تصريحات عقار .. هذا الضفدع من ذاك الورل    طموح خليجي لزيادة مداخيل السياحة عبر «التأشيرة الموحدة»    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    عزمي عبد الرازق يكتب: قاعدة روسية على الساحل السوداني.. حقيقة أم مناورة سياسية؟    الحلو والمؤتمر السوداني: التأكيد على التزام الطرفين بمبدأ ثورة ديسمبر المجيدة    هلالاب جدة قلة قليلة..لا يقرعوا الطبل خلف فنان واحد !!    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    عقار يلتقي وفد المحليات الشرقية بولاية جنوب كردفان    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    (شن جاب لي جاب وشن بلم القمري مع السنبر)    شائعة وفاة كسلا انطلقت من اسمرا    اكتمال الترتيبات لبدء امتحانات الشهادة الابتدائية بنهر النيل بالسبت    كيف جمع محمد صلاح ثروته؟    اختيار سبعة لاعبين من الدوريات الخارجية لمنتخب الشباب – من هم؟    حكم بالسجن وحرمان من النشاط الكروي بحق لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    شاهد بالفيديو.. القائد الميداني لقوات الدعم السريع ياجوج وماجوج يفجر المفاجأت: (نحنا بعد دا عرفنا أي حاجة.. الجيش ما بنتهي وقوات الشعب المسلحة ستظل كما هي)    المريخ السوداني يوافق على المشاركة في الدوري الموريتاني    شاهد بالفيديو.. مستشار حميدتي يبكي ويذرف الدموع على الهواء مباشرة: (يجب أن ندعم ونساند قواتنا المسلحة والمؤتمرات دي كلها كلام فارغ ولن تجلب لنا السلام) وساخرون: (تبكي بس)    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني أبو رهف يلتقي بحسناء "دعامية" فائقة الجمال ويطلب منها الزواج والحسناء تتجاوب معه بالضحكات وتوافق على طلبه: (العرس بعد خالي حميدتي يجيب الديمقراطية)    شاهد بالفيديو.. بصوت جميل وطروب وفي استراحة محارب.. أفراد من القوات المشتركة بمدينة الفاشر يغنون رائعة الفنان الكبير أبو عركي البخيت (بوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبة) مستخدمين آلة الربابة    مصر ترفع سعر الخبز المدعوم لأول مرة منذ 30 عاما    السلطات السعودية تحذر من نقل أو ايواء مخالفي انظمة الحج    هكذا قتلت قاسم سليماني    الكعبي يقود أولمبياكوس لقتل فيورنتينا وحصد لقب دوري المؤتمر    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني في السوق الموازي ليوم الأربعاء    خبير سوداني يحاضر في وكالة الأنباء الليبية عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإعلام    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    الموساد هدد المدعية السابقة للجنائية الدولية لتتخلى عن التحقيق في جرائم حرب    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    السعودية: وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    والي ولاية البحر الأحمر يشهد حملة النظافة الكبرى لسوق مدينة بورتسودان بمشاركة القوات المشتركة    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يترأس اجتماع هيئة قيادة شرطة الولاية    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    بيومي فؤاد يخسر الرهان    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صلاح أحمد ابراهيم يرد على عمر مصطفى المكي
أوراق خضراء : الصحافة تفتح الملفات القديمة صلاح أحمد ابراهيم و عمر مصطفى المكي وجها
نشر في الصحافة يوم 23 - 02 - 2012

رسمت المساجلات الصحفية لنفسها طريقا فارقا في العقود الماضية من تاريخنا المهني، فقد كانت ملح الأوراق في بلاط صاحبة الجلالة الملكي، وزاد المجالس الانيقة في ارجاء البلاد، ومعين الفكر والمتعة وحسن الذوق الذي لا ينضب لجمهور القراء، والمتبتلين العاشقين لمحاسن الكلم. ولما كانت ستينيات القرن الماضي من أزهى حقب الفكر والكتابة، لانها شهدت اصطراع تيارات سياسية وفكرية وثقافية مختلفة في المشهد السوداني، فقد افرزت اقلام عملاقة وعقول حرة تحلق في السموات دون حتى قيود دنيوية. ومن اشهر تلك الاقلام التي تساجلت فكريا على صفحات جريدة « الصحافة» في اواخر الستينيات الراحلين صلاح احمد ابراهيم وعمر مصطفى المكي. وتعيد الصحيفة نشرها اثراءً للساحة الفكرية والصحفية.
وفيما يلي تنشر «الصحافة» الحلقة الاخيرة من ردود الراحل صلاح احمد ابراهيم على ما خطه الراحل عمر مصطفى المكى.
1- عمر وحديث الإفك
الآن حصحص الحق. والحق كما قيل ابلج والباطل لجلج. يقول كونفشيوس «الرجل الشريف يهتم بشخصيته والرجل الوضيع يهتم بوضعيته. الرجل الشريف يصبو للعدالة ، والرجل الوضيع يصبو للوصول. الظربان ينم عن افرازه. كما ان طيب الورد مؤذ بالجعل لقد حسب عمر مصطفى المكي. والعقرب التي من وراء خادمتها الخنفساء ان سيلا عارماً متتالياً من الشتائم والافتراءات بامكانه ان ينال من شخصي الضعيف او يضعف من حجتي القوية، لقد حسب عمر مصطفى المكي والذين من وراء عمر مصطفى المكي ان الارعاد والارزام وخوار العجول الهائجة بامكانها ان تخرس لسان الحق وتطفيء قبس الحقيقة. وتقطع أصبع الاتهام.
نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا
ولم يهن بيد التشتيت غالينا
ولا يحول لنا صبغ ولا خلق
إذا تلون كالحرباء شانينا
«شوقي»
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار في ما جاورت
ما كان يعرف طيب نفح العود
«أبو تمام»
يؤسفني أنني اضطررت للخوض في أشياء جد شخصية دفاعاً عن شخصي، وأجبرت على رد الإساءة بإساءة مثلها دون التورط في ما ينفر منه الذوق السليم والعرف المراعى. لقد تكسرت النصال الجديدة على النصال القديمة، فعرفت أن ما لا يقتلني يقويني. والآن وقد رددت عن نفسي الهجوم العارم العقور الذي أريد به إفحام حجتي لا بالدفع المنطقي، ولكن باثارة الضوضاء وحشو التراب والارجاف المبين. أود أن اقول كلمة عن الانتهازية داخل الحزب الشيوعي السوداني.
وحين أقول إن ثمة انتهازية في قيادة الحزب الشيوعي السوداني فليس معنى هذا إن كل قادته انتهازيون. وبعيداً جداً عن هذا بين قادته من أكن له عميق الاحترام أو عميق الحب واثق ثقة كاملة بأنه ابن مخلص من أبناء هذا الشعب طاهر كتراب الوطن نقي كهواء الوطن مفيد كماء الوطن بغض النظر عن موقفه مني أو رأيه في. على أن الانتهازية تستوجب نضالاً حازماً حاسماً لفضحها وصراعاً حزبياً قوياً لدحضها وتماسكاً طبقياً وإقداماً ثورياً من جميع الذين يعنيهم الأمر. وينبغي أن يتم هذا الآن قبل الغد، ولذلك وقفت في الناصية أخطب وأخاطب وأنصح نصحي بمنعرج اللوى.
لنسأل أنفسنا هذا السؤال الواضح: لماذا ينزف الحزب الشيوعي نفراً من خيرة أبنائه بهذا الاستمرار الوئيد المهلك مهما كانت الاعذار؟ لماذا يتحول نفر من خيرة القابضين على جمر الدعوة الاشتراكية إلى أعداء له يوماً عن يوم؟ لماذا يفقد الحزب أصدقاءه بين فترة وأخرى ويجعل الآخرين يحجمون عن الانضواء تحته ومبايعته بيعة كلية، فاذا بالحركة الاشتراكية مصابة بفقر الدم على الدوام. شاحبة وضامرة ومتراعشة تفقد بمقدار ما تكسب وهي وقد وضح لكل ذي عينين عجز القيادات السياسية الأخرى عن إحداث الانطلاقة المرجوة من قيادة الشعب بمنهاج واضح الى غاية واضحة بمنهجية واضحة على أقصر الطرق واسلمها تبرهن عن عجز لا يقل عن عجز تلك القيادات وتخفق عن إحداث كسوف ولو جزئي لها، وتفشل في اجتذاب اعداد متصاعدة من الاهلين نحو مركزها المتوثب. وقيادة الحزب مع ذلك تختلق المبررات والمعايير وتتمحك بشتى الاعذار وتقدم صورة وردية بأن كل شيء سائر على حسب الخطة الموضوعة، وإن ليس في الإمكان ابدع مما كان، وتلقي اللوم على من اضطرتهم ملابسات الحزب الى مغادرته، تلقيه عليهم فرادى وكأنهم حالات فردية كل حالة على حدة، لا ظاهرة ينبغي الاهتمام بها واخذها بجدية وتشخيصها في صراحة ومعالجتها بحزم.
حتى أصاب الحزب الضمور وكاد يفنيه الهزال، لولا ان تداركته رحمة من ثورة أكتوبر «العضوية في عطبرة؟؟» وبدلاً من أن يتفكر الحزب ويتدبر ما آل اليه من حال، اغتبط بانتفاخه المفاجئ نتيجة العلنية بعضوية سليقة يعوزها الحد الأدنى من الالمام بأبجديات الماركسية، بل يعوزها في حالات كثيرة القدر الضروري من الادراك السياسي العام والانضباط الحزبي والسلوكي، وصار الحزب اسوأ حالاً بتوسعه الجديد الذي الذي لا يخلو من عناصر المجاملة والاستلطاف والمحاباة، إذ صارت هذه العضوية الجديدة تشارك مشاركة كاملة في حياته الداخلية، وهي ترزح تحت عبء جهلها وضعفها، وتسهم في تسييره بكافة حقوق العضوية الكاملة، ولكن بغير المستوى السياسي اللازم، فصار من السهل تسييرها هي إلى حيث لا تدري، وهي مغتبطة ومتحمسة، وصار ولاؤها للزعيم «الذي تفرغ هو وحلقته لبناء شخصيته الزعامية وربط الناس بشخصه الكريم لا بالحزب تماماً، كما هو حادث مع الأحزاب التقليدية» أكثر مما هو الحزب.
إن ظاهرة خروج أعضاء من التنظيم الشيوعي شيء طبيعي كظاهرة الانضمام اليه، وكما هو الحال مع كل كائن حي تموت خلايا وتنشأ أخرى. وهذا أمر ينبغي ألا يتناول بأسى لأنه سنة التطور، لأنه أمر جدلي. ولكن أن يستحيل خروج أفضل المنظمين المدربين الى انسياب مستديم، أن يصيروا طعاماً للطير بعد أن «لبنوا».. فهذا أمر ينبغي التدبر فيه بقلق، لا سيما إذا صحب هذا الانسياب انقلاب إلى عداء للحزب أو في أحسن الحالات إلى نفور وتلاحي لأنه عندئذٍ لن يكون مجرد أمر عادي، مجرد تحول طبيعي في فرد من الافراد، نتيجة عجز أو تخلف او جنوح، بل ينم عن وجود خلل في صمام من صمامات الحزب، أو وجود ثقب في مجرى من مجاريه، مما ينبغي أن ينبه الأعضاء المخلصين ويحرك ريبتهم، وبالأخص حينما يكون أولئك الذين تركوا الحزب أو أخذوا يضمرون له الكراهية والشحناء من الذين لم ينضب معينهم الثوري ولم يذهب ولاؤهم للقضية ولا استعدادهم لخدمتها. بالطبع هناك دائماً إمكانية أن يكمم اي ضد من خارج الحزب بارهاب أو ابتزاز او مشابه ذلك من ضغط مادي او معنوي، وكل مجموعة تحاول حماية نفسها على نحو ما، وهناك دائماً امكانية احباط اي نقد مهما كان أميناً ومخلصاً ومحقاً بما لدى الحزب من امكانيات لا تتيسر للناقد، وهناك دائماً امكانية إخراس النقد بتسميته «هجوماً» وبنعته بأنه «خطة مكشوفة» و«مؤامرة مبيتة» وانه حلقة في سلسلة وجانب من مخطط، او باغراقه بضجيج العمل، او بمحاولة خنقه بأمراس من الصمت، او باحراجه بأن «ليس هذا وقته» وأن الرجعية تستفيد منه وتستغله على أن هذا كله اجراء وقتي، وهو على اية حال ليس بالاجراء السليم، وسينتقم فيما بعد مثل هذا الاجراء الوقتي المريح ممن التجأ اليه، ككل اجراء مريح في وقته فقط، ولم يقصد منه العلاج بل تأجيل العلاج، وبعض العلاج إذا تأجل يودي بالأجل والازمة اذا ازمت استوطنت وهكذا.
إن مقالات عمر مصطفى المكي صورة طبق الأصل من محضر إحدى جلسات الحزب حين يكون اسم عضو شاء له حظه العاثر أن يكون في جدول المحاسبة. إنه لأسهل ألف مرة لذلك العضو ان يستخدي من أول تهمة لديه، وأن يصيح في ضراعة: كفى بالله عليك.
انني على استعداد للتوقيع على أية وثيقة والاعتراف باية تهمة ولكن كفى تعذيباً، كفى إرهاقاً لأعصابي، كفى تشهيراً.. اتركوني وحالي.. اتركوني.. اتركوني، والرفيق المسؤول واقف بيده السوط وكأنه الشيخ الجبار يطرد الروح الشريرة من البدن المسكون ويستل الشيطان استلالاً بالتسعيط والكي وحرقه باللعنات واسم الجلالة.. هناك دائماً تهمة حاضرة، وشاهد حاضر هو نفسه شريك في التهمة ولكنه انقلب إلى «شاهد ملك فصار بطلاً». ليست الوقائع هي المهمة فكم من وقائع لم يؤبه لها لأنه لا قيمة عملية لها، لا لأنها غير واقعة، وليست القيم الأخلاقية هي المنطق بل القيم الذرائعية. فجاسوسية صلاح وعمالته أي خيانته للوطن لم يتعرض لها عمر مصطفى قبل الآن لا لأنها لم تكن معروفة منذ سنة 0691م، ولكن مجاملة لفلان أو علان، كما ذكر هو بنفسه. بالله ومنذ متى كان بالإمكان الإغضاء عن الجاسوسية والعمالة والخيانة من أجل خاطر هذا أو ذاك. والذي «رفع التقرير» عن جاسوسية صلاح وعمالته «وطني نظيف» لأنه ليس صلاحاً ولأنه لا مصلحة لعمر في تلويثه ومهاجمته الآن على الأقل.. وهناك في قيادة الحزب من تعرف كثرة من الناس جنوحه المعربد ولكن هذا الجنوح يستر ستراً وينكر إنكاراً ويغضي عنه ويرضى لأنه جنوح أبناء المصارين البيض.. هذا ما سميته بازدواجية المعيار الخلقي وما سميته بالرياء وهما اسم على مسمى.
ولماذا هذا الوضع الشاذ؟ يقول لينين إن جدية حزب نحو قضيته تتضح في موقفه من النقد والنقد الذاتي. ولكن الحزب الشيوعي السوداني يتغنى بالنقد والنقد الذاتي في كل كتاباته ولكنه لا يمارسها كما ينبغي. والتطبيق والقدوة هما دائماً المحك. وينبغي الا يجفل الحزب او العضو من ممارسة هذه الفضيلة والحض عليها لأنه بها وحدها يستطيع ان يفضح جنوح انتهازي، ولأنه بها وحدها يستطيع ان يطهر ويتقوى.
لقد تحدث عمر مصطفى عن «تجاهله» لاستفسار متواضع تقدمت به للحزب في خطاب خاص حول الحملة التي وجهها لي صحافيوه وعن «تماديهم في التجاهل» في خطاب عززت به الأول، لأنهم كما زعم اشتموا منهما أنني كنت أبحث عن ذريعة لشن هجوم على الحزب. ولكن هل من يريد شن هجوم على الحزب بحاجة الى ذريعة او اصطبار كاصطباري؟ إن الذريعة التي كنت أبحث عنها تحول بيني وبين معاداة الحزب، ذريعة اتسلى بها عن إهانته لي، ذريعة تفرغ مني المرارة التي أحس بها إزاء ما اقتنعت بأنه أساليب غير كريمة ولا تليق بحزب طليعي ينافح عن قضية نبيلة، بل انبل قضية عرفها تاريخ البشرية، الا وهي تحرير الإنسان ورد كرامته اليه باعتبار ان «الانسان أثمن رأسمال»، وهي مقولة ما كان أجدر بمن نيطت بهم مسؤولية قيادة هذه السفينة الرائدة اعتبارها.
وكان عمر في مقالاته يتحدث بفردية ممعنة: وكقائد لرابطة الطلبة الشيوعيين فعلت كيت وكيت.. وفي موقف كذا فعلت كذا.. وأخرج لي أبارزك يا صلاح.. ولقد فررت مني أنا شخصياً لأنك جبان أخافك أبو عرام مصطفى المكي لأنه فتوة الحزب وهكذا وهكذا.. ولم يتحمس عمر للرد على إلا لأنني أشرت إليه في مقالته وهو يعتبر نفسه محور الكون ومركز المجموعة الشمسية، وتراه ينفخ أوداجه في تعال وتنطع، والذي يعتبر انه هو الحزب، يعامل مواقفه الشخصية كما لو انها مواقف حزبية، ويستغل اسم الحزب في مغامرات ومغامرات صحابه في غنى عنها، فالحزب جماعي بطبيعته يقود طبقة صفتها الجماعية المجتمع جماعي. لذا ينبغي على الشيوعي، ومن هو في مركز المسؤولية منه بصفة خاصة، أن يخلع كل فضائله الشخصية على الحزب، وأن يناضل بضراوة واستبسال وتفانٍ ضد نواقصه وسلبياته باعتبارها طابوراً خامساً مضراً بالحزب وبه كحزبي، باعتبارها رواسب طبقية غريبة على الطبقة العاملة التي اختار الانتماء اليها، وعلى رأس قائمة تلك الرواسب الطبقية الغريبة ما يمكن إجماله في كلمة واحدة هي «الفردية» لأنها تقف ضد المزيد من الاندغام في الجماعة والفناء فيها.. لأنها لا تؤكد الجماعة ولا الجماعية، بل تبحث عن نعيم الفرد وحده، وعن نعومة نفسيته وبها انتقادي للرفيق راشد.
قد يكون الرفيق راشد رجلاً ممتازاً ونادر المثال بالمقاييس الفردية الضيقة أو في ظروف أخرى. ولكنه بالتأكيد فاشل كممثل للطبقة العاملة وكمرشد لها لأن فرديته كمثقف وكبرجوازي صغير أكبر من جنوحه الوجداني نحو طبقته المتبناة، إن علاقته بطبقته الجديدة ليست علاقة عاطفة أصيلة وانتماء روحي عميق، بل علاقة استعارة وتقمص فكري ليست علاقة جنس ولكن علاقة تجنس، وهي بذلك علاقة تنهار لدى اول امتحان حقيقي يهبش «اشياءه» الطبقية في اللحم الحي. فمتى ما قال قائد حركة شيوعية «هذه حياتي الخاصة ولا دخل لرفاقي او للحزب بها تكشف كبرجوازي صغير.. وحقير لأنه منافق.. منافق لأنه ظل يتصرف بكل عنجهية واستبداد بمصائر شباب يقذف بهم هنا وهناك باسم الحزب وباسم التضحية وباسم القضية الاشتراكية، يطلب من هذا بكل غلظة أن يضحي بتعليمه او بوظيفته او بمستقبله المهني، ومن ذاك بكل فظاظة ان يضحي باسرته وان يخاصمها ويقاطعها، ومن آخر بكل استهتار ان يضحي بشبابه وبصحته.. ومن رابع بكل لا مبالاة ان يهب حياته وروحه ودمه العزيز، ولكنه وهو الذي كان لسانه فلقة يسقط سقوطاً مشيناً وفي غير لباقة او رشاقة لدى اول اختبار بسيط مقدماً عواطفه الفردية على عواطفه الحزبية، وراحته الخاصة على راحة الحزب. فأنانية البرجوازي الصغير تتضح في ثنائية المكيال وفي ازدواج الوجه، فهو غفور رحيم لنفسه وشديد العذاب لسواه.. انني افكر بتضحيات الآخرين وبلعنة الفراعنة التي حاقت بهم.. افكر بالنفس الزكية المهراقة، «وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت» وبأسماء كواكب هوت ونيازك انطأفت، لأن المقياس الأول لا الثاني طبق عليهم، لأن أعناقهم أحاطت بها الكماشة الفولاذية لا السلسلة الذهبية. أين الجنيد علي عمر وقاسم أمين والأمين حاج الشيخ وخليل نصر الدين وشيبون وكثيرون كثيرون يلعقون جراحهم في صمت مرير وفي سكوت مطبق.
فلا غرابة إذن ومن منطلق الفردية الانتهازي هذا أن قرأنا في تقديم «الميدان» لقادة الحزب إبان الحملة الانتخابية الاولى، أن «الحزب هو عبد الخالق وعبد الخالق هو الحزب» الله الله! ولا غرابة أن يشعر الحزب بالعجز أمام جنوح قائده وجموحه، ويكون سؤال الأعضاء في استسلام وعجز وتعجيز هذا السؤال الشاذ «ولكن ما البديل؟» البديل لماذا يا أساتذة؟ والبديل للانتهازية هو طرحها على وجهها هو كنسها الى قمامة التاريخ. البديل للانتهازية هو تصفية الانتهازية لا تحديد الخلف أولاً.. وإذا عجز الحزب عن تسيير نفسه بغير زعيمه الحالي فهو سبب كافٍ بحد ذاته لازاحة زعيمه الحالي.. واذا كانت لجنة مركزية بغضها وغضيضها لا تستطيع أن تفكر وتبتكر وتقود وتنفذ بغير واحدها الصمداني وبغير زعيمها الأوحد، فهي لجنة مركزية بحاجة عاجلة برمتها الى بديل، واذا كان الحزب عاقراً إلى هذا الحد فابك يا عيني على الحزب وعلى حوائه.
الانتهازية التي في قيادة الحزب انتهازية الاتكال.. الانتهازية التي تحتاج إلى مثقف يقوم لها بالتفكير والقراءة والكتابة والاتصالات.. والاستثمارات على أن توفر له ولشيعته كل أسباب الراحة..
ومن هذه ستر العيوب وملء الجيوب والملاينة والاغضاء عن التسلط والتصرف الفردي باسم الحزب وإضفاء اسم الحزب على القيادة وحدها لا على مجموعة العضوية من اصغر صغير حتى أكبر كبير، وخلع صفة القدسية على «ناس فوق» وناس «الخرطوم»، وعلى المحترفين الذين لم يشربوا من ماء ترعة او بئر. ولم يغبروا أقدامهم قط بتراب الريف والقرية، ولم يستظلوا بكرنك او قطية، ولم يعايشوا الناس البسطاء فيجدون لذة ما بعدها لذة في مشاركة هؤلاء افراحهم المتواضعة ومسراتهم الزهيدة واوجاعهم العديدة.. المحترفين الذين انفصلوا عن حياة من يمثلون ومن يقودون وأصبحت كل صلتهم بهم عن طريق الورق والقرطاس.
وقد أجد فرصة أوسع لتحليل مصادر عبقرية الرفيق راشد الفكرية، ومن أين له هذه الابتكارات والمبادرات حتى قال عضو قيادي في الحزب «كلما حصلنا على معرفة اكبر وجدناه اعرف منا، وكل ما شحذنا ذكاءنا وجدناه اذكى»... لماذا؟
والمجال لا يتسع للرد على هذا السؤال، ولكن المعرفة الحقيقية تعطي صاحبها نوعاً من التماسك الخلقي في ما يتعلق بالمعرفة نفسها على الاقل، وهناك علامات استفهام يمكن أن تكون مبتدأ بحث لباحث.. فالحزب الشيوعي لا كما يشاع لم يكونه عبد الخالق الذي أُشيع ايضا أنه خالق قاسم والشفيع، ولكن عبد الخالق الذي هو نتيجة عناية مركزة وانتقاء حصيف من الحركة المصرية «حدتو» وبصفة خاصة من «هنري كوريييل» قائدها الصهيوني جاء الى السودان، وفي السودان حزب شيوعي قائم له لجنة مركزية وامين عام. لست بالشخص الذي يحق له أن يتحدث في هذا الموضوع، ولقد جاء الوقت ببناة الحزب الشيوعي الاوائل ان يقولوا لنا الحقيقة بشجاعة.. ومع ذلك من حق عبد الخالق علينا أن نقول إن له فضلاً كبيراً لعمله وإثبات ماله وما عليه بعد تحطيم صنمه وبعد إعادته إلى حجمه الطبيعي.
حين ذكر عبد الخالق ل «الاضواء» قائمة بما كتب لاحظت انه نسى ذكر اسم الجنيد علي عمر بازاء كتاب هو ثمرة جهد مشترك، والجنيد الآن بحاجة شديدة الى التقدير. اما ان يقول عبد الخالق لاحد اصدقائه الاستاذ «ع» بأن نضال الجنيد لم يعد ان يكون «مجرد مشي متواصل على قدميه» او شيء بهذا المعنى، فهو اشبه بتعليقات عبد الخالق السوداوية وفيها جحود ايما جحود..
ولاحظت أنه لم يذكر بتاتا المدارس الاشتراكية في افريقيا»، وصلب هذا الكتاب مستمد من جهد باسل ديفيدسون كما المعت مراراً.
وبما اني في معرض الامانة الفكرية واعتماد عبقرية عبد الخالق على الانفراد بمصادر الهامه واخفائها بمكر لكي يتفرد بالالهام، اذكر ان كتب «ليو شاوشي» حول الصراع الحزبي الداخلي وحول التطبيق وحول كيف تكون شيوعياً ممتازاً، لم تكن معروفة لدى اعضاء الحزب، حتى حدث انقسام 2591م، وإذا بها وفي ظرف جد وجيز تظهر بكميات وفيرة في ايدي الرفاق لكي يتقووا بها على الانقسام.. أين كانت؟ علماً بأنه كان من المستحيل جلبها من الخارج بتلك السرعة نظراً لأحوال الأمن والأمان عندئذٍ.
وأنني لأتذكر كيف كان عبد الخالق ينفرد بكتب النقد الادبي وعلم الجمال الماركسية كأنها ملكه الخاص، وكيف كان لا يتكرم بها الا تكرما وفي ساعات الصفاء، ولكي ترد على وجه السرعة.. انني لأتذكر كيف أخذ يتلذذ بتعذيبي وهو يقرأ لي من ديوان شعر ناظم حكمت وهي أول مرة اشاهد فيها الديوان، ثم كيف أعارنيه على أن ارده له على وجه السرعة، وهو يشعرني بالامتنان له شخصياً لا للحزب الذي يمول شراء هذه الكتب ليأتي عبد الخالق فيحتكر كل ما هو طريف منها ريثما يترجمه أو ريثما يستعرض به. والحمد لله انتهى العهد الذي لم تكن تأتي فيه هذه الكتب إلا فرادى ولم يكن يسمع بها إلا سمعاً.. وتلاحقت الكتوف وأصبح الحشاش يملأ شبكته.
32 سبتمبر 8691
رقم العدد 6171


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.