اعلن المشير عمر البشير رئيس الجمهورية امس الاول نهاية عهد التمكين لدى مخاطبته اللقاء الثالث مع قيادات الخدمة المدنية الذي نظمته الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وقال» هدفنا تمكين الخدمة المدنية حتى تقوم بواجبها وتصبح الأداة الفاعلة لتحقيق طموحات الدولة السودانية». واعلان البشير لانهاء تطبيق سياسية التمكين لاعضاء ومنسوبي المؤتمر الوطني، المستمرة لاكثر من «22» عاما، قد يمثل بشارة لالاف الخريجين الذين يشتكون من تلوين عمليات الاختيار للوظائف العامة في البلاد، لانه يتزامن مع طرح اكثر من جهة حكومية لعدد كبير من الوظائف عبر لجان الاختيار، لكن ذلك لا يعني انه قد يحتاج ايضا لوقفة لان من مكنوا خلال تلك العقود، لازالوا يتحكمون في مفاصل الدولة واجهزتها الهامة، وبدون ابعادهم سيظل تطبيق القرار الاخير موضع شكوك عديدة. وهذا ما اشارت اليه رئيسة المكتب السياسي لحزب الامة القومي سارة نقد الله، الا انها رأت ايضا بان هذا القرار يعد اعترافا صريحا من البشير بان الانقاذ خربت الخدمة المدنية، بعد ان كانت تتميز بالنزاهة والجدية، واهدرت كفاءات البلاد وشردتهم بعد ان صرفت البلاد عليهم دم قلبها، لتأهيلهم واعدادهم لخدمتها. ورأت نقد الله «ان اعتراف الرئيس هذا يعد فضيحة بكل المقاييس، ولا يصدر عن توجه سياسي جديد، ولن ينفذ، كما لا يمكن ان يتم تنفيذه الان». ولكن ما اعلنه الرئيس البشير من ترفيع لجنة الاختيار للخدمة العامة الى مفوضية ، مؤكدا ان الخدمة المدنية تقوم على المواطنة لجهة ترسيخ مفهوم الحكم الراشد،واعلانه تحرير الخدمة المدنية من سياسة التمكين ليصبح التمكين لكافة شرائح الشعب السوداني دون محسوبية، له اكثر من دلالة لا يمكن ان تخطئها عين، والرسالة الابرز فيما اعلنه البشير تذهب الى ان وزراء الحكومة من السياسيين قد لا يستطيعون بعد الان خرق القواعد المنظمة لعملية الاختيار، او تجاوز صلاحيات الادارات المختلفة بفعل الانتماء السياسي، وهو ما كان سائدا طوال سنوات الانقاذ في السلطة، فالى اي مدى يرغب الرئيس في المضى بهذا الاتجاه، وهل يمكن التعامل مع هذا التوجه الجديد للمشير، بمعزل عن تأكيده ان لا وصاية على حزبه من اي كيان او مجموعة اخرى؟. وبمعني اوضح هل يتجه الرئيس الى التحلل من اي مرجعيات فكرية او سياسية فيما تبقى من دورته الحالية في الحكم والحزب، ام ماذا!. يقول المحلل السياسي البرفيسور حسن الساعوري ان ما يقصده البشير في ذاك القرار هو « نهاية عهد تسييس الخدمة المدنية»، وان عملية الاستيعاب في الخدمة المدنية لم تعد مرتبطة باقطاب النظام الحاكم. لكن الساعوري لا يبدو متأكدا من ان يكون هذا القرار يعبر في حقيقته عن « سياسة جديدة» او «رسالة سياسية». وبحق فانه السؤال الذي يحتاج لاجابة حتى يتبين الرأي العام هل يصدر هذا القرار بهذا التوقيت بغرض الاستهلاك المحلي ام للاستهلاك العالمي، فمحليا تبدي الحكومة رغبة واضحة في اعلان تنازلها واستعدادها الكامل في ان تتغير، لكن صدقية هذا التوجه رهينة، بحسب المحلل السياسي الساعوري، بالشروع في اعلان المعايير التي تحكم عمل المفوضية، وهل ستقتصر الحكاية فقط على اشراف المفوضية على مداخل الخدمة المدنية، ام انها ستمضي دون تأخير في غربلة صفوف الخدمة المدنية ممن دخلوها في الاعوام الماضية،دون وجه حق، ومراجعة مؤهلاتهم ومدى احقيتهم بمواقعهم. اما عالميا ،والكلام مازال للساعوري، فربما ترغب الحكومة في اقناع العالم بانها تغيرت ايضا بشدة، وانها عازمة على الابتعاد عن الإسلاميين!. ويقول المحلل السياسي ان خطاب الرئيس التلفزيوني،قبل يومين، كان يحمل رسالة واضحة الى العالم الخارجي، اكثر من كونه خطابا موجها للداخل، لافتا الى ان تلك التصريحات برغم ما اثارته من جدل، لم تعقبها قررات، وهو ما يؤكد انها للاستهلاك العالمي فقط، بعكس ما اعلنه الرئيس بانهاء التمكين لانه موجه للداخل كما يؤكد الساعوري، مشيرا لصدوره بقرار وارتباط تنفيذه بآلية هي المفوضية. الا ان الساعوري عاد ليقول «لكن مسألة ان يتحول هذا القرار الى سياسة عامة في البلاد، فيرتبط بشدة بطبيعة المهمة التي ستقوم بها المفوضية، وهل ستقدم على مراجعة كل الموجودين في الخدمة المدنية، وابعاد من لا كفاءة له، ام لا!، ورأى» ان لم تقم بذلك، فسيكون القرار. . نص نص». وحول امكانية ان تكون الخطوة الاخيرة للبشير ازاء انهاء التمكين للإسلاميين في الخدمة العامة، ذات صلة ما برسائله الموجهة للناس في الحوار التلفزيوني الاخير، وفرضية انهما يشيان معا بمناخ جديد يسود العلاقة بين المشير والإسلاميين، يقول الساعوري « الامران يعطيان انطباعا بمحاولة الرجل فك القيد من الإسلاميين»، مضيفا « ولكنا لن نتأكد من ذلك الا بعد ان تصدر قرارات سياسية في ذات الاتجاه». غير ان الساعوري لفت في هذا الاطار الى تزايد ظاهرة الاعتماد على العسكريين في مستويات الحكم المختلفة، ثم مضى الرجل ليتوقع « ظهور حاجات جديدة في مقبل الايام»، مؤكدا ان استمرار الرئيس في ذلك المسار الجديد» يعني ان البلاد ستشهد انقلابا من داخل النظام». ولا يمكن ان تعزل التوجهات الاخيرة للمشير البشير، عن التوترات التي اضحت سمة غالبة في العلاقة بين المجموعة الحاكمة، والمرجعيات التي تحتكم لها سياسات الدولة منذ التسعينات، بخاصة وان تلك المرجعيات اضحت تبدي تبرما واضحا، من عدم اعتماد المؤتمر الوطني على رؤاها، كما السابق، في الكثير من المعالجات التي تمت لقضايا بعينها، مثل المشاركة في السلطة، والتعيينات داخل الجهاز التنفيذي للدولة، وابعاد الإسلاميين من المؤتمر الوطني والاستعاضة عنهم ب « المستقطبون» في ادارة شئونه، وتتهمه بعدم المؤسسية والسماح بتفشي الجهوية والفساد في اجهزة الدولة، مبدية مخاوف واضحة من مخاطر اسقاطات تجربته في الحكم ، على مستقبل الحركة الإسلامية في السودان. فهل تأتي توجهات الرئيس البشير الاخيرة كرد فعلا على محاولات الحركة الإسلامية غسل يدها عن تجربة الانقاذ في الحكم، اما ان التوجهات تلك تستهدف ببساطة فصل جهاز الدولة عن الحزب، و ترتبط باعلان الرئيس عدم رغبته في الترشح لرئاسة المؤتمر الوطني لدورة قادمة؟. تقول شخصية قيادية في المؤتمر الوطني « فضلت حجب هويتها» ان قرار الرئيس بشأن انهاء عهد التمكين، مطبق في اجهزة الدولة منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل، وان الاعلان عن ذلك الان ، لا ينفي ان الحزب دفع هذا الاستحقاق من بين استحقاقات اخرى كثيرة بعد الانتخابات الاخيرة، واشارت الى ان اجهزة الدولة ومؤسساتها حتى ذات الطبيعة الخاصة تضم الان شبابا من مختلف الانتماءات، ولم يحكم عملية اختيارهم غير الكفاءة المطلوبة. ولم تر الشخصية القيادية بالمؤتمر الوطني في قرارات الرئيس وما اعلنه مؤخرا، ما يدعو للاستدلال على وجود أزمة بين الرئيس وحزبه،وقالت» العمل داخل المؤتمر الوطني يستمر بمؤسسية وشورى وتناغم بين الرئيس والقيادات المختلفة في كافة المستويات». وفيما يخص العلاقة بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية،اشارت الشخصية القيادية الى ان المؤتمر الوطني «اضحى بالفعل وعاء لكل اهل السودان، بكافة الوانهم»، وزادت «وهو ليس أسيراً لمعتقدات جامدة». وربما يساعد في توضيح تلك الصورة من العلاقة بين الطرفين، ما تفضل به الدكتور ربيع عبد العاطي، في ندوة امس الاول بالخرطوم، عن وجود « فجوة بين الاشواق والتطبيق»، فربيع قال تعليقا على محاضرة قدمها عبدالله زكريا ، عن الانحرافات التي اصابت الحركة الإسلامية في العالم والسودان، ان الحركة الإسلامية بدأت كأشواق منطقية اثبتت ان « الفكر الإسلامي كان يتحكم في مختلف المراحل بكل جوانب الحياة، ولكن لم يجد الإسلام مجالا للتطبيق في العالم»، واضاف مستشار وزير الاعلام « اما بالنسبة الى السودان فقد صاحبته معوقات كثيرة حتى يتم التوصل لهذه الاشواق»، ومضى ربيع عبد العاطي ليقول « وقيادات البلد يؤمنون بصورة قاطعة ان هناك فجوة بين الاشواق، التي يجب ان تكون منطقية، وبين التطبيق خلال العشرين عاما الماضية».