الموقف ككل باعتباره حركة تاريخية، وتنفيذاً لإرادة تاريخية سلط ضوءه على الجثة الطافية على النهر دون أن يظهر النهر. وبذكر الجثة الطافية، هل يمكن لأمين حزب شيوعي أو حتى لشيوعي أن يحيا حياة الدكتور جيكل والمستر هايد؟ مجرد سؤال مرَّ على البال.
جاء وقت لم يعد حكمي على رفيق أو آخر حكماً سياسياً فحسب هذا مندفع وذلك برجوازي صغير وآخر متفسخ وذلك به ميل نحو العائلية.. الخ.. بل أخذت اراقبهم كبشر إذ لا يمكن أن تلغي الماركسية بحد ذاتها علم النفس، فالنفس البشرية مركبة ومعقدة وكل نفس تختلف عن الاخرى اختلاف البصمات، ومن الخطل الخلط ما بين الفرد والطبقة وبين النفس والنموذج.
وتكشفت لي أبعاد جديدة.. إن قادة الحزب ليسوا مناضلين وشيوعيين ممتازين فحسب، بل هم كغيرهم يمكن لمن له حد أدنى من الإلمام بعلم النفس أن يجد فيهم ميداناً خصبا للتحليل والدراسة، خذ الصراع الجبار الذي دار في فترة بين عضو اللجنة المركزية المسمى بالخروف وبين من أسماه بالخروف، وهو أيضاً ل. م، والمسؤول صغير السن الذي يحفظ الخط السياسي حفظاً فلا يحيد عما حفظ قيد أنملة، لماذا صار عضو ل .م ،فاذا بالمتسلقين يجنون أرباح رشواتهم ترقيعا في الحزب، ولماذا فقد صحته النفسية محترف بالجزيرة، ولماذا انطلق المسؤول التنظيمي في الشوارع ألخ ألخ، قد يقال ولكن التنظيم معافى وليس التنظيم أفراده فرادى.. حقيقة.. ولكن الوضع إذا كان التنظيم يخضع لإرادة فرد فيه عاهات نفسية تضير بالتنظيم «هل تذكرون وصية لينين عن ستالين وقصة اخفائها وما دار عن أسباب ظهور الستالينية؟» ثم ما الحال اذا كان أنانسي أقدر الناس على قراءة الشخصية واكتشاف المفتاح الذي يسيرها أو يدمرها، وكيفية تحريكه، ثم له القدرة على اختيار القادة فرض ما يريد بالايعاز والتوجيه الإيحائي، ومن قال إن التصرفات الحزبية لا يكون وراءها أبداً ضعف بشري يستطيع أن يفرض نفسه أو تستغل ضعفاً بشرياً.
أدت بي ملاحظاتي واكتشافاتي إلى مزيد من الانقباض والوجوم والأسى، واشتبك واشتجر في نفسي الخاص والعام والذاتي والموضوعي، وكان مما كتبت تلك الحالة قصيدة «دوريان قراي» وتمثل التناقض بين الظاهر والباطن، مما كنت أرى وأحس في الحزب وكان أهم ما فيها:
انتفخت بين يديك الجثة فادفنها، ما كان سوى أمل وانهار، ولكن لا بد من قيام الحرب التي على الأبواب الحرب القائمة حتى الآن، ولذلك قلت «قم واجهها يا ابن الإنسان».. ولا زلت أواجهها.
وهم شعروا بذلك. أقرأ قصة ريتشارد رايت في صدر الليلة الرابعة، وكان لا بد أن يكبل لسان من له مثل لساني وقلم من له مثل قلمي، وكان لا بد أن توضع شخصيتي وهي على تواضعها ذات تأثير على بعض الناس تحت تهديد مستمر أن تكون رهينة لديهم بشيء ما أن يكون ثمة شيء يسمح بالابتزاز ويلوح به كلما رفعت رأسي، وهذا احتمال مهما كان بعيداً لا بد من وضع الترياق له أن يكون لديهم ثمة ما يقال عني لكي يلغوا به أو يخففوا تأثير ما يصدر عني. المهم أن يكون لديهم ما يمكنهم من نسف شخصيتي عند اللزوم من تدميرها وسحقها، باختصار ما يغتال احترامي لدى الناس، وربما قبل ذلك ما يغتال ثقتي بنفسي وجرأتي عند قول القول، فأعملوا نفس طريقتهم الابتزازية مستغلين رغبة أو رهبة» في ضحية رضيت أو اضطرت لكي تنفذ لهم مشيئتهم وحركوها ضدي لتلقى اتهاما لا أعرف تفاصيله ولكن من المؤكد أنه اتهام واه، فما كان بيننا قط ثمة ما أخجل منه بتاتاً أو ثمة ما أخشى قوله أو ما هو موضع اتهام أو إدانة أو حرج، إنني لا أدعي لنفسي الطهارة في حياتي ولقد فعلت أشياء كثيرة قد يستنكرها الناس، وفي مخطط عملي أن أعرض للناس التجارب التي مررت بها في حياتي، ولا أخالني أقل جرأة في قول الحق حتى على نفسي من «أندرية جيد» مثلاًً، ومن بين هذه التجارب من أهمها ما فعلته وهو مستنكر، مبيناً لماذا فعلته لكي يفعله أو يتجنبه كل حالة على حدة، وليستخرج منه العظة من ياتي بعدي. لكنني في جميع الحالات التزم بقانون أخلاقي صارم لا أحيد عنه أسميه قانون الضمير والشخص الثاني، إذ أنني لا أفعل فعلا قط لا يضع في اعتباره اعتبار الشخص الثاني واحترامه وحبه بالاستنكاف عن استغفاله أو استغلاله أو إكراهه أو ابتزازه بحاجة لدي أو بضعف فيه، ولا يمكن أن أفعل فعلا يكون جلفاً أو يؤدي في جو من الابتذال والاستهتار بكرامة الإنسان، أو يكون مخالفاً لمبدأ من مبادئي، أو لما أراه الحق ما وسعني ذلك. أما ما عدا ذلك فلا يهم، لذلك فأنا مطمئن من أنني أحيا حياة أخلاقية وضميري حي وحساس، وأنني منسجم مع نفسي تمام الانسجام تتملكني طمأنينة داخلية ورضاء وقناعة ووجدان يفيض بحب عظيم للناس وللفكر وللنضال وللحياة، تزجرني معرفتي بقدر نفسي الضعيفة الجاهلة، ويهبني الحكمة ادراكي بأنني هامة اليوم أو الغد، ثم لايبقى من العظام الرميم الا الاحاديث والذكر، واذا كان لدينا الحد الضروري من التمييز والمعرفة كنا بمنجى، إذ المعرفة مصباح البصيرة وهادي الضمير.
وجاءني الرفيق الفنطوط يقول لي بحزم متكلف تتراقص عيناه بجذل خبيث «إنك مدعو للتحقيق»... تاني؟!! وبطبيعة الحال رفضت حين عرفت مادته، وكان هذا الرفض ذروة كل رفض حبسته في نفسي، وعلى رأس ذلك استنكافي الوقوف باتضاع امام قضاة هم رصفاء لا يبذونني حكمةً او علماً او ذكاءً.. وحمدوا الله على رفضي، وإن كنت كثور المصارعة مكتوبا عليه أن يقتل في الحالتين انتصر أو انهزم، لأن القضية لم تكن قضية عدالة واخلاق، ولكن قضية موقف سياسي.. قضية رفيق ليس مجرد عضو عادي على وشك مغادرة الحزب، وكنت واثقاً من نفسي وفي مقدرتي على رد الهجوم الوشيك مهما بلغ من عنف ولا يحزن من كان الحق معه.
حين وقف عضوا اللجنة واحدهما ما يزال فيها حتى الآن، امام محكمة كوستي بتهمة معينة، كانا متأكدين من ان اجراءات العدالة البرجوازية تسمح بقدر معين من الضمانات للمتهم، ولا تحكم بغير قانون او شهود عدول او ادلة كافية وتفسر الشك لمصلحتهما كما فعلت. ولقد افلتا. اما محكمة «بيريا» هذه فلم يكن همها تلك الليلة المظلمة البحث عن الحقيقة ولم يكن همها الحقيقة او العدالة، لأن عقليتها ذرائعية «راجع تبرير ستالين لمؤرخ حياته ميرفي حول قتل الحارسين في سرقته المشهورة بتفليس»، بل كان قصدها وصم شاعر حمل عمامته وعصاه وقال اني ذاهب فلم يكن بد من ان يسبق الطرد المغادرة والتجريم المفارقة، وقد كان الشاعر على حق حين أخذ يردد لهم ما قاله جيوردانو برونو لقضاة التفتيش «إن محاكمتي هذه ستسبب ذعراً شديداً لكم لا لي».
«وانتهى.. ثم الذي قد دبروه قتلوه واستكانوا للفرار قبل أن يفضحهم ضوء النهار قبل أن تبصر عين الشمس في الفجر الجريمة».
أرادوا أن يجربوا سلاحهم الجرثومي فوراً، ولكن سرعان ما منوا بالخيبة لأن الشاعر وقف أمامهم بطول قامته ولم يستخر او يتخاذل يواجههم بحقيقة أكبر مما لديهم. ثقة الشخص الثالث فيه ثقة لم تمنع حديدية تنظيمهم من التسرب إلى داخلها.. على المك مثلاً عصى تهديدات الفنطوط الحزبية بعد السماح لي بنشر قصتي «الهجوم الليلي» في صحيفته الجدارية، حتى اضطروا الى كسر دولاب الاحمدي.. كان ايضاً شيوعياً.
وسرقة الصحيفة وخفض علي المك، وجاء الي شيوعيون آخرون يؤكدون لي كامل ثقتهم واندهاشهم لما يجري من هجوم سافل وسباب رخيص على رؤوس الاشهاد.
ظللت واقفاً على قدمي أجالدهم، ولكنني كنت اتجلد فقد انهار مثلي الأعلى، وتكشف عن خساسة وضعه، ومررت بالحالة التي تؤدي رأسا الى الانتحار، الحالة التي انحصر فيها شيبون فقضت عليه، ولكن ثقتي بنفسي وبالناس وبشعري صديقي في الملمات هي التي جعلتني أحس بالقدرة على مواصلة النضال في سبيل الناس حتى بدون الحزب.. كان الحزب اداة فقدتها فليكن الشعر اداتي الباقية وبه لن اموت كخادم لشعب، أما الغبن الذي حاق بي والتشهير الذي حدث فهو ثأري المقيم حتى أضع هامتي في دم الخسة والدناءة وقتلة النفس الزكية بغير حق، وانني لكفيل بذلك ولا أضرب إلا رأس الخسة وصندوق بندورا «أنانسي» الكجور الكبير.
أنا لم أمت كشيوعي اذا كانت الشيوعية هي الحق والانسانية وخدمة الناس والحقيقة، بل مات ألق الحزب الشيوعي ونضارته بأساليبه الذرائعية، ولما هو مسخر لخدمته لئن ترحلت عن قوم وقد قدروا الا تفارقهم، فالراحلون هم. لئن تركن ضميراً من ميامننا ليحدثن لمن فارقنهم ندم» كذبوا وخدعوا أنفسهم فأنا الذي طردتهم كما يطرد الكلب الجربان. ومعذرة لخيرين من أعضاء الحزب الضائعين في عجيج وعجاج زفة الرئيس.
واستمرت حملة التجريح تزحف نحوي دباباتهم من حين لحين لسحقي والقضاء علىّ، وانا كما ترون عائش، وصاروا لما انهلت عليهم بالنقد يلمزون ويغمزون كعجائز النسوة، كأنما يخفون حقائق رهيبة.. ارموا عصيكم يا كهنة فإن القول يجر القول والذي لا يقال كثيراً، واذا كنت يا قارئي الفاضل اتحدث بكل هذه الثقة فإنني لاؤكد انني سأجز نواصي رقاب صلفة واضع ميسمي على نضارة جباه مقدسة تطلع منها شموس. الكلام دخل الحوش يا مراؤون اتبلعون الجمل وتعفون عن الابرة.
ريتشارد رايت الكاتب الزنجي الأميركي، مؤلف عدة كتب من بينها «الصبي الأسود» و«الزنجي» يحكي في الاسطر التالية ما كان بينه وبين نيلسون المسؤول السياسي عن الشيوعيين الزنوج، قال لي نيلسون:
«لقد ناقشنا أمرك ونحن نعرف قدراتك» اننا نريد منك أن تعمل معنا، إذ لا بد من تكسير أساليب عملنا الضيقة وشق طريق إلى رواد الكنائس والاندية والى الطلاب والمهنيين والطبقة الوسطى».
قلت له برفق: «لقد تعرضت للقذف والشتم فهل هذا هو تكسيركم للأساليب الضيقة؟»
رد بقوله: «انس هذا» ولم يذكر القذف والشتم، ومعنى هذا أنني إن لم أطعهم فسوف يبدأ القذف والشتم من جديد، وفي الليلة التالية زارني شيوعيان في بيتي وهما يتظاهران كأنهما لا يعلمان بما جرى في اجتماع الوحدة فشرحت لهما ما حدث بكل صبر فكان تعليقهما: «قصتك لا تتفق مع ما يقول نيلسون» نامين بذلك عما حدا بهما لزيارتي، فسألتهما وماذا يقول نيلسون؟ فأجاب يقول انك متواطئ مع جماعة تروتسكية، وانك دعوت أعضاء الحزب للاقتداء بك في التخلي عنه» صحت فيه «ماذا؟ هذا غير صحيح لقد طلبت اسقاط عضويتي ولم أثر أية مواضيع سياسية» ثم طفقت أقلب الأمر واتساءل ماذا يعني هذا؟ ثم هبت بهما «اسمعا! لربما كان ينبغي على جعل مغادرتي للحزب غير ذات شوائب. فاذا كان نيلسون سيتصرف بهذه الطريقة فسوف استقيل «بيد أنهما أفهماني أن «لن تستطيع الاستقالة»، سألتهما «ماذا تعنيان بهذا القول؟ أجابا بأن «ليس لأحد أن يستقيل من الحزب الشيوعي» فأخذت أرمقهما ملياً ثم اطلقت ضحكة وأردفت «انكما تهرفان»، ولكنهما أوضحا الأمر «إنك إذا استقلت سيعلن نيلسون للملأ أنك طردت من الحزب ساحباً بذلك الأرض من تحت قدميك، فالناس سيظنون أن ثمة شيئاً غير سليم اذا خرج شخص مثلك»، وتميزت من الغيظ «هل الحزب بهذا الضعف وعدم الثقة بالنفس، بحيث لا يقبل ما قلته في اجتماع الوحدة؟ ومن الذي فكر بهذه الاحاييل؟»، وفجأة بدأت أفهم، فلقد شعر الحزب الشيوعي بأن عليه أن يغتالني أخلاقياً لمجرد أنني لم أرغب في التقيد بقراراته، وتجلى لي الآن أن رفاقي يمثلون مسرحية من نسج الخيال لا صلة لها بتاتا بالواقع. فقلت لهما: «بلغا نيلسون أنه إذا شن حرباً علىّ فإنني ورب العرش سأشن عليه مثلها، أما إذا ترك الأمر كما هو فلا بأس. أما اذا حسب نيلسون انني لن أرد عليه حرباً بحرب على رؤوس الاشهاد فهو مخبول».
ولم استطع معرفة ما إذا بلغ كلامي هذا نيلسون أم لا، ولم تقم ضجة علنية ضدي، ولكن هبت زوبعة عنيفة في صفوف الحزب نفسه، فوصمت بأنني خائن وشخصية مهزوزة وشخص فقد الايمان.
لقد بلاني رفاقي وعرفوا أسرتي وأصدقائي، كما خبروا علم الله فقري الموجع، ولكنهم لم يستطعوا التغلب على خوفهم من تفردي الذي كنت اتصرف وأحيا على ضوئه، وفردية سكبتها الحياة في مسارب عظامي».
عن كتاب «الاله الذي أخفق» شنشنة أعرفها من أخزم وما أشبه الليلة بالبارحة.
التحقت بالحركة الشيوعية عام 0591م بمدرسة حنتوب الثانوية حين أسس فيها أول وحدة شيوعية - عبد الوهاب سليمان والشاعر محمد عبد الرحمن شيبون والعبد لله، وطرد ثلاثتنا مع آخرين في أول إضراب فيها لم يستطع المستر براون. وكان كالأب المحبوب المخوف كبح جماحه.
وكان سبب طردي قصيدة هاجمت فيها الاستعمار، ومنذ ذلك الحين صار شعري قوساً في يد الشعب، وانني لأذكر التحدي الذي وجهته للحاكم العام شخصياً لتعطيله جريدة الصراحة بعنوان «إنها أقوى منك» وبذكر الصراحة لا بد من كلمة تقال. لقد خدم الأستاذ عبد الله رجب الشيوعيين وما كان شيوعياً، وأتاح لهم منبراً جريئاً، وتحمل في سبيل ذلك ما تحمل، وصرف عليهم بسخائه المعهود، فكانوا نملاً حط على عسل، حتى اذا قضوا وطرهم انقلبوا عليه انقلاب لئيم زنيم. وما كان عبد الله رجب خائناً لوطنه في يوم من الأيام، ولا بائعاً لضميره، ولكنه ابن وفي من أبناء الشعب البررة، ورجل شجاع وعنيد، ولعل عناده مسؤول عن كثير، ومعلم ندين له بأكثر مما يتصور او نتصور بأن من بناة قادة الحركة الوطنية، ومع ذلك جوزي جزاء سنمار، حتى صار يتطاول عليه ويتواقح من هو أصغر سناً من ابنه الفاتح، وانها لتربية راشد الميكافيللية «لغدر أنانسي أغنى لمجد الخداع للؤم الطباع، له ولمستسلم بانصياع، أغنى كمال الجريمة».
«يتبع»
32يوليو 8691
رقم العدد 3661


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.