سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الليلة الأولى المحترف الثوري كالراهب والزاهد والمرابط والفدائي أوراق خضراء : الصحافة تفتح الملفات القديمة صلاح أحمد ابراهيم و عمر مصطفي المكي وجها لوجه
«أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله» «حديث شريف». «لكي تتعلم كيف تحب عليك أن تتعلم كيف تكره». «لوسن» فهم في منامي، وهم في قيامي، وهم في اضطرابي، وهم في السكون وهم في دمي، في رؤى ألمي في شبا قلمي، في الغناء في اللحون اليهم دعائي، وفيهم رجائي، ومحض ولائي، وفرط الحنين وسربال شعري، وبلبال صدري، وسري وجهري، وزيني وشين، أعاتبهم للذي يعرفون وما هو فيهم ولا يعرفون.. «غضبة الهبباى» نورا... مزيداً من النور «جوته المحتضر» هزّ بلال رمحه واندفع نحو بغيضه يرعد صوته بانفجار حقد رهيب هادراً «رأس الكفر أمية ابن خلف «لا نجوت إن نجا». لم يكن حقده الشخصي وحده هو حافزه في ذلك الفعل، كان ثمة ما هو اهم واكبر في نظره، حقد الفذ على عدو عقيدته وهي أعز ما في حياته المقفرة إلا من الاذلال والنكد.. حقدان في حقد ما تداخلا تداخل اللحمة والسداية في المطرف، وها الحقد الأغضب يتعتق فائرا في دثان الروح التي تمهل ولا تهمل الا انتصاف لشيء ينتظر فهو برلمان يتفاقم في أعماق حافظة تستمسك بالثواب والعقاب، ولا ترى حلماً بغير مقدرة. الحقد غضب أزمن كالربح المركب يتغذى بالأيام والشهور وينمو نمو الأطفال الممرورين في خيام اللاجئين، فهو نبيل ما كان في سبيل قضية نبيلة، كبير ما كان من أجل هدف كبير، مقدس ما كان حقاً واضحاً قد غبن وعدالة أرجئت وجزاء تأجل، وفي القصاص حياة لأولى الالباب. ربما لعين هذا المنطق، صاح محمد «خير ضنء كفيلة في قومها» والفحل فحل معرق ان اقتلوا «النضير» الشقي لا أقبل فيه شفاعة أو فدية لما أسلف من بغى أثيم وأذى لئيم وكما تدين تدان. يقولون ما أكثر ما يقولون ويتقولون، إن صلاحا يصدر عن حقد شخصي تجاه قداسة زعيمهم النزيه المنزه، كتب علينا أن نعيد القول لمن لا يفقه القول، بأن ليست ثمة ضغينة شخصية كما يتصورونها بيني وبين قداسة زعيمهم، اللهم إلا من حيث أنه قداسة زعيمهم، وهم على ما هم عليه من شناعة وبشاعة وتحريف وتطفيف، إلا من حيث أنه رأس الكفر، إلا من حيث أنني مررت بمحاكم تفتيشه وبلوت «هملرة» و«ايخمانه». لقد ألم القارئ الفاضل بعينه من إمكانياته التدميرية ومقدرته على تحريك الادوات البشرية، في ما نشر في الأيام الماضية، وفي ما لم ينشر وفي ما قيل في شتى المجالس في مختلف بقاع القطر أينما وجد محرف ومؤتفك ومنصاع ولقد ظللت منذ مفارقتي الحزب الشيوعي أتعرض لمثل هذا الهجوم دون هدنة اينما جاء ذكري «أو تذكرون محمداً تحت وابل من حجارة صبيان الطائف، «وفي ثياب سال منها الدم والفرث من جذور القى عليه وهو ساجد بمكة او هو منطو على جرح سائد من حديث الافك بالمدينة؟» فاذا كان ثمة جرح شخصي فهذا حق. إذا كان ثمة عنصر ذاتي في هذه القضية التي قمت انافح عنها متحملاً تبعاتي التاريخية في وجه عدو أقوى بكثير بحذر حسان الشاعر يستل محمدا من قريش كما تستل الشعرة من العجين فهذا حق. ولكنني لست من يقدم ذاته الفانية وشخصه الحقير على الجماعة، ولست ممن يقدم الذاتي على الموضوعي، وانا من لديه احساس هائل بضالته وبالموت الذي هو حق أيضاً، وبالشخص الثالث الذي هو انت يا قارئي ويا معاصري ويا من يأتي غدا او بعده، وأنا لديه إحساس هائل بالحق وإحساس ما حق بالأمانة المعروضة، ووجداني تدوي فيه حركة التاريخ كدوي الدم في الصماخ برهبة رهيبة من حكم التاريخ. كل هذا يعصمني ما وسعت العصمة من خطأ الاستسلام لخطيئة عبادة الذات، والوهم الجائر ومعارك الباطل وحمية الجاهلية، ويجعلني ما أبصرت البصيرة اتحسس موطئ قدمي، وانتقي ثمرات لساني قبل أن تسقط «ولات حين مناص»، فوخز الانسان باللسان أشد من وخزه بالسنان. لا انكر اذن أن ثمة قضية شخصية في المعركة قائمة حتى يعتذر المسيء او اهلك، قضية انتصافي لنفسي ممن أذاني في جلافة ورعونة، وحاول اغتيال شخصيتي بالكلمة السنينة القاتلة التي غالت «شيبون» من قبل «شيبون حنجرة الشعب صوت بلادي الغني المثير»، ولئن كانت ثمة قضية شخصية سأتعرض لها فيما بعد فإنني أؤكد تأكيداً حازماً جازماً أنها ليست وحدها وليست اساسا القضية. إنني أستمد الشجاعة من صراحة الحق وباسم الجماعة، ولانني لا أرى مخرجاً لقومي من محنتهم ولعنتهم إلا بكتيبة صدام تألمظي بالغيرة والحفاظ وتشبع بنظرية علمية تقدمية إنسانية، من أجل هذه الرؤية وهبت الحزب الشيوعي غير نادم ألذ سويعات العمر وأحلى سني نضارتي ورونقي، وهبته وقتي وراحتي وأماني ومستقبلي وقلمي وألمي، ودراهمي المحدودة معرضاً خلال ذلك رهطاً. جد أثير وعلاقاتي بذلك الرهط الأثير لكثير من الألم والامتحان العسير، وقلبي يتفطر إلى أن تفتحت عيناى على خزي مقيم وانتهازية مكينة متاخمة للسماء كما لو انها كفر ناحوم، بحيث لم يبق لدي غير أن أعمل بكلمات ابن مريم «وإن مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا الى شوارعها وقولوا حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه عنا»، لا كفرانا مني بالدور الذي لعبه وينبغي أن يلعبه الحزب، ولا تبخيساً مني لأشيائه ولا زراية بغالبية اعضائه وهم على ما هم عليه ابناء بررة للشعب لا يقلون حباً مني لولي نعمتي وأميري الشعب أو رغبة في التلاشي فيه، او اندفاعاً في الذود عنه وهم من بعد عروق التبر إن علاها التراب، ولكن لأن باطلاً ساد ذلك الحزب فمسخه الى كلب و«كاليبان» له وساقه ويسوقه الى باطل إنها في المحل الأول القضية العامة التي لبست أكفاني من أجلها وتقبلت عن ريب خاطر قدري أن أتلقى في سبيلها الشتائم والسخائم وللشعب الذي «أحببته حب الذي فقد عشقاً» لا زلت أقف شاهراً قلمي لسان العقل والضمير حتى أموت في دروعي جندياً ولا كما يموت البعير، و«للسودان ما نلقى». ويقولون صلاح يفعل ذلك اصطياداً للشهرة و بؤس ما يقولون، فأية شهرة تلك التي يتصيدها صلاح، فاذا هي تشهير، وإذا هي تبذير لعين ما يجلب له الشهرة: طاقته وموهبته ثم أهذا أفضل طريق للشهرة أو الطريق أمام صلاح؟ لقد شيبتني في هذا هود وصاحباتها، ولقد حلاني هذا المركب الصعب عن موارد الصفو والسكينة والإبداع، ويسأل بعضهم لماذا أكتب بانفعال؟ ببساطة لأنني لا أكتب إلا وأنا مضطر وموجوع ومنفعل حتى يشرح صدري. فالحقيقة التي لا تجد لها أذناً صاغية كالهامة الصادية والحكمة التي تحتاج الى تبرير تصيح في الشوارع. الكتابة عندي واجب وكفاح ومسؤولية، وهي مزيج من فكر وشعر، ومزاج يغتلي في كلمات، فويل لي إن صرت انفعل بلا تفكير أو أفكر بلا انفعال، لأن الحياة مواقف والحياة صراع، وهذا بالضبط ما جعل مني شاعراً، بيد أن الشاعر سابق للمفكر وسائق اليه، ثم في من شعبي البدوي عفوية وفطرة بدوية وبساطة طفل، على انني لست خباً والخب لا يخدعني وإن قصرت حيلة عن مباراة «من يقضون ساعات صحوهم كلها يكيدون المكائد». وفي هذا يعبر عني «أقناريو» مؤلف فونتمارا في معرض حديثه عن تخيله عن الحزب الشيوعي الايطالي خير تعبير، اذ يقول «وإذا كان لعملي الأدبي المفتقر إلى معنى، في التحليل النهائي، فلأنه جاء في وقت صارت الكتابة فيه بالنسبة لي ضرورة مطلقة لكي ادلي بشهادة وحاجة ملحة لي اتحرر من وهم مسيطر لكي أقرر المضي وأرسم حدود افتراق مؤلم ولكنه حاسم ومعالم ولاء ما يزال مستمراً.. فبالنسبة لي لم تكن الكتابة ولا يمكن لها أن تكون فيما عدا خلسات محفوظة متعة جمالية بحتة، بل عوضاً عن ذلك استمراراً مؤلماً ومستوحشاً لنضال. أما عن المصائب ونواقص التعبير عن الذات التي على ان اصطرع معها من حين لحين، فإنها تنبثق لا من عدم اعتبار لقواعد الكتابة الجيدة، بل من ضمير مستمر خلال عكوفه على ابراء جراح خفية معينة ربما لم يكن بالإمكان إبراؤها في الإلحاح على احترام تماسكه. فكون المرء مخلصاً لا يكفي كما هو واضح إذا أراد المرء أن يكون صادقاً.. انتهى. ويتساءلون، ولكن لماذا يحيلها صلاح الى قضية شخصية ضد عبد الخالق شخصياً؟ يقول العلم في الانجيل «ويل لكم أيها الكتبة والفرييسيون المراوون لأنكم تغلقون ملكوت السموات أمام الناس فلا تدخلون ولا تدعون الناس الداخلون يدخلون، وستنالون دونة أعظم لأنكم لعلة تطيلون صلواتكم. لأنكم تشبهون قبوراً مبيضة تظهر من الخارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات. وهكذا أنتم أيضاً من خارج تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم مشحونون رياءً وآثاماً. لقد هاجمت عبد الخالق في هندامة مثلاً ذلك الهندام الذي يريل رفاهاً، ولكنها للبيب الذي يفهم ليست مجرد قضية، هذا الهندام هو المظهر الخارجي الذي ظل منه الظاهرة كاتبه العبد لله تتفتح نفسه للهندام الجميل وللدعة، والرغد ما وسعت امكانياته. ولكل إنسان حق في ذلك ولا إثم ولا تثريب فهو مجرد ضعف جميل. ولكن أمين والشيوعي محترف ثوري والثوري كالراهب والمرابط والفدائي صار شخصاً واحداً في المبدأ، يعزف عن ملذات العيش، وأبهة المظهر، وترف الحياة ورفه الملبس من أجل القضية، ينقلب إلى منافق أو أن يجمع بين ضرتين: الاناقة المفرطة والنضال الصلب. يحكى عن بعض شيوخنا الصوفية انه كلما اشتهى حلوا رمى في فمه قرظات لهضم نفسه. وكان قميص العشر والجبة المرقعة والنعل المخصوف رمز الطهارة الداخلية وكان شيوخنا يمارسون نقداً ذاتياً صارما ورياضة روحية قاسية وتجرداً ونسكا، فيصف أبو شريعة موقفه بعرفات «عيب شبابي المرتحل» وهو في ذنوبه «حتة زبل» ثم يخاطب نفسه «بيا نذل» لكي يطامن فيها والنذل غير أبي شريعة. فالرأسمالي والبرجوازي الصغير ليس هو القدوة والمثال. لكي يحاول «أمين» الحزب الشيوعي التشبه به وأن يبذه في أحايين لمجرد أن إمكانياته أكبر من إمكانيات رصيفه الوكيل الدائم في الخدمة المدنية. فالمثل الأعلى لديه ينبغي أن يكون العامل والأجير «كاكي كاسترو وصندل هوشي منه تموت تخليه والسترة الصينية الزرقاء؟». وبهذا المثل الأعلى يتحول المحترف من بروليتاري بالقوة كما هو الشيوعي العادي إلى بروليتاري بالفعل في سلوكه وتصرفاته، في فكره وعمله، في سره وعلنه، مناضلاً بمثابرة وعناد ضد رواسب طبقته القديمة من فردية وتطلع ورغائب ومعوقات حتى يصير واحداً في الجماعة أو الطبقة، مستحقاً بذلك أن يكون قائداً وقدوة، ورائداً ورمزاً فلا يفتش عن الرخصة والمكروه والأمور المتشبهات، وفي الحديث «لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس» فيصف النبي علياً بن أبي طالب بأنه «مخشوشن» في سبيل الله «وعلي» هو القائل أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ثم لا أشارك المؤمنين مكاره الزمان. والله لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل ولباب هذا البر ومناعم هذه الثياب، ولكن هيهات أن يغلبني الهوى فأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى». وكان المسيح يلبس الخشن ويأكل الجشب دابته رجلاه وخادمه يداه - لا «أيوب» الذي يعرف أكثر مما ينبغي!! لماذا؟ لأنها المسؤولية وحب البساطة لحب البسطاء وشجب أي جنوح نحو الانفصال منهم أو البعد عنهم أو مخالفتهم أو التعالي عليهم «يا يونس الأعرج، نحن خدمك وأنت سيدنا» فالمخلصون في دعوتهم ودعواهم يتجلى إخلاصهم في أخذهم النفس بالشدة وكبح جماحها ونهنهة غلوائها في كل شيء يند عنهم من عمل أو مظهر أو سلوك مهما كان ذلك صغيراً أو عابراً. يحكي الأستاذ حسن نجيله عن تجربته بدار الكبابيش الذين ذهب ليعلمهم، وكيف باعد ما بين المعلم والناس مجرد نصاعة في الثوب وتردد على الحمام. إنها مسألة التعرف على الذات في قسم من الناس، وعلى ذلك القسم من الناس في الذات، مسألة «التقمص» بمصطلح علم النفس. تأمل الحديث «اللهم احيني مسكيناً وامتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين» إنه الاتحاد الكلي بين الاثنين وإزالة أي برزخ بينهما. يقول ماوتسي تونغ ولا يوازي شيوعي سوداني يتواقح عليه قلامة من ظفر هذا العملاق الذي هو بلا جدال قمة من قمم قرننا الشماء. يقول ما يلي في «مشاكل الأدب والفن ترجمه كمال عبد الحليم «فبقدر ما تحاول أن تستعرض وبقدر ما تتبختر وتزهو كعبقرية ضخمة أو بطل عظيم، وبقدر ما تجهد لتتعالى، يزداد الناس حدة في رفضهم لعملك وإذا كنت تريد أن يفهمك الناس، وإذا كنت تريد أن تندمج مع الجماهير، فعليك أن تعقد العزم على أن تمر بعملية صقل طويلة ومؤلمة في بعض الأحيان. دعوني أحدثكم عن خبراتي الخاصة. دعوني أخبركم كيف تغيرت أحاسيسي نحو الناس. كنت ذات يوم طالباً.. اكتسبت في المدرسة عادات الطلبة وسلوكهم.. كنت على سبيل المثال أرتبك عندما اضطر إلى حمل متاعي على قصبة من الغاب أمام زملائي الطلبة. كانوا مرفهين إلى حد أنهم لا يقومون على حمل أي ثقل على أكتافهم، وكانوا يستهجنون مجرد التفكير في حمل شيء في أيديهم. كنت في ذلك الوقت مقتنعاً بأن المثقفين وحدهم نظيفون، وأن العمال والفلاحين والجنود ليسوا نظيفين. وفي خلال الثورة بدأت أعيش بين عمال وفلاحين وجنود. وبدأت أعرفهم شيئاً فشيئاً، وبدأوا هم أيضاً يعرفونني. وعندئذٍ فقط تغيرت الأحاسيس البرجوازية تغيراً جوهرياً. ومنذ ذلك الوقت وإلى الآن حينما أقارن بين المثقفين الذين لم يتغير تكوينهم وبين العمال والفلاحين والجنود، فإني أتبين أن عقول هؤلاء المثقفين لم تكن وحدها غير نظيفة بل أجسادهم هي الأخرى. ان أنظف ما في العالم هم العمال، ومع ان أيديهم قد يعلوها التراب وأقدامهم قد يلوثها روث البهائم، إلا أنهم مع ذلك أنظف من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة. هذا ما أعني بالتحول في الأحاسيس: هو انتقال من طبقة إلى أخرى انتهى. إذن لا يكفي أن نلزم الكادحين بالفكر وحده بل بالعاطفة أيضاً وبالانتماء الوجداني المعبر عنه بكل المظاهر دون إسفاف أو سوقية أو ابتذال أو مغالاة في التبسط. (الصحافة) 16 يوليو 1968م رقم العدد (1657) «يتبع»