تلقيت أمس، عشرات المحادثات والرسائل غالبيتها من صحفيين ومهتمين بالمهنة وخبراء وقانونيين حول وضع الحريات الصحفية بعد ما أطلعوا على تعليق دبلوماسيين أجانب،والتقرير الأخير الذي اصدرته جماعة "مراسلون بلاد حدود" الذي حوى رصدا لواقع الصحافة في 177 دولة في العالم، وجاء السودان في المركز 170. تباينت مواقف من اتصلوا تجاه القضية من زوايا مختلفة لكنهم يتفقون في أن تقييم الحريات لن يكون مكتملا في حال لم يشمل ذلك البيئة السياسية والقانونية المرتبطة بالتشريعات، ثم ممارسة الجهات الرسمية المعنية التي تتعامل مع الصحف، والقيود العملية والخطوط الحمراء التي تحددها السلطات بجانب التأثير المباشر وغير المباشر على الصحف سواء عبر الدعم وأساليب الترغيب والترهيب ضمنا وتصريحا،ويرون أن تلك العناصر محددات للعمل الصحفي. وينبغي أن تكون أكثر الجهات والمؤسسات حساسية تجاه الحريات الصحفية هي الجهات القانونية والعدلية باعتبار أن التقارير الاقليمية والدولية عن حرية النشر تؤثر بصورة مباشرة على صورة البلاد،وأن تلك الجهات مطلوب منها بحكم مسؤوليتها الرد على التقارير السالبة،ولكن يبدو أن وزارة العدل في وادٍ مختلف وتعيش في عالمها الخاص. ما حملني على هذا الاعتقاد هو القرار الذي أصدره محمد أحمد على الغالي رئيس الإدارة القانونية بولاية الجزيرة بتأسيس نيابة جنائية متخصصة للصحافة والمطبوعات بولاية الجزيرة بناءً على أمر التأسيس رقم 2 لسنة 2012م الصادر من وزير العدل، وحدد قرار وزير العدل اختصاصات وكالة نيابة الصحافة والمطبوعات بولاية الجزيرة بمباشرة كافة السلطات المخولة للنيابة الجنائية الواردة في قانون الاجراءات الجنائية لعام 1991م، وكذلك أية سلطات يخولها أي قانون آخر له صلة بإختصاصها وذلك في جرائم النشر والمطبوعات الواردة في قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2004م، والقانون الجنائي لسنة 1991م، وأي قانون آخر ذي صلة وكذلك الأفعال التي تشكل جرائم أخرى إذا كانت مرتبطة إرتباطاً لا يقبل التجزئة لما يدخل في إختصاصها وذلك حسب ما ورد في وكالة السودان للأنباء. ما يلاحظه أي مبتدىء في القانون ثلاثة أمور، الأول أن قرار وزير العدل خالف قانون الصحافة الذي حدد انشاء نيابة واحدة للصحافة،وأمر تأسيس نيابة الصحافة والمطبوعات وكان يمكن للوزير اصدار قراره، بعد الغاء أمر تأسيس النيابة حتى يتيح لكل الولايات أن تحذو حذو ولاية الجزيرة،كما أن اختصاص النيابة الجديدة حسب القرار استند على قانون الصحافة للعام 2004،وهو قانون غير سارٍ؛ لأنه ألغي، والقانون الحالي هو قانون الصحافة للعام 1999،ويبدو أن وزارة العدل لا تدري ذلك ،وأخيرا هناك سابقة اتخذها وزير العدل السابق عبد الباسط سبدرات في العام 2003،والمدعي العام السابق صلاح أبوزيد بتركيز نيابات الصحافة والنشر بالخرطوم باعتبارها مكان النشر. هذا في ما يتصل بالقانون ،أما المنطق الذي تدفع به وزارة العدل في أنها تراعى مصلحة الشاكي سواء كان مواطنا أو مؤسسة حكومية أو أية جهة رسمية، والمتهم "الصحف"،هذا حديث حق أريد به باطل،فهل شكا اي مواطن لوزارة العدل من أنه يجد عنتا ومشقة،ومن أين توفر النيابات أموالا لترحيل رؤساء التحرير والصحفيين الى الجنينة أو مدني أو بورتسودان أو غيرها للتحري معهم هناك، وهل للنيابات ميزانيات لتسيير عملها ..؟ لا أشك ولكني متيقن أن النيابات ليس لديها الامكانات التي تمكنها من ذلك، لذا سيتولي الولاية والمسؤولون المتحمسون للخطوة نفقات "الترحيل الاجباري". الحقيقة التي لا تريد وزارة العدل الجهر بها أن هناك مسؤولين وبعض الولاة يريدون تخويف الصحفيين بالبهدلة والجرجرة وارهابهم باقتيادهم مخفورين الى الولايات ،وقد حاول بعضهم ذلك خلال المرحلة السابقة ولكنهم لم يستطيعوا تطويع القانون لصالحهم ولم توافقهم نيابة الصحف في الخرطوم على أهوائهم. نرجو أن تراجع وزارة العدل قرارها،وأن لا تستجيب لرغبات بعض الولاة الذين يخشون الكلمة الحرة والنقد وكشف سوءاتهم، فيسعون الى تكميم الأفواه،وقمع الصحفيين ولكن بالقانون كما قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، عندما خرجت تظاهرة ضده فألقى كلمة عبر الاذاعة متوعدا مناهضيه "سنفرمهم ولكن بالقانون"،أخي الوزير دوسة .. سبدرات وصلاح أبوزيد لم يفت عليهما منطقكم، وكانا يراعيان مصلحة الشاكي والمتهم، ويفهمان القانون روحا ونصا،ولا تعوزهما الخبرة وحسن التقدير.