رسمت المساجلات الصحفية لنفسها طريقا فارقا في العقود الماضية من تاريخنا المهني، فقد كانت ملح الأوراق في بلاط صاحبة الجلالة الملكي، وزاد المجالس الانيقة في ارجاء البلاد، ومعين الفكر والمتعة وحسن الذوق الذي لا ينضب لجمهور القراء، والمتبتلين العاشقين لمحاسن الكلم. ولما كانت ستينيات القرن الماضي من أزهى حقب الفكر والكتابة، لانها شهدت اصطراع تيارات سياسية وفكرية وثقافية مختلفة في المشهد السوداني، فقد افرزت اقلام عملاقة وعقول حرة تحلق في السموات دون حتى قيود دنيوية. ومن اشهر تلك الاقلام التي تساجلت فكريا على صفحات جريدة « الصحافة» في اواخر الستينيات الراحلين صلاح احمد ابراهيم وعمر مصطفى المكي. وتعيد الصحيفة نشرها اثراءً للساحة الفكرية والصحفية. وفيما يلي تواصل «الصحافة» نشر ردود الراحل صلاح احمد ابراهيم على ما خطه الراحل عمر مصطفى المكى. نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ولم يهن بيد التشتيت غالينا لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب نفح العود 1- عمر وحديث الإفك الآن حصحص الحق. والحق كما قيل ابلج والباطل لجلج. يقول كونفشيوس «الرجل الشريف يهتم بشخصيته والرجل الوضيع يهتم بوضعيته. الرجل الشريف يصبو للعدالة ، والرجل الوضيع يصبو للوصول. الظربان ينم عن افرازه. كما ان طيب الورد مؤذ بالجعل لقد حسب عمر مصطفى المكي. والعقرب التي من وراء خادمتها الخنفساء ان سيلا عارماً متتالياً من الشتائم والافتراءات بامكانه ان ينال من شخصي الضعيف او يضعف من حجتي القوية، لقد حسب عمر مصطفى المكي والذين من وراء عمر مصطفى المكي ان الارعاد والارزام وخوار العجول الهائجة بامكانها ان تخرس لسان الحق وتطفيء قبس الحقيقة. وتقطع أصبع الاتهام. ٭ حدثني الدكتور احسان بأن صديقه محمد نجم لم يقبل ادارة مكتب فرانكلين ببيروت إلا بشرط ان تكون كل الكتب التي يترجمها المكتب ولا نشاط للمكتب غير الترجمة، ثقافية بحتة ومن طراز رفيع. والا يتحول عمله الى نشر الكتب المعادية للشيوعية.. وقد حرص الدكتور نجم علي ان يسخر امكانيات المؤسسة لخدمة الثقافة العربية مباشرة وغير مباشرة. وعلى اثراء الفكر العربي بانتاجها، فعلى سبيل المثال يشرف الدكتور احسان عباس الان- شفاه الله وعافاه وامد في عمره المثمر- على وضع معجم علمي عربي ضاف يتم انجازه في اكثر من عشر سنوات هو الاول من نوعه وقد كانت تساعده فيه الكاتبة المرحومة سميرة عزام الموظفة بالمؤسسة وهناك عرفني بها احسان. وقبلت الترجمة شريطة ان يكون الكتاب ادبياً بحتاً وان يكون لي حق نشر رأيي بجانب أى رأي اراه مخالفاً لوجهة نظري، وهذا ما يؤكد لضميري حريته، ووافق احسان وزاد على ذلك بأن هذا حق بطبيعة الحال ووقعت على العقد وهو عقد واضح ونفسي مطمئنة الا شيء من حتى ولا إثم ولا تثريب. انا لا ادافع عن مؤسسة فرانكلين مثلما لا ادافع عن قانون الإعارة والتأجير الامريكي الذي كسب به الاتحاد السوفيتي الحرب الماضية بتلك الصورة، ولا ادافع عن التعاون مع مؤسسة فرانكلين مثلما لا يستطيع شيوعي سوداني سافر الى امريكا على نفقة المعونة الامريكية ان يدافع عن بعثات المعونة الامريكية وان استفاد منها.. ولكنني اذكر المرجف عمر مصطفى بأن مؤسسة فرانكلين هى الآن في طريقها الى قلعة الاشتراكية نتيجة اتفاقية التبادل الثقافي المبرمة اخيراً بين الاتحاد السوفياتي وقلعة الرأسمالية، واذكر المرجف عمر مصطفى بأن كثيراً من الكتاب السوفيت منهم الشاعر (يفتشونكو) زاروا قلعة الرأسمالية بدعوة من مثل هذه المؤسسة التي لا تملكها وليست جهة تمويلها هى المخابرات الامريكية، مفهوم؟ نعم انها تعمل على نشر وتحبيب الثقافة الامريكية التي عمودها الفقري الفكر الرأسمالي وليس موقف الكتاب التقدمي هو اخفاء الفكر الرأسمالي عن الجمهور القاريء بل فضح الفكر الرأسمالي واشاعة الفكر التقدمي فالحكم على الترجمة غير الحكم على العمالة ، والترجمة ليست تجسساً وناقل الكفر ليس بكافر وما نقلت كفراً بل فكراً. مفهوم؟ فلم اكن اذن غير اجير باع قوة عمله لا مأجور، وقوة عمل الكاتب في قلمه، وما بعته إلا اضطرارا كما يبيع العامل للرأسمالي قوة عمله اضطراراً. وقد ترجم لفرانكلين كثير من الكتاب التقدميين الذين لم يقرأ لهم عمر مصطفى لأنه لا يقرأ وقد صارت لي صلة شخصية بمديرها الدكتور محمد يوسف نجم لأنه صديق حميم لصديقي الحميم الدكتور احسان عباس وليس هو من يقال عنه انه جاسوس والشهادة لله. انني افتخر بترجمتي لكتاب النقد الادبي لأنها ترجمة جيدة رغم ما فيها من هنات واعد الكتاب مجهوداً رفيعاً من مؤلفه وقد كان الكتاب يباع بالمحطة الوسطى ووزعت نسخاً منه على اصدقائي وانا فخور وانصح القاريء المجتهد بقراءته والاستفادة منه. أما عمر مصطفى النجاركوك فلتحرقه نيران حقده وحسده، وليسأل المرائي نفسه اين كان يعمل قائده مترجماً حين عاد من مصر فنقده رفاقه نقداً شديداً ايام كان رفاقه ينقدونه، انه لاقرب الى التجسس مني ان لم يكن بالفعل جاسوساً (هنري كورييل). الفرية رقم 01: قال الكويذب انني قضيت صيف 0691 مصطافاً في سفوح بيروت وشواطئها بدعوات مؤسسة فرانكلين التابعة لوكالة المخابرات الامريكية ، من قال لكويذب انها تابعة لوكالة المخابرات، ومن قال له انها دعتني.. لا دعوة واحدة بل دعوات اذا ذهبت لبيروت فبحر مالي يانجاركوك، ويقول الكويذب هل يمكن ان تفتح مؤسسة تابعة للمخابرات الامريكية ابوابها وخزائنها لشخص كان حتى قبل ذلك بثلاث سنوات احد قادة رابطة الطلبة الشيوعيين بجامعة الخرطوم ام ترى المخابرات الامريكية لا تعرف شيئاً الخ... تصور! أبوابها؟ خزائنها؟ حيلك يا فنطوط فما هذا الهتر؟ ثم راجع قائمة من ترجموا لفرانكلين او نشرت لهم فرانكلين من خيرة الكتاب التقدميين لكي لا تصول وتجول بكاذيبك كريح ابليس وانت من بعد لست بكاتب بل مجرد صوت سيده الذي لا يجد الاحترام من سيده حين يأمره بتأففه المعهود (هاجم صلاح يا بخيت!) فيهاجم بخيت صلاحاً وصلاح لا يأبه لا بالقرد ولا بالقرداتي. الفريه رقم 11: يقول خبير التلفيقات هل حدث يا صلاح أحمد ابراهيم ان وجدك احد كبار رجال التربية والتعليم الآن بالمعاش اكثر من مرتين في منزل خبراء المعونة الامريكية، ويسترسل بكل صفاقة في نفاق اشبه به وهو ما اسميته بازدواجية المقياس الخلقي لدى الطغمة الانتهازية، قائلاً هذا الرجل ( وطني نظيف عرف بمواقفه الجريئة ايام الاستعمار) عجبي! صلاح جاسوس لأنه شوهد هناك- أما من شاهده هناك (فوطني نظيف) الله الله! طيب وما الذي ذهب به الى وكر الجاسوسية ليقابل صلاحاً العميل رقم 7001؟ يا عالم! مالكم كيف تحكمون؟ اود ان اسجل قبل كل شيء احتقاري لهذا (الوطني النظيف) لانه قوال مرجف مشاء بنميم، وهو فوق ذلك وضيع وضاع ان قال ان الاضطراب قد بدأ على بعد ان شعرت انني مأزق. اي مأزق؟ لم يكن ثمة احد من رجال المعونة من اصدقائي حتى ازوره في بيته، لقد ذهبت الى مكاتب المعونة حين كانت في مكاتب مصلحة الضرائب حالياً (وكانت لها مكاتب بمباني وزارة المالية فيما بعد) حيث ذهب عشرات الشيوعيين عند سفرهم على حساب المعونة الى امريكا لمقابلة خبرائها ومنهم (الوطني النظيف) اما انا فقد ذهبت لتوقيع عقد بمبلغ زهيد لقاء ترجمة قاموس منزلي لا يتعدى أسماء الاواني والاثاثات والفواكه والخضروات والمشروبات والجمل الضرورية اللازمة للمفاهمة في البيت والسوق. الشيوعي يدخل مكاتب المعونة وعمر مصطفى لا يفتح فمه الذي هو كالجرح تسيل كلماته صديداً. ويدخل (الوطني النظيف) مكاتب المعونة (لماذا؟ لم يوضح لنا النجاركوك) ويذهب يحكي عن صلاح واذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وعمر مصطفى يطري عليه حتى اذا دخلها صلاح لعمل واضح محدد بمبلغ واضح محدد وهو فوق ذلك مال حر مستحق يبني سيادته من الحبة قبة ويستخلص النتائج المذهلة فليسأل عمر مصطفى زوجة احد رفاقه باللجنة المركزية وهى تعمل في ذلك الوكر الذي دخله عن مزيد من التلفيقات، وليسأل رفيقاً له اخر عاد من الولاياتالمتحدة كيف سمحوا له بالدخول الي الولاياتالمتحدة وهو بعد في قيادة الحزب الشيوعي ان هو الا النفاق وازدواج المقاييس.. سؤال سأله الجميع لماذا سكت عمر مصطفى عن عمالتي وجاسوسيتي طيلة هذه المدة ابتداء من عام 0691؟ ومنذ متى كانت المجاملات والصلات الشخصية تحكم موقفنا من العمالة والجاسوسية وخيانة البلاد؟ فان صح إدعاء عمر مصطفى الكويذب عني فهو اذن انسان على استعداد للمساومة بالمباديء والتواطؤ واحتمال الخيانة وتغطيتها. وقد يأتي اليوم الذي يضطر فيه للقول عن ذلك (الوطني النظيف) انه ايضاً كان عميلاً وجاسوساً مع صلاح منذ 0691 متى ما برهن ذلك الشخص على انه وطني ونظيف لا يخاف في الحق لومة لائم. لقد ظل موقفي العام من الاستعمار ومن الاستعمار الامريكي بصفة خاصة ومن الصهيونية بالاخص، موقف من لا يعرف المساومة او الرفق.. والمتتبع لما اكتب او اقول يعرف عني هذا، وشعري ينطق بهذا والصحافة تحمل عني هذا.. ومحاضراتي ومناقشاتي حين كان بعض الشيوعيين يتباكى على كنيدي كنا نفضح آل كينيدي والاستعمار الامريكي (راجع الايام صفحة علي المك) ولا غرو ان فعل بعض الشيوعيين هذا فرئيسهم في معرض تحليل سياسي لم يتورع عن الثناء على اعتدال كنيدي وكأنه خرتشوف اخر. انني لا ادافع عن نفسي بهذا فلست مسؤولاً إلا امام الحقيقة، ولن اسطر غداً مقالة لها ظل ظليل لكي ابرهن على موقفي المناويء من الاستعمار الامريكي والثقافة الامريكية الاستعمارية ولكي ادرأ عن نفسي الشبهات فأنا لست منافقاً امثال الكثيرين ولا اخذ موقفاً من اجل عيون احد أو لتصفيق حاد ومرح في القاعة (بين قوسين طبعاً) ولكن اقول ما اراه الحق وما ارى قوله واجبي كمثقف ثوري على نحو ما فعلت في نقدي للسينما الامريكية لنادي السينما، وصلاح من بعد لا يزال صلاحاً، وهو على ما عرف عليه نفسه في (اوراق اعتمادي من قصيدة (فالنتينا في غضبة الهبباي موقفه ثابت كرضوى. طاهر كجبل عرفات واضح كذروة كلمنجارو الناصعة بل كبرت كلمة تخرج من افواههم ان يقولون إلا كذبا. الفرية رقم 21: يقول خبير التلفيقات (ان صلاح أحمد ابراهيم يقوم بلعبة مرسومة ومحددة من جانب الدوائر الامريكية التي يعمل اليوم لحسابها، انه اليوم يقوم بمحاولة يائسة لحساب المخابرات الامريكية للنفخ على نار العداء للشيوعيين) انتهى، اذا كان الشيوعيون امثال عمر مصطفى المكي، واذا كان اعضاء لجنتهم المركزية على شاكلة عمر مصطفى المكي واذا كانوا يرمون مثل هذا القول الخطير على عواهنه دون ان تختلج عضلة واحدة في ضميرهم المكيافيللي فان النفخ على نار اعدائهم واجب وطني. لقد بح صوتي يا اعضاء الحزب الشيوعي، ان ما بيننا وبينكم يقف عمر مصطفى المكي وامثاله وتنهض انتهازية عمر مصطفى المكي فلا تظلمونني بتواطؤكم معه فان ظلم ذوي القربى اشد مضاضة على النفس، ان يونس خرج مغاضباً ، وايوب شكى معاتبا، حين ابتلاني حزبكم بأسوأ ما يبتلى به انسان وشاعر. حين ابتلاني بعمر مصطفى المكي بالحسد والمكر والكيد والكذب في واحد، عضو اللجنة المركزية والمكتب السياسي لا تلغوا عقولكم من فضلكم باسم الالتزام على باطلكم، لا تكتموا مرضكم السري عن الطبيب والطبيب هو النقد والنقد الذاتي فان في ذلك خير للجميع. 3/ بماء افتراءاتك نسقي فولاذ سيف الحقيقة يا مسيلمة! الفرية رقم 31: يتحدث الكويذب عن طلب صلاح أحمد لوساطة احد كبار السفراء للعمل بوزارة الخارجية وعن مقابلة له مع حسن بشير بدار الثقافة حين اكد صلاح لحسن بشير انه لم يترك الشيوعية فقط وانما هو من الد أعداء الشيوعية في البلاد، وذهب الى ابعد من ذلك واعلن استعداده لتقديم تعهد بخط يده وكتب له حسن بشير لوزير الخارجية بأنه شخص متعاون ثم تحدث عن إراقه ماء الوجه وابداء حسن بشير استياءه لحضور صلاح بالقميص والبنطلون. كانت روسيا القيصرية مشهورة بعدم الكفاءة في كل شيء، ذات يوم حكم على ثائر بالاعدام فأتوا «بالموجيك» اهل القرية ليشهدوا الاعدام.. وعندما جذب المنفذ الانشوطة وهوى الثائر انقطع الحبل فما كان من الثائر إلا ان صاح (مسكينة انت يا روسيا: حتى الشنق لا يحسنونه فيك) والآن مسكين عمر مصطفى حتى معلوماته لا يحسن التأكد منها فالمقابلة لم تكن بدار الثقافة بل في نادي الضباط ( يا للهول) وهكذا فاتت على عمر مصطفى فرصة نقزه اخرى على حساب نادي الضباط. مسيلمة مصطفى المكي يكذب بلا حياء، انا لم اطلب قط وساطة احد سفيراً كان او خفيراً لقد جلست لامتحان الخارجية وكنت الاول دون منازع وبامتياز واضح ولكنني استلمت رداً مقتضباً بالرفض وكعادتي قلت وللسودان ما نلقى وسكت ولكن جمال محمد أحمد الذي حببتني فيه دماثته سعى في تغيير هذا القرار بمبادرة منه فأسرني بمعروفه وكنت كلما طلبت منه ان يكف مساعيه رأى ان ثمة جدوى في استمرارها، وجاء من اديس ابابا فاتفق مع صديقه عمر الحاج موسى بأن نلتقي في نادي الضباط ولا تثريب وكما قال السيد المسيح ليس ما يدخل الفم ينجس الفم ولكن ما يخرج منه، وأنا صامت متحرج، ولما كان يقوم آنذاك باعباء وزارة الخارجية فقد ذكر له احدهما موضوعي، ولاريك خلو ذهن الرجل حسبني اعمل بالاذاعة ظاناً انني صلاح أحمد ابراهيم محمد صالح ولم يكن هذا بالاذاعة عندئذ ووعد حسن بشير بأن يبحث في الامر وانتقل الحديث الى مواضيع اخرى لم تكن تهمني ولا اشتركت فيها واشهد انني شهدت خلالها جرأة في القول من جمال وشجاعة مستهترة اكبرتها فيه، ولم اعلن بطبيعة الحال استعدادي لاي شيء ولم ابد (تعاوناً) بل لم انبس بحرف واحد. وحقيقة كطلب جمال قابلت بعدها أحمد خير في مكتبه ولعلني انتظرت خارج المكتب ككل ذي حاجة امام مكتب وزير في يده الامر ووعدني أحمد خير بأنه سيتصل بالداخلية ليرى سبب معاندتها في قبولي وقبل ان يعلنني بشيء حدث اغتيال لوممبا وما كان من موقف حكومة العساكر وانتابتني غضبتي المضرية التي تعصف دائماً في سبيل قولة الحق بكل فرصي الواعدة فنشرت قصيدتي المشهورة راجع غضبة الهبباي ، واذكر ان استاذنا عبد الله رجب علق على فقداني الثقة بسودان العساكر وعلى عبارتي (وانا والحمد لله في بلد ضخم- ضخم كالفيل) وقال أحمد خير لمن توسط لي هذا الذي تريدون مني قبوله- لا والله او شيئاً كهذا وانتهى الموضوع ولم اسف على ما فعلت، ولو كنت في السلك الدبلوماسي لثرت ثورتي تلك بمثل ما فعل نيرودا حين نشر قصيدته (ستالينجراد) ولم احاول التظلم لدى حكومة اكتوبر استنكافا مني على الجرى وراء مصلحة شخصية مستحقة بينما ضحى غيري بأرواحهم، بل ان المحجوب رفضني مرة اخرى لدى محاولة من صديق آخر فصرفت فكري عن هذا الغرض التافه مرددا للسودان ما نلقى والحمد لله على ما منع. كان جمال محمد أحمد هو الذي عرفني بالصديق الذي اعتز بصداقته عمر الحاج موسى وقد حاول عمر ان يذلل لي امر قبولي بالخارجية وانا اقف من محاولاته موقفاً سلبياً بل في الواقع كنت اتحرج منه حتى توطدت بيني وبينه فيما بعد اواصر الود، اسمحوا لي ان انشر النص الكامل لخطاب ارسلته لعمر آنذاك بتاريخ 51/21/0691 والخطاب مكتوب بالالة الكاتبة لاعطائه طابعاً رسمياً يمثل العلاقة بيننا حينئذ بصورة لجمال واخرى احتفظت بها انقل منها الآن واليكم الخطاب: عزيزي السيد القائمقام عمر الحاج موسى تحياتي لك أود ان اشكرك على الاهتمام الشخصي الذي سبق ان ابديته وهو مهما قلت فيه قد اتاح لي فرصة معرفتك عن كثب وتبين كثير من الصفات التي ما كنت اعتقد من قبل ان عسكرياً يتحلى بها: المرونة وسعة الافق السياسي وجو الالفة والصداقة والفهم والتفاهم الذي تشيعه بجانب جاذبيتك الشخصية.. وهذه صفات لو التقى بها اي قائد لكسب ثقة من يلتقي بهم ولكسب. سيدي: لقد ابديت حماساً لقضيتي يعكس في الواقع مدى حماسك للدولة التي تحبها وتحميها.. ولقد فاق حماسك حماسي مما جعلني اقف مرتجاً على وانا ارقب مجهوداتك واغبطك على طاقتك وحيويتك واهتمامك بأمور الناس- وهى كما اسلفت صفات زعامة نادرة، والحق، لقد ورطني معك استاذنا جمال من حيث قصد خدمتي. لقد كتبت اليه ملتجئاً - ومثل جمال يعين من يلتجيء اليه- ارغب في مخرج من بلدي الذي احبه، وذلك حين صار البقاء فيه يعني البرم به، والحياة فيه تعني الموت، وانا لا طاقة لي بمد العون له، يدي مغلولة الى عنقي ولساني مشدود بنسعة. وفسر اخونا جمال كلماتي على انه تحسر على وظيفة صغيرة. ولأن جمال يحب لي الخير، ومن غير ان يستشيرني لثقته بثقتي فيه، جعلك واسطة خير، واذا بك تتسلم الامر كله بكلتا يديك، على تقاليد الشهامة وتبذل قصارى جهدك، وتجمع الوعد على الوعد فاذا حصيلتك في الاخر قبضة ريح.. لماذا؟ لأن القضية ليست قضية صلاح.. ليست قضية فرد لأن القضية ليست قضية وظيفة صغيرة.. ليست قضية موظف صغير، ولأن الامر ليس امر هذا الكبير او ذاك.. وليس وعد هذا الكبير او ذلك. انها قضية وضع بحاله. وقضية أجهزة بحالها.. وقضية مفهوم يسيطر وعقلية تتحكم.. وهذا ما يسبب لي القرحة في قلبي لا الوظيفة الصغيرة. يا اخي عمر.. انا اكتب اليك لاشكرك على ما ابديت.. فلئن اوقفت مجهوداتك فاسمح لي ان اطلب منك بكل احترام وامتنان ان توقف تلك المجهودات، فأنا أبخل بوقتك الغالي من ان يضيع من اجل قضية خاسرة وباعصابك من ان ترهق في اقناع عقيم- في ابساس بلادة هذا الحمار او ذاك، في السعي بين هذه الوزارة او تلك- من أجل موضوع هو بالطبيعة لا يستحق كما انني- ولا اكتمك- لا احب في الجانب الاخر لاسمي ان يطفيء به فلان عقب سيجارته وهو يستمع اليك، او يمزج به علان وسكيه وصوداه وهو لا يستمع اليك، وكلاهما يعتقد انني اتحرق في الخارج بانتظار بسمة رضا وكلمة غفران، لا.. حتى لو امكن لتلك المجهودات ان تنجح فان لي مبدأ اثرت ان التزم به- ان اموت صبراً على القارعة من ان اقبل الدخول بباب الخدم. فأنا لا اقبل حقاً لي- حقاً حلالاً من جميع الوجوه- ان اوهبه تكرماً وتفضلاً فاذا هو وقد انتفى منه مفهوم الحق يتحول الى صدقة وجمالة. ولهذا فانني اقبل هذا الوضع.. هذا الحرمان.. هذه الملاحقة.. بإعتبارها اضطهاداً لي وأهانة احملها في قلبي حتى امسحها. انا كما تعلم يا عمر من اسرة نعيم الدنيا لديها تراب محتقر، ولا زاد لنا فيها غير مثلنا وما نؤمن به. وما نلاقي في سبيل تلك المثل والقيم اتفه من جناح بعوضه، ووالله ما سال لعاب كرامتي يوماً لتلك الوظيفة، ولا اكترثت بها لولا جمال وحماسك، وانا لم ارد نفسي يوماً إلا صلاحاً طالب الحقيقة والمعبر عنها، فالوظيفة لا طاقة لها بحملي إلا الى سن المعاش، وحياتي لها اجل محدود، ولكن كلماتي وذكراي سيعيشان في ذاكرة اجيال واجيال ما مر تاريخ هذه الامة الادبي، فليكن اذن جزءاً من تاريخها الادبي انني حرمت حقي في وظيفة صغيرة- حرمت منه كما في عدة وظائف قبله وكما حرمت منه في الجامعة من اجل سجل لدى البوليس انا افتخر به، لهذا فان مسؤوليتي الحقيقية هى نحو كلماتي ونحو الحقيقة في جميع مجالات نشاطي معبراً عنها بتلك الكلمات التي هى في عين الوقت سلاحي وقوتي ومجدي، فشكراً للذين رفضوا طلباً تقدمت به للوظيفة الصغيرة، وشكراً للذين اصروا على رفضي مرة اخرى فكانوا منطقيين مع عقليتهم، شكراً لأنهم نبهوني الى ما كدت اسهو عنه وهو ان وظيفتي الوحيدة هى قلمي، وان موقفي الوحيد هو بجانب المضطهدين، وانه لا مهادنة مع الاستبداد، فليكتب التاريخ ان صلاحاً لم يتدن من اجل طلباته للحاكمين واذا شاءوا ان يحرموني بعد هذا من كل شيء اخر- كل شيء اخر- فليفعلوا على بركة الله- فليس من عاش يعدم قوتاً وليس من مات يعدم قبراً واكرر شكري لك ولجمال) انتهى الخطاب. 3 سبتمبر 8691 رقم العدد 9961